مشاهد الممالك

ادوار الیاس d. 1341 AH
97

مشاهد الممالك

مشاهد الممالك

ژانرها

وفي نيويورك 344 فندقا، منها 51 يسع الواحد منها 600 شخص، وفيها 98 مرسحا للتمثيل و26 غابة وحديقة للنزهة، وسكك الحديد الداخلية تنقل أربعة ملايين راكب في كل يوم، ولا أزيد القارئ علما بثروة الأميركيين، بل إني أذكر واحدا منهم - وهو روكفلر - إيراده فيما يقال يزيد عن 4 ملايين جنيه في السنة، وأغنياؤهم يبذلون المال في الأعمال النافعة، مثل مساعدة المدارس والمستشفيات والجمعيات الخيرية، فإن روكفلر وهب في سنة واحدة - وهي سنة 1907 - نحو 40 مليون ريال، والست ساج 13 مليونا، وكرنجي 8 ملايين، والست جنيش 5 ملايين، وقس على ذلك. ولنساء الأميركان الأغنياء ولع يقرب من الجنون بإنفاق الأموال على الملابس وغيرها، ذكر سنكلير - وهو عالم خبير بهذه الأمور - أن السيدة منهن تصرف على جلباب حرير مطرز من الزي الباريزي نحو 300 جنيه، وتعمل له قبعة تلائمه بمبلغ 50 جنيها، وقبعات الربيع بنحو مائتي جنيه، وتشتري الحذاء من جلد الأيائل وأزراره من صدف اللؤلؤ بعشرين جنيها، وملابس لحفلات الرقص مزخرفة بالفضة على أشكال الزهور ولها ذيل مرصع بالجواهر ثمنها 1200 جنيه غير ما عليها من الجواهر، وتدفع ثمن المنديل عشرة جنيهات، وثمن الجوارب الحريرية عشرة جنيهات، وثمن مظلة قبضتها ذهب ولؤلؤ خمسين جنيها، وبعضهن يلبسن الثوب مرة أو مرتين ثم يهملنه، وقد قدرت ثمن الحلي على إحدى السيدات بخمسين ألف جنيه وهي ذاهبة لحفلة رقص وكان معها أحد رجال البوليس السري يحرسها بالذهاب والإياب. ولما اشتهرت ثروة الأميركان في أوروبا جعل كل ذي لقب برنس ولورد وكونت وبارون يطلب الاقتران بأميركية، فمنهم اللورد كرزون والي الهند السابق، والدوك أوف مارلبرو، والمستر شامبران، والديوك أوف مانشستر، وغيرهم من الإنكليز تزوجوا الأميركيات، هذا غير سراة الفرنسيس والألمان والمجر وسواهم من الذين تزوجوا بنات الأميركان، حتى قيل إن المبالغ التي اكتسبتها أوروبا من المثريات الأميركيات لا تقل عن خمسين مليونا من الجنيهات.

وقد خططت شوارع نيويورك الأصلية من الشرق إلى الغرب تقطعها شوارع أخرى على زوايا قائمة، فتجعل منظر الطرق الكبرى متشابها يضلل الغريب لولا أن لها نمرا فوق كل منزل أو باب تدل عليه، ونمرت الشوارع من واحد إلى ما فوق، فما على الغريب إلا أن يطلب عدد الشارع، فإذا وصله رأى نمرة المنزل على اليمين أو على الشمال وهي طريقة بسيطة يسهل حفظها على الغريب. وقد بدأت التفرج على هذه المدينة من شارع وول وأوله عند البحر، ولشارع وول هذا أهمية؛ لأن به الأعمال المالية الكبرى، وفيه الأبنية العظيمة، أذكر منها البورصة، وهي بناء فخيم من المرمر، دخلناها مع بعض الأصدقاء وسمعنا فيها من الغوغاء ورأينا من الحركة ما يعسر وصفه، فإنهم قدروا أن قيمة الذي يباع في هذه البورصة من أسهم السكك الحديدية وحدها تبلغ مليون جنيه في كل يوم، ولاحظت هنالك لأول مرة أن كثيرين من الأميركان يمضغون الدخان مضغا، وقد وضعت لهم براميل صغيرة في زوايا القاعة ليبصقوا بها، وأذكر أيضا بناء عظيما لأعمال التأمين على الحياة وفي داخله 1500 عامل، وإلى القرب منه مصارف ومحلات تجارية كبرى فيها من الحركة التجارية ما يشهد لهذه المدينة بالتقدم في مضمار الأعمال المفيدة.

