ومنهم محمد بن سليمان بن الفاسي. وهو اسم له لا نسبة إلى فاس بن طاهر السوسي الروداني المغربي المالكي، نزيل الحرمين، الإمام الجليل المحدث المفنن.
ولد سنة خمس وثلاثين وألف بتارودنت بتاء مثناة من فوق بعدها ألف ثم راء مضمومة فواو ثم دال مفتوحة فنون ومثناة من فوق ساكنتان: قرية بسوس الأقصى. وقرأ بالمغرب على كبار المشايخ، من أجلهم قاضي القضاة مفتي مراكش ومحققها أبو مهدي عيسى الكناني والعلامة محمد بن سعيد الميرغني المراكشي ومحمد بن أبي بكر الدلاعي وشيخ الإسلام سعيد بن إبراهيم المعروف بقدورة مفتي الجزائر وهو أجل مشايخه، ومنه تلقن الذكر ولبس الخرقة، وأخذ عن الأجهوري وعن الشهابين الخفاجي والقليوبي وأحمد الشوبري والشيخ سلطان وغيرهم وأجازوه، ثم رحل إلى الحرمين وجاور بهما سنين عديدة مع الانكباب على التصنيف وأخذ برملة فلسطين عن شيخ الحنفية خير الدين الرملي. وبدمشق عن نقيبها الشيخ محمد الحسيني بن حمزة ومحمد بن بلبان الحنبلي. ولما كان بالروم حظي عند الوزير مصطفى بيك ومن دونه ومكث نحو سنة ورجع إلى مكة المشرفة مجللًا، وكانت له الكلمة النافذة في مكة، ثم أخرج إلى بيت المقدس فتوجه صحبة الحاج الشامي بعد طلب المهلة إلى موسم الحجاج تعللًا بخوف الطريق وأبقى أهله بمكة وأقام بدمشق في دار النقيب محمد أفندي الحسيني في حياته، وكان مهتما بجمع الكتب الخمسة والموطأ، وله مؤلفات عديدة في علوم العربية وعلم الهيئة والأفلاك والتوقيت والعروض والكرة والأسطرلاب، ووقع له غريبة بالمغرب وهو أنه مر على بلد العارض محمد بم محمد الدادرغتي الناوملي وهو قاصد بلدا آخر فسأل عن البلد فقيل له إن فيها شيخا مربيا..قال فدخلت بلده فلقيني رجل خارج إلي وقال: أمرني الشيخ أن أخرج إليك وآتيه بك، فلما دخلت إليه رفع إلي بصره فوقعت مغشيًا علي بين يديه، وبعد حين أفقت فوجدته يضرب بيده بين كتفي وهو يقول: (وهو على جمعهم إذا يشاء قدير أفمن وعدناه وعدًا حسنًا فهو لاقيه) (الشورى ٢٩) فأمرني بملازمته وشكوت إليه عدم الفتوح في شيء، وكنت إذا ذاك كذلك فقال لي: اجلس عندنا ودرس كل علم شئت في كل كتاب شئت، ونطلب من الله أن يفتح لك، فجلست فدرست طائفة من الكتب التي قرأتها، وكنت إذا توقفت أحس بمعاني تلقى في قلبي، فكأنها أجرام وكنت نازلًا قريبًا منه وكنت أعرف أنه يختم القرآن بين المغرب والعشاء يصلي به النوافل ورأيته يومًا تصفح جميع المصحف الشريف، وجميع تنبيه الأنام وجميع دلائل الخيرات في مجلس، فعجبت من ذلك وسألت بعض الحاضرين فقال لي: من ورد الشيخ أن يختم ثلاثتها بعد صلاة الضحى، ومن غريب ما وقع أيضا: أنه لقي يوما عيسى المراكشي والناس مزدحمون عليه، فانحنى إلي دون الناس فقال: أجزتك بجميع مروياتي فكأنما طبعها في قلبي إلى الآن، وكان ذلك قبل اشتغالي بطلب العلم، ثم غبت عنه ثمانية أعوام ورجعت إليه لتجديد الأخذ عنه سنة ستين وألف قبل وفاته بسنة.
وكان المترجم يعرف الفنون كلها حتى مما لا يتداوله الناس الآن حتى الحكمة والمنطق والهيئة وأنواع الحساب والجبر والمقابلة والارتماطيقي وطريق الخطأين والموسيقى والمساحة معرفة تامة، وله في التفسير وأسماء الرجال والتواريخ وأيام العرب ووقائعهم والأشعار والمحاضرات والعلوم الغربية كالرمل والأوفاق والحروف والسيمياء والكيمياء اليد الطولي، وقد أخذ عنه بمكة والمدينة والشام والروم خلق كثيرون وتوفي بدمشق يوم الأحد عاشر ذي القعدة سنة أربع وتسعين وألف ودفن بسفح قاسيون بالتربة المعروفة بالإيجية بوصية منه.
هذا وقد اجتمعت به بخلوته في الحرم الشريف المكي المطلة على الكعبة المعظمة سنة تسع وسبعين وألف. وأجازني بمروياته كلها، ومنها الكتب الستة جمعني به شيخنا الشيخ حسن العجيمي بأمر من شيخنا الملا إبراهيم الكوراني، ثم اجتمعت به لما جاء لدمشق ونزول بدار السيد محمد بن حمزة النقيب، وحضرت إملاءه صحيح مسلم. ثم اجتمعت به ثانيًا بدار النقيب السيد عبد الكريم الحسيني ولد السيد محمد المذكور ﵀ رحمة واسعة.
سلطان بن أحمد المصري المزاحي الأزهري
1 / 13