عندما استطاع الأسرى التخلص من معسكر شارون، استطاعوا - ومعهم بالطبع إبراهيم خضر - أن يجتازوا منطقة الألغام الخطرة إلى ما يشبه واديا عملاقا لا يعرفون اسما له، طالما كان جميعهم من خارج دارفور ولم يدخلوها إلا محاربين مجبرين على القتال، أو جنودا ألزمتهم المعيشة امتهان وظيفة الموت والاقتتال. كانوا يهربون للأمام، بدون أية فكرة واضحة إلى أين تؤدي بهم الطرق، كل ما يحاولون الحفاظ عليه هو اتجاه الشرق، واضعين الشمس على ظهورهم، ليست لديهم بوصلة غير الشمس والظل والريح، تقودهم غريزة الحياة نحو نجاة لا يفقهون لها مسلكا. لم يتنبهوا إلى أنهم لا يحملون طعاما أو ماء إلا بعد أن أدركهم الرهق والعطش وهم على مشارف ما بدا لهم قرية قديمة، كالعادة كانت مهجورة بشكل تام، يعرفون أن هنالك مصادر مياه قريبة من القرية؛ فكثير من القرى تنشأ على مصدر مياه، أو أنها تصنعه لاحقا، ولكن خطورة المياه بالقرى المهجورة نتيجة الحرب، أنها قد تكون مسمومة أو غير صالحة للشرب وفقا لظروف بيئية.
كان الواحد وعشرون رجلا، جميعهم بصحة جيدة، ومتفائلين ويمضون للأمام في صمت تتخلله بعض الهمهمات، وهي عبارة عن ملحوظات سريعة عن الطريق والاتجاهات، أو نصائح تخص السلامة، العشرون رجلا هم في الحقيقية 18 رجلا وطفلان في السادسة والسابعة عشرة من عمريهما، انزلقا في وكر الجندية من الخدمة الوطنية الإلزامية، دخلوا القرية حذرين، ولأنهم لا يمتلكون أي نوع من الأسلحة ولا حتى الشخصية البيضاء، فكانوا يتخذون غاية الحذر والحيطة والانتباه. إبراهيم خضر إبراهيم، والطفلان ورجلان آخران اتجهوا ناحية الخور بحثا عن الماء، واتجه البقية نحو الغرب، حيث بدا للعيان منخفض به بعض الأشجار الخضراء قد يكون علامة على توافر المياه بالموقع، واتفقوا على أن من وجد الماء يعلن الآخرين عن طريق الصفير.
الوقت عصر، الريح الدافئة تمر عبر وجوههم صاعدة نحو الجنوب، لا يسمعون سوى نوس الأشجار التي تنتظر المطر راقصة للريح الخيرة، يحمل الهواء عبق حريق قديم ورماد يحكي مأساة بشر ماتوا وحرقوا في المكان، لم يمض زمن طويل حينما سمع الطفلان صفيرا، ونبها بقية الرفاق، كانت بئرا عميقة مظلمة، ولكن الماء الذي يعكس بعض الضوء، الذي يصدر صوتا حميما عندما تلامس سطحه الحجارة التي يرمونها فيه، تؤكد تواجده بوفرة، المشكلة الكبرى في كيفية الوصول إليه، وهم لا يمتلكون دلوا أو أوعية ولا حبالا، ولكنهم أيضا لا يعرفون أهو مسموم أم طيب؟
كان رأي ما يسمونه الرقيب على آدم أن يستعملوا بعض الآنية المحروقة المرمية في فناء الدور الخربة، قد يجدون ماعونا يمكن أن يحفظ شيئا من الماء، من ثم يمكن استخدام سلم البئر للهبوط إلى الأسفل، وقاموا برحلة بحث أخرى، كانوا يسيرون في جماعة واحدة؛ لذا شاهدوا معا وفي ذات اللحظة الرجل والمرأة وهما مشهران أسلحتهما، وقد اخترق نداء الرجل آذان الجميع: ثابت عندك.
كانا في منتصف عمريهما؛ المرأة تلبس ثوبا ملونا بلديا ورأسها عارية، تبدو في صحة جيدة، الرجل نحيف قصير، بوجهه ذقن كبيرة مهملة وشارب طويل، يرتدي جلبابا قصيرا، يضع على رأسه طاقية، يحمل سلاحا آليا تعرف عليه الجميع منذ الوهلة الأولى، المرأة تحمل بندقية كلاشنكوف، يقفان على بعد كاف من الرجال العشرين في وضعية الاستعداد لإطلاق النار، طلب من الجميع الجلوس على الأرض مع وضع اليدين على الرأس، وأنه سيطلق الرصاص على الجميع إذا حاول أي منهم عصيان أوامره.
طلب منهم أن يحدثه رجل واحد عن هويتهم وماذا يفعلون ومن أين هم قادمون وإلى أين ذاهبون، واختار الرجل بنفسه، وقام الرجل المختار، وهو جندي عجوز حكيم بالتحدث إليه، وأخبره بأنهم أسرى هاربون من معسكر شارون، قالت المرأة: يعني جنجويد وجيش؟
قال لها: إنهم ليسوا بجنجويد ولكنهم كانوا جنودا نظاميين، والبعض أفراد خدمة وطنية.
يبدو أن المرأة والرجل لم يفهما الفرق بين الجنجويد والجنود النظاميين ومجندي الخدمة والوطنية، أو أنهما لا يريدان أن يفهما؛ لأن الرجل صاح بغضب: «كلكم جنجويد مجرمون كتالين كتلا، اتجمعتوا من السودان كله جيتوا تقتلونا، فيكم زول من دارفور؟»
أجابه بريق ناشف: لا.
أضافت المرأة: الليلة يومكم تم هنا، عيال أم طيظ، يا ملك الموت جاك الموت.
صفحه نامشخص