ويلي هذا في الأهمية شارع عظيم اسمه برودواي أو الطريق العريض، وهو طويل يمتد مسافة خمسة أميال على خط واحد، وفيه عمارات عظيمة عمومية، أذكر منها محل البوسطة وفيها 2500 عامل وخلفها المجلس البلدي والمحكمة التي أنفقوا على بنائها وزخرفها نحو مليونين وأربعمائة ألف جنيه، وقد سرت في هذا الشارع واجتزت نحو ميلين بين صفوف البناء الفخيم حتى بلغت المكتبة العمومية التي بناها آل إستور الكرام، وملئوها بنفائس المؤلفات ومفيد الكتب، وأنفقوا عليها حوالي ثلاثمائة وأربعين ألف جنيه، وهم من العائلات العريقة في المجد الوافرة اليسار في أميركا، تقدر ثروتهم الآن بنحو ستين مليون جنيه أو تزيد، وتعد من أغنى العائلات في الدنيا، وكان عدد الكتب في هذه المكتبة يوم زرناها 280 ألف كتاب، وعدد الذين يدخلونها للمطالعة والبحث عما يفيد 70 ألفا في السنة.

وإلى مقربة من هذا الشارع طريق الأشراف والسراة ومقر آل اليسار والنعمة - نريد به «ففث أفنيو» الذي ذكرناه - وفيه الفندق الذي اخترنا النزول فيه مدة إقامتنا بمدينة نيويورك، وفيه ميدان ميدسون حيث أقيمت التماثيل لعظماء الأميركان وقوادهم، منهم أمير البحر فاراجوت والجنرال ورث، والمستر ستورت الذي كان وزير الخارجية مدة الحرب الأهلية، وواصلنا المسير من هذا الشارع إلى شارع 51، وفيه كنيسة قديمة يتبعها أرض زادت قيمتها زيادة فاحشة بعد أن تقدمت المدينة وعلت أسعار أرضها، فباعوا جانبا منها بأربعمائة ألف جنيه أنفقوه على تجديد بنائها. وإلى جانبها بيت آل فاندربلت، وهم من أغنى أهل الأرض، وقد عني ببناء هذا القصر جد المستر فاندربلت الحالي، وهو الذي جمع المال كله وأورثه لابنه وبناته، وكنت قد رأيت هذا الرجل في الصعيد وتعرفت به لما ساح في مصر، فوددت مقابلته ولكنني علمت أنه غائب فوقفت أتأمل بيته وتلك الزخارف المدهشة التي أنفق الرجل عليها بعض ملايينه.

وظللت على المسير حتى وصلت الحديقة العمومية، وهي في عرف الأكثرين من أجمل حدائق الأرض، تبلغ مساحتها 480 فدانا، وقد جاء في كتاب بادكر أنه صرف عليها ثلاثة ملايين جنيه، فلا عجب إذا كانت جنة زاهرة وروضة باهرة تحيي بجمالها النفوس وتختلب بمحاسنها العقول، ذلك مع أنها كانت قبل غرسها مستنقعا تضر روائحه بالأبدان، فصيرها المال وهمة الرجال جنة تجري من تحتها الأنهار، وهي يدخل إليها من 20 بابا، فيها أربعمائة فدان غرست بباسق الأشجار ولطيف الأزهار، و43 فدانا يتدفق منها الماء ما بين جداول وبحيرات تسحر الأنظار وبقية أرضها طرق مرصوصة بالحصى أو شوارع فسيحة بعضها للعربات، وطولها عشرة أميال، وبعضها لراكبي الخيل وطولها ستة أميال وبعضها للمارة على الأقدام وطولها ثلاثون ميلا، وفي قسم منها القناطر البديعة بنيت لوقاية الناس من المطر فإذا زرت الحديقة في أحد أو عيد رأيت ما ترقص له القلوب طربا من اجتماع الجمال الطبيعي بجمال الصناعة، والتقيت بألوف وعشرات الألوف من المتفرجات والمتفرجين في هاتيك الطرق البهية، والموسيقى تعزف بالألحان، والناس ما بين راكب وماش يسمعون وينظرون، وآخرون في قوارب بديعة الصنع تجري فوق ماء البحيرات البهية، وآخرون في المطاعم أو فوق الكراسي بين أدغال الحديقة وأزاهرها والكل في نعيم يمرحون، وعند باب الحديقة معرض ومسلة مصرية هي التي أهداها الخديوي إسماعيل باشا للجمهورية الأميركية، ونقلت من مصر على نفقة المستر فاندربلت الغني الذي سبق ذكره، وقد كنت واقفا في الإسكندرية يوم جاء المهندس الأميركي ونزع هذه المسلة من موضعها، وهي من أيام الملك توتميس الثالث، أمر بصنعها قبل المسيح بنحو 1500 سنة، وعليها الكتابات الهيروغليفية بهذا المعنى، ثم زاد الملك رعمسيس الثاني اسمه عليها بعد ثلاثة قرون - أي في أيام موسى النبي - وهي تبلغ 69 قدما في طولها، ووزنها مائتا طونلاتة، بلغت نفقات نقلها إلى نيويورك عشرة آلاف جنيه؛ لأنه صنع لها أدوات خاصة بها وباخرة قامت لهذا الغرض.

وأما المتحف الذي أشرت إليه فلم يكن يوم زيارتي له بالشيء الذي يذكر، بل إن فيه رسوما وصورا تقل كثيرا في العدد والقيمة عما في متاحف أوروبا؛ وسبب ذلك واضح هو أن متاحف الأميركان جديدة لم تمر عليها الأعوام حتى يجتمع فيها مثل ما في متاحف أوروبا من النفائس، ولكن القوم ذوو أنفة وغيرة إذا قيل لهم إن في أوروبا شيئا أحسن مما عندهم أثر ذلك فيهم؛ ولهذا فهم جمعوا مالا طائلا بالاكتتاب لمتحف نيويورك واشتروا له بنحو مليوني جنيه في مدة عشرين سنة ما يفتخر به كل أميركي، وعدت إلى فندق في قطار سكة الحديد الذي يسير فوق الأرض، وهم يبنون لذلك القناطر العظيمة قائمة على عمد من الحديد متوالية الوضع فتسير القطر فوقها والناس من تحتها في حركتهم وأعمالهم، فهم في هذا يخالفون نظام الإنكليز الذين يبنون سكك الحديد في لندن تحت الأرض ونظام الأميركان أصلح للمسافرين لا يضطرهم إلى استنشاق الهواء العفن تحت الأرض ولا يحرمهم منظر الأرض التي يسافرون فيها، ولكن نظام الإنكليز أوفق لأصحاب الحركة التجارية ولمنظر الشوارع؛ لأنه لا يشوه منظرها ولا يقلل سعة الطرق على الساكنين، وقد مد فوق هذه القناطر ثمانية خطوط للسكك الحديدية تنقل في السنة أكثر من مليوني نفس في جهات المدينة من مائة وعشرين محطة، يقوم 30 قطارا في كل ساعة، وهي من أملاك المستر فاندربلت المثرى الشهير، يدخل منها ثلاثة آلاف جنيه في اليوم له ولشركائه.

وقد علمت أن مدينة بروكلن متصلة بنيويورك، يفصل بينهما نهر، وفوق النهر جسر يعد من عجائب هذا الزمان في دقة صنعه وغرائب شكله؛ لأنه بني بدون قناطر، بل هو معلق على قوائم متينة في الطرفين، واسمه الجسر المعلق، ولعله أجمل الجسور التي بنيت من نوعه إلى الآن، وقل أن تخلو جريدة مصورة أو رحلة من رسوم هذا الجسر ووصف بدائعه، فإن طوله 5990 قدما وعرضه 85 قدما، وعلوه عن سطح النهر 135 قدما، فهو تسير من فوقه العربات على أشكالها والمارة على الأقدام وأرتال سكة الحديد، فلا يقل عدد الذين يمرون فوقه في السنة عن أربعين مليونا، فلا عجب إذا قيل إنه من عجائب هذا الزمان. ولما كان الوصول إلى هذه المدينة لا بد منه لسائح زار نيويورك، فقد قصدناها ودرنا في جوانبها، وتأملنا محاسنها، وزرنا أحد الأصدقاء عرفناه في الإسكندرية ثم عدنا إلى الفندق في نيويورك استعدادا للسفر إلى مدينة فلادلفيا التي أقيم فيها المعرض العام وندبنا لحضوره، وكنا نظن أول الأمر أننا سنعاني مشقة نقل الصناديق معنا في السفر، فعلمنا أننا في غنى عن ذلك ؛ لأننا سلمنا هذه الصناديق بإشارة العارفين إلى شركة آدم، وأخذنا منها وصلا بها، ثم سافرنا وأرسلت تلك الصناديق على يد الشركة؛ وعلى ذلك تمت مدة إقامتنا في مدينة نيويورك العظيمة. ووصلنا مدينة فلادلفيا بعد سفر يسر الخواطر في داخلية الولايات المتحدة؛ فوجدنا صناديقنا في الفندق الذي قصدناه واسمه أوتل كونتينينتال.

فلادلفيا

بنى هذه المدينة قوم من طائفة الكويكرس أو جمعية الأصحاب، وكان ذلك في سنة 1682. وأما هذه الطائفة فلها شهرة في أوروبا وأميركا، وإن تكن غير معروفة في القطر المصري. وهي من الطوائف البروتستانتية، لها أمور كثيرة تمتاز بها عن غيرها من الطوائف، منها أنها تحرم القسم تحريما تاما، فلا يقسم أفرادها بالله أو بغيره ولو يكون ذلك في المحكمة، حتى إن إنكلترا اضطرت أن تسن اللوائح الخاصة للقسم في المحاكم ومجلس الأمة بسببهم، وهم يعدون أنفسهم جماعة السلام، فلا ينتظمون في الخدمة العسكرية ولا يقبلون حربا ولا يشربون مسكرا ولا يحفلون بالمراقص والملاهي، ولا يتأنقون في الملابس، وقد كان من أشهر رجالهم الوزير جون بريط الحر الإنكليزي المشهور الذي يعده الإنكليز من أكبر أركان النهضة الإنكليزية في العهد الحديث، دخل مع غلادستون في عدة وزارات واستقال من الوزارة عام 1882؛ لأنه لم يوافق زملاءه على محاربة مصر. وأفراد هذه الطائفة لا يعرفون للأشهر وأيام الأسبوع أسماء، بل هم يقولون اليوم الأول للأحد والثالث للثلاثاء والسادس للجمعة وقس على ذلك. ويعرفون الأشهر بنمرها أيضا، فيقولون الشهر الأول والشهر الخامس بدل يناير ومايو، وفي ذلك مزية لهم مشهورة. وهم يختلفون عن كل طائفة من الطوائف النصرانية في أنهم لا يعتدون بالمعمودية وتناول العشاء الرباني أو الاشتراك، ولهم شهرة صحيحة في الصدق والشهامة والمحافظة التامة على مبادئ الشرف والشهامة، فليس بين أهل الأرض كلها أناس أشهر منهم في الفضيلة والصدق، ذلك حق يعترف به لهم كل العارفين، وهم ذوو بساطة في معيشتهم وعبادتهم لا ينفقون المال على الزخرف الفاني، ولا يشربون الخمور ولا يؤمون مواضع الرقص والطرب. والناس في إنكلترا وأميركا إذا قلت لهم إنك كويكري عدوا ذلك دلالة كافية على سمو آدابك.

هذا مجمل الذي يقال عن طائفة الكويكرس التي أسست مدينة فلادلفيا والولاية الملتفة حولها، وقد سميت الولاية بنسلفانيا باسم المستر بن رئيس هذه الطائفة في ذلك الحين، وسميت المدينة فلادلفيا، ومعنى الاسم «بلد المحبة» إشارة إلى مبدأ الذين أسسوها، وكان ذلك في سنة 1682 على ما علمت. وتوارد الناس على هذه المدينة فعمروها، ولكنها ظلت بلا امتياز بلدية حتى سنة 1701، وكان عدد سكانها يومئذ 45000 نفس فقط، فجعلت تنمو وتتقدم حتى صار عدد الساكنين فيها الآن فوق مليون وربع مليون من النفوس، وأصبحت ثالثة مدن الولايات المتحدة في الأهمية التجارية، وأولها في الأهمية الصناعية؛ لأنها تمتاز الآن عن مدن أميركا كلها بكثرة ما فيها من المصانع والمعامل. ولهذه المدينة موقع بديع؛ لأنها بنيت في سهل فسيح بين نهرين، هما نهر دلوار ونهر سكولكل، ولها شهرة في اتساع المجال؛ فإن طولها 22 ميلا وعرضها لا يقل عن خمسة أميال، وأكثر منازلها ذات طبقتين، وقل أن تزيد عن أربعة، فهي من هذا القبيل أنسب لسكن العائلات وأفضل من حيث الشروط الصحية من كل مدينة كبرى تكثر فيها طبقات البناء. ولما أسس المستر بن هذه المدينة جعل شوارعها أسماء تنطبق على ما كان فيها من الأشجار، فأحسن طرقها الآن تعرف باسم شارع البندق أو شارع الكرم أو شارع الصنوبر وغير هذا. وفي المدينة أربعة ميادين كبرى تعرف بأسماء: واشنطن وفرانكلن ولوجان ورتنهوس، وكل شوارعها فسيحة جميلة واضحة النمر لا يضيع فيها الغريب. وفي فلادلفيا مركز إدارات سكك الحديد الكبرى ولثغرها أهمية كبرى؛ لأنها واقعة على الأوقيانوس الأتلانتيكي، ولها خطوط عظيمة من البواخر البحرية تمخر بينها بين بقية البلدان، وأخصها إنكلترا وفرنسا وممالك الشرق الأقصى.

صفحه نامشخص