حال الحيوان
ولما استكملت الحياة إتقانه، وأحسنت القيام إحسانه، تحركت على الأرض فكانت حيوان، وانتقلت بالإرادة إلى كل عيص ومكان، فربض الوحش في الأحجار، وسكن الطير في الأوكار، ونام السمك في الأبحار والأنهار، وهكذا سار البعض على الأربع وساح، والبعض خفق بالجناح على الرياح، والبعض في الماء سباح. ولما على مايدة الحياة أمكن التقاء الشديد بالضعيف، والثقيل بالخفيف، والكبير بالصغير، والطويل بالقصير، أنشأ الكل قتالا وخصاما، فكان كل لسواه طعاما، وهاك أنيابا تمزق تمزيقا، ومخالبا تشقق تشقيقا، وأظفارا تنشب نشبا، وأطرافا تضرب ضربا، فعراك عظيم لا يخمد شراره، ونزال أليم لا يفتر أواره، والموت يفتك فتك الشجيع، وهو خاتمة الجميع.
حال الإنسان
ولما تم الإنسان في جنسه، وعلم علم نفسه، نظر إلى الكائنات فأدركها، وجد وراء المعرفات فأدركها، حتى إذا ما أطلق على المحيطات به نظر المنتقد، وميز الأشياء وفصلها بفكره المتقد، ما لبث أن مد على الكل ظلال رايته، وأخضع الجميع تحت رياسته. وإذ أخذته جانحة الطمع، وغلبت عليه ملكة الولع، وهام بحب الذات وبالفوز على الذوات، ثارت الموجودات عليه بطبايعها، ونهضت ضده الأكوان بشرايعها، وأخذت تدافعه وتصارعه، وتطالبه الوجد وتنازعه، فنضى سيف حكمه وحكمه، وأخضع الكل تحت قدمه. فكان غلبه غلبة عليه، وإدراكه مصيبة لديه، لا سيما إذ عرف الزمان، وميز بين الآن والأوان، فغدا يصارع الحاضر، ويرتعد من المستقبل، ويأسف على الدابر. فراحت الحوادث تطارده، والأيام تعانده، حتى أصبح هدفا للأحوال، وعرضة للأهوال، تارة يهيم بطلب المسرات، وتارة يضج في حرب المضرات. وبينما الملذات تحيط بقلبه، تحدق الآلام بلبه، فما ابتسم إلا وبكى، وما شكر إلا وشكا، وإذا فرح بضع أيام حزن بعض أعوام، فلا بد لأفعاله من رد، ولوصله من صد، يرى الدنيا زهاقا بالملذات، ولا تسقيه سوى الآفات، فيعيش فريسة لآماله، ويموت خايبا من كل أعماله. وهاك هذا المقال، منسوجا على ذلك المنوال:
صاح بي الدهر فاتبعت مسيره
لأرى أين أين أين مصيره
ظل يحدي ظعني على الأرض حتى
ظلع الظعن والطريق عسيرة
قلت يا دهر هل قراري بعيد؟
قال لي انظر بعينك الشريرة
صفحه نامشخص