لا تختشي يا أبا السنا تيه دجى
فالشمس أمامك اختفت وهي وراك
يا شرق عطشت بعدما قد سقيت
من وردك كل فيئة فوق ثراك
إن كان مياهك الجواري نضبت
لا بد لفيضها فبشراك بذاك
فانهض بحمى عبد العزيز السامي
هذا سلطاننا فهذا مولاك
حال الغرب
ما كان العقل ليرضى بانحطاط مراتب أعماله، وسقوط دولة أفعاله؛ ولذلك فريثما كان الشرق يلج في الظلماء، كان الغرب يعانق الأضواء، وما لبث أن تبوأ الغرب صهوة الضحى، وهار نهار الشرق وانمحى، وما زالت مناطق النور تمتد في الغرب أن غمرت القارة، وأضحت هناك قارة، وهكذا فتحت الأبصار والبصائر، وتنورت الأسرار والسرائر، حتى انتشر العلم والجهل انطوى، وجلس العقل على عرشه واستوى. فتكملت المعارف والمفهومات، وتجملت المعقولات والمنقولات، وسقطت الأكاذيب والأباطيل، وهدمت الخرافات والأضاليل، وارتفعت الحقايق، وتشيدت الطرايق. فلم يعد للفلك أحكام، ولا للعين سهام، ولا للجن مسارح، ولا للأرواح مراسح، ولا للسحر تأثير، ولا للأحلام تفسير، ولا للكيمياء إحالة بسيط، ولا بين المفقود والموجود وسيط. بل فتوح معقول، وكشف مجهول، وإبداع روابط، واختراع ضوابط، وإيراد موارد، وإرشاد شوارد، وتحصيل طرايق، وتنصيل طوارق، وتمهيد طرقات وصنايع، وتشييد متاجر وبضايع. فهناك الشمس ثبتت في مقرها، والأرض دارت على دايرتها ومحورها، والحكمة لبست ثوب الكمال والآداب، وسحبت مطاريف الجلال، والطبيعة فشت أسرار الأجسام، والشريعة فصلت بين الحقايق والأوهام. والكيمياء حررت عناصرها من حكم الاستقصات المتغلبة، وأظهرت جواهرها من صدف الآراء المتقلبة، حتى وطدت أصولها، ومكنت فصولها. والطب نشر راياته وأعلامه، وكلل بشاير الظفر هامه، فافتتح معاقل الأمراض، ورض قوارض الأعراض، إن يكن بقوة الأصول العنصرية، أو بفواعل الحواصل النباتية. واليدويات تحكمت هناك واستحكمت، وخضعت الأثقال وسلمت، فطار الإنسان على البخار، واختصر مطولات البحار، وضيق رحبات القفار. واستخدم البرق رسول أخباره، والنور مصور آثاره. وهكذا فقد سطا الإنسان الغربي على أجزاء الكاينات وكلياتها، واستخدم مجموعاتها ومفرداتها، حتى تمم نقصان الشرقي، ورقى عليه بالضرب والترقي. فلا حياة إلا هنالك، ولا ريب في ذلك، فهناك الراحة والمراح، والطرب والأفراح، والأمن والأمان، والحسن والإحسان، والثروة والغنى، والخصب والجنا، والمراسح واللهو، والمشاهد والزهو، والرقص واللعب، والأغاني والأدب، فلا يضج الملل في القلوب، ولا يعج الضجر والكروب، وكل روح ترتاح إلى علاقتها، ولا تحمل نفس فوق طاقتها، حتى إذا كان امرؤ نضو تعب، وحليف وصب، غارقا في الأكدار، وخابطا في الأقدار، فهو يرى ما يعزيه، ولا يرى ما يؤذيه. وبينما كنت ذات ليلة في باريس خائضا في كتابي، تائها بين خطائي وصوابي، وأنا حبيس في حجرتي، لا أنيس لي غير وحدتي، مللت أنس تلك الوحدة، ورخاء هذه الشدة، وأنفت مسامرة ذاك النديم الصامت، أو الصديق الشامت، فهربت إلى الشارع لا أعلم أين أنطلق، هرب الطير من القنص المنغلق، سكران بخمرة التأملات، مهشما تحت مطارق المشكلات، وما زلت أن أوقفني باب كبير، محفوف بحرس التنوير، فلبثت قليلا، ثم دخلت دخيلا، وإذا المحل مرسح رواقص، وملعب عواقص، وما زلت هناك إلى أن احترقت ناحية الدجى، والليل إلى الغرب التجا، فخرجت إذ ذاك، وها شرح ما رأيت هناك.
صفحه نامشخص