وإذا كان العلماء قد أقروا بجواز الاجتهاد في مسائل فروع الاعتقاد من الناحبة النظرية، فقد وقع ذلك منهم فعلا، فاجتهدوا في فروع الاعتقاد كما بينا في المطلب السابق؛ فإنهم قد ارتضوا بنتائج الاجتهاد، فأقروا بأن حكم المخالف والمجتهد في فروع الاعتقاد هو حكم المجتهد في مسائل الفقه، يؤجر على اجتهاده أجرين إن كان صائبا، ويؤجر أجرا واحدا إن كان مخطئا، إذا بذل وسعه في استنباط الحكم من النص، وبناء عليه: فإنهم لم يكفروا صاحب الرأي المخالف في فروع الاعتقاد، وكانوا يصلون وراء من يخالفهم في فروع الاعتقاد، ولم يزيلوا الولاء بين المسلمين للاختلاف في تلك الفروع من الاعتقاد، وإليك بعض أقوال العلماء في بيان هذه المسألة بدءا من الإمام أحمد بن حنبل وانتهاء بالعلماء المعاصرين في زماننا.
يقول الإمام أحمد بن حنبل: "لم يعبر الجسر إلى خراسان مثل إسحاق وإن كان يخالفنا في أشياء، فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضا" (¬1).
ويقول: "ولو أنا كلما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأ مغفورا له قمنا عليه وبدعناه وهجرناه لما سلم معنا لا ابن نصر، ولا ابن منده، ولا من هو أكبر منهما، والله هو هادي الخلق إلى الحق وهو أرحم الراحمين(¬2).
... يرى الإمام أحمد - رحمه الله - أنه لا يصح هجر المخالف والمجتهد في فروع الاعتقاد، كما كان يخالفه إسحاق وابن نصر في مسألة خلق القرآن(¬3) وابن مندة في مسألة أمية النبي - - صلى الله عليه وسلم - -(¬4).
... وهاتان القضيتان العقديتان من القضايا الاجتهادية المهمة ومع ذلك فقد أعذر الإمام أحمد وهو إمام أهل السنة والجماعة مخالفيه في ذلك.
صفحه ۳۹