بقيت جالسة بالقرب من الطفل،
حتى جاء مساء، حتى جاء الليل،
حتى جاء الفجر ...
وتفعل جروشا ما يقوله المنشد، وتحتضن الطفل ...
لعلنا قد لاحظنا من هذا العرض السريع أن دائرة الطباشير القوقازية من أفضل الأمثلة على المسرح الملحمي وإمكانياته المتميزة في الشكل والتعبير. وإذا كانت قد أتاحت لنا أن نوضح الأفكار التي أجملناها على الصفحات السابقة، فلا بد أن نؤكد في النهاية أن المسرح الملحمي والمسرح غير الأرسطي ليسا بالضرورة وفي كل الأحوال شيئا واحدا؛ فالخروج على قواعد الدراما الأرسطية (من تطبيق للأحداث الثلاثة المشهورة - الموضوع والزمان والمكان - وتطور الحدث على أساس علي ومنطقي، وتشابك المشاهد وتداخلها، والصراع والحل ... إلخ) وتوافر بعض الظواهر والعناصر في المسرحية الحديثة (كامتداد الحدث في المكان والزمان، والتحرر من الترابط العلي، وخضوع المشاهد لمبدأ التجاور الذي يجعل منها وحدات مستقلة، والحديث المباشر من الممثل للجمهور، واللجوء إلى الاستهلاك (البرولوج) والتعقيب (الأبيلوج) والاستعانة بالتمثيل الصامت والغناء والرقص والموسيقى وأسلوب المسرح في المسرح، واستخدام الأقنعة واللافتات ومكبرات الصوت والفانوس السحري والعرائس وألعاب السيرك والتهريج والأكروبات وصندوق الدنيا، إلى آخر أساليب «الإغراب» وتبديد الإيهام وإبراز طابع العرض التمثيلي الخالص) كل هذه الظواهر والعناصر لا تكفي وحدها لكي تجعل المسرح ملحميا؛ فمن الضروري أن يتحقق عنصر التأمل في الحدث من جانب «الأنا الملحمية»، سواء في صورة الراوية (كما نجد في بعض أعمال برشت وكلوديل ووايلدر) أو في صورة تأمل باطني يتمثل في الحلم أو التذكر أو التعليق أو الأمثولة. والمهم بعد كل شيء أن ينطلق من وجهة نظر فكرية موحدة، دينية كانت أو سياسية أو تاريخية أو مذهبية، تعبر عن رؤية شاملة ودرجة عالية من الموضوعية التي تتميز بها الملحمة، أضف إلى هذا كله أن دائرة الطباشير لا تمثل الشكل الوحيد للمسرح الملحمي؛ فهناك مسرح كلوديل الديني، وهناك جيل الكتاب الذين تأثروا بأسلوب برشت الفني وخالفوا مذهبه الفكري وتخلوا عن رغبته في تعليم المتفرج وإيمانه بإمكان تغيير العالم وفهمه، مثل ماكس فريش وديرنمات ومارتن فالزر وبيتر فايس وغيرهم، بجانب ظواهر ملحمية عديدة تقابلنا في المسرح الشعري (لوركا وشحاده وفراي) ومسرح اللامعقول (يونسكو وآداموف) ومسرح بيكيت، وظواهر غير مكتملة عند وايلدر وتنسي وليامز وآرثر ميلر وغيرهم فضلا عن تجارب أخرى أخذت تشق طريقها في السنوات الأخيرة. وهناك أخيرا لمحات لا تخفى من تأثيره على بعض أعمال كتابنا المصريين وإخوتهم في البلاد العربية الشقيقة، أذكر منها - على سبيل المثال لا الحصر - ليالي الحصاد وباب الفتوح لمحمود دياب، والفرافير ليوسف إدريس، وحفلة سمر ورأس المملوك جابر لسعد الله ونوس، ومقامات الهمذاني للطيب صديقي (وقد سمعت عنها ولم يتح لي للأسف أن أقرأها أو أشاهدها على المسرح) وبعد أن يموت الملك لصلاح عبد الصبور، ومحاكمة رجل مجهول لعز الدين إسماعيل، وآه يا ليل يا قمر لنجيب سرور، وبلدي يا بلدي لرشاد رشدي، وليلة مصرع جيفارا للمرحوم ميخائيل رومان، وأيوب وحبظلم بظاظا لفاروق خورشيد، وسليمان الحلبي لألفريد فرج، ويا سلام سلم الحيطة بتتكلم لسعد الدين وهبة، والموت والمدنية وثوب الإمبراطور ومسرحيات أخرى لم تنشر لكاتب السطور، إلى غير ذلك من الأعمال التي يختلف حظها من النجاح كما يتفاوت أصحابها في فهم طبيعة المسرح الملحمي وشكله والضرورة الفنية والفكرية التي تدعو لكتابته ...
ولكن هذا موضوع آخر، ربما أرجع إليه في مجال أوسع، إن شاءت رحمة الله أن تمد في خيط العمر، وتصون النور في شمعة العين ...
إشارات (1)
راجع للسيدة ماريانة كستنج - وهي من أهم دارسي المسرح الحديث - كتابها القيم عن المسرح الملحمي، وقد ظهر في سلسلة كتب أوربان، بدار النشر كولهامر، الطبعة الثانية، 1959م. وارجع إن شئت أيضا إلى مقدمة كاتب السطور لمسرحيتي الاستثناء والقاعدة ومحاكمة لوكولوس لبرشت، سلسلة مسرحيات عالمية، العدد السادس، الدار القومية للطباعة والنشر، 1965م، ص22 وما بعدها. (2)
جوتس فون برليشنجن ذو القبضة الحديدية، مسرحية كتبها جوته سنة 1773م في مرحلة الفورة والانطلاق، والتعبير العاطفي المتطرف في فرديته وتمجيده للعبقرية الأصلية الخلاقة بكل تحررها وتحديها وعنفوانها الوجداني والخيالي، وتمثل بدايات مرحلة العصف والاندفاع في حياته وحياة الأدب الألماني، ورد فعل لعقلانية عصر التنوير. وقد ترجمها الدكتور مصطفى ماهر إلى العربية، وظهرت مع شذرة مسرحيته فاوست الأولى - سنة 1975م ضمن المسرحيات المختارة التي تصدر عن هيئة الكتاب بالقاهرة. (3)
راجع لكاتب السطور مقالا بهذا العنوان في كتاب «البلد البعيد» (ص147-169)، دار الكاتب العربي، القاهرة، 1968م، ومقالا آخر عن حياته الثائرة في نفس الكتاب (ص125 -146). أما مسرحياته الثلاث فتجد ترجمتي لاثنتين منها «فويسك، وليونس ولينا» في العدد العاشر من سلسلة المسرحيات العالمية كما تجد مسرحيته الكبرى «موت دانتون» في عدد أبريل سنة 1969م من مجلة المسرح القاهرية. (4)
صفحه نامشخص