كانت جملة المال الذي أنفق عليه مليون وثمانين ألف فرنك، وقد صنع كله من الخشب على نسق بديع يشهد بالبراعة لصانعيه، فإنهم قطعوا ألواح الخشب في ستوكهولم وأتقنوا نجارتها وجعلوه على القياس المطلوب للبناء، ووضعوا لها نمرا ثم أرسلوها في سفينة شراعية إلى مرسيليا، فما بقي على بناء القصر السويدي في المعرض غير أن تركب تلك الألواح بعضها إلى بعض حسب نمرها، وأن تطلى بالألوان بعد ذلك، فهم اكتفوا بعدد قليل من العمال والنجارين في باريس لإتمام البناء، لم يزد عددهم عن 12 نجارا ومهندسا، وقد كان هذا القصر أحسن مثال لبلاد السويد وحالتها، ولكن القوم لم يكتفوا بعرض الحاصلات والمصنوعات فيه، بل إنهم مثلوا هيئة بلادهم في الشتاء حين تتراكم فيها الثلوج وتطول الليالي، وفي الصيف حين يطول النهار فيشرق القمر والشمس معا في وسط النهار، وهي من الحوادث الطبيعية الناشئة عن مركز الأرض تجاه الشمس، لا ترى إلا في الأقاصي الشمالية، مثل بعض روسيا وبلاد السويد والنورويج. وقد أعادوا هذا القصر برمته إلى ستوكهولم بعد انتهاء مدة المعرض في باريس؛ لأنهم فكوا تلك الألواح ونقلوها، ولا بد أنهم استعملوها لأغراض أخرى بعد ذلك.
قصر النورويج:
يقال في السويد والنورويج مدة هذا المعرض ما قيل في النمسا والمجر من حيث العلاقة السياسية، فإن المملكتين كانتا دولة واحدة ثم انفصلتا على ما رأيت في تاريخهما، وقد أنشأ أهل نروج معرضهم الخاص في باريس لهذه الغاية وأنفقوا عليه نصف مليون فرنك، وعرضوا فيه حاصلات بلادهم ومصنوعاتهم، وأهم ما يقال في هذا القصر أنه مثل قوة أهل النورويج على التجارة وصناعة السفن؛ لأن لهم امتيازا بذلك جعلهم من أهل الطبقة الأولى بين الأمم. ومما شهدت في هذا القصر تمثال نانسن، وهو رحالة نورويجي مشهور ذاع اسمه في الأقطار؛ لأنه بلغ في سياحاته إلى نواحي القطب الشمالي شأوا لم يدركه السابقون فكان أعظم مكتشف لدائرة القطب قبل بيري، وقد ذهب الرجل في باخرة قوية بناها لهذا الغرض، وسماها فرام، والاسم نورويجي معناه «إلى الأمام»، واستصحب معه الدراجات التي تسير على الثلج، والكلاب التي لا يمكن السير بدونها في تلك الأصقاع المتجمدة، ومئونة 3 سنين حتى إذا لم يعد السير ممكنا في الماء ترك الباخرة وتقدم زحفا على الجليد إلى آخر ما بلغه يومئذ، فأفاد أهل العلم فوائد كبرى وعاد على الزحافات، أما الباخرة فإنه تركها محبوسة في الجليد، فلما أشرقت الشمس طويلا وذاب بعض الجليد نزلت الباخرة من نفسها مع تيار الماء فوجدوها في ثغور النورويج وجعلوا يوم وصولها مثل الأعياد. وأما نانسن نفسه فإنه نال غاية العز والإكرام بعد رجوعه، وقابل الملوك والعظماء وخطب وكتب كثيرا عن سياحته، فجمع مالا طائلا جزاء مخاطرته في خدمة العلم والاكتشاف.
قصر إسبانيا:
لم يكن لهذا القصر نظير بين قصور الدول؛ لأنه مثل كثيرا من حالة العرب على عهد امتلاكهم لبلاد إسبانيا، فكان منظره وما فيه يلذ للشرقي ويعيد إلى الذهن ذكر أحسن أيام الدول العربية الزاهرة في الأندلس، فقد رأيت فيه قباء أبي عبد الله آخر سلاطين الأندلس من بني الأحمر وأسلحته وجرابين كان يضع فيهما نسختين من القرآن، ورأيت عمامة حربية من النحاس كان يلبسها أمير البحر خير الدين باشا، وهو الذي يعرفه الإفرنج باسم بارباروسا أو ذي اللحية الحمراء، وكان في هذا القصر كثير يمثل الأزياء الإسبانية الحالية ومصنوعات تلك البلاد.
قصر ألمانيا:
اهتمت أمة الألمان بإقامة هذا القصر ونحو 20 موضعا غيره في أجزاء المعرض العام؛ لأنها خطت في الصناعة والتجارة مدة الأعوام الأخيرة خطوات واسعة، فنمت معاملها وتعددت مصنوعاتها وجعلت ترسل المندوبين منها إلى سائر الأقطار يعلمون حاجة الناس ويوصون على الأشياء التي تفي بحاجاتهم حتى إن المتاجر الألمانية عمت، وأصبح كثير من أسواق الأرض خاصا