ومنهم أستاذنا الشيخ علي أبو الضياء نور الدين الشبراملسي الشافعي القاهري، خاتمة المحققين، محرر العلوم النقلية والعقلية، وأعلم أهل زمانه لم يأت مثله في دقة النظر وجودة الفهم، واستخراج الأحكام من عبارات العلماء، وحسن التأني واللطف والحلم والإنصاف، ولم يعهد أنه أساء إلى أحد من الطلبة ولا بكلمة واحدة، وكان مجلسه مصانا من الغيبة وذكر الناس بسوء، وجميع أوقاته معروفة في الخير إما مطالعة، وإما تدريسا، وإما تقريرا، وإما سماعا للقرآن، لم يعهد مفارقته للخيرات المذكورة في حالة من الحالات ووقت من الأوقات ليلًا ولا نهارًا إلا حالة دخوله بيت الخلاء وحالة النوم واختلائه مع حريمه فقط، متخليا عن الناس مطلقا قي سائر الأحوال، لا يهمه إلا شأنه الذي هو فيه، وكان يزدحم على تقبيل يده المسلمون وأهل الذمة، وكان أهل عصره يراجعونه في المشكلات، وكان لا يكلمه أحد إلا علاه في كل فن. ومن مقولاته: (قيراط من أدب خير من أربعة وعشرين قيراطًا من العلم) ولد ببلدة شبراملس وحفظ بها القرآن، وكان أصابه الجدري وهو ابن ثلاث سنين فكف بصره، وكان يقول لا أعرف من الألوان إلا الحمرة لأنه كان يومئذ لابسه، ثم قدم مصر صحبة والده سنة ثمان وألف حفظ الشاطبية، والخلاصة، والبهجة الوردية، والمنهاج، ونظم التحرير للعمريطي، والغاية، والجزرية، والرحبية وغير ذلك. وتلا جميع القرآن للسبعة من طريقي التيسير والشاطبية وختمه سنة ست عشرة وألف، ثم للعشرة طريقي الشاطبية والدرة سنة خمس وعشرين، وألف وكذا للعشرة من طريق الطيبة على الشيخ عبد الرحمن اليمني، وحضر عبد الرؤوف المناوي في مختصر المزني في المدرسة الصلاحية جوار الإمام الشافعي، وأخذ الفقه والحديث عن النور الزيادي وسالم الشبشيري، ولازم النور الحلبي والشمس الشوبري، وعبد الرحمن الخياري، ومحيي الدين ابن شيخ الإسلام، وفخر الدين وسراج الشنوانيين وسليمان البابلي، الشهاب الغنيمي، وسمع الصحيحين والشفا على أحمد السبكي شارح الشفا، والبخاري والشمائل والمواهب وشرح عقائد النسفي وشرح جمع الجوامع ومغني اللبيب وشرح ابن ناظم الخلاصة والجوهرة على اللقاني، وحضر الأجهوري وعبد الله الدنوشري ولازمه.
وأخذ عنه الأكابر من أهل عصره وغيرهم كالشيخ شرف الدين ابن شيخ الإسلام، والشيخ زين العابدين ومحمد البهوتي الحنبلي، وياسين الحمصي ومنصور الطوخي وعبد الرحمن المحلي والشهاب البشبيشي، والسيد أحمد الحموي وعبد الباقي الزرقاني وغيرهم.
وله الحاشية على المواهب، وعلى شرح الشمائل للعلامة ابن حجر وحاشية على الورقات الصغير لابن قاسم، وحاشية على شرح أبي شجاع لابن قاسم، وحاشية على شرح الجزرية للقاضي زكريا، وحاشية على شرح المنهاج النهاية للشمس الرملي، وسبب كتابته عليه أنه كان يطالع التحفة لابن حجر فأتاه الشمس الرملي في المنام وقال له: يا شيخ علي أَحيِ كتابي النهاية يُحيِ الله قلبك، فاشتغل بمطالعتها في ذلك الحين وكتب عليه الحاشية ست مجلدات ضخام وكان لا يضجر من البحث في الدرس وإن لم يبحث معه الطلبة، ويقول لهم ما لنا اليوم، وكان إذا بحث مع أحد من المتقدمين بحث بالأدب للغاية، وكان إذا أتى للدرس في آخر عمره يجلس وهو في غاية التعب من الكبر بحيث لا يستطيع النطق إلا بصوت خفي ثم يقوى في الدرس شيئا فشيئا حتى يصير كالشاب.
ولد سنة سبع وتسعين وتسع مئة. وتوفي ليلة الخميس ثامن عشر شوال سنة سبع وثمانين وألف. وتولى غسله تلميذه الولي الفاضل أحمد البنا الدمياطي، فإنه أتاه في المنام قبل موته بأيام وأمره أن يتولى غسله فتوجه من دمياط إلى مصر فأصبح بها يوم وفاته وباشر غسله وتكفينه بيده، ولما وضأه ظهر منه نور ملأ البيت بحيث إنه لم يستطع أحد النظر إليه. وصلى عليه بجامع يوم الخميس إماما بالناس الشيخ شرف الدين ابن شيخ الإسلام زكريا وكان له مشهد عظيم.
والشبراملسي بشين معجمة فموحدة فراء مقصورة على وزن سكرى كما في القاموس، مضافة إلى ملس بفتح الميم وكسر اللام المشددة وبالسين المهملة. أو مركبة تركيب مزج، وهي قرية بمصر.
محمد علان المكي الصديقي
1 / 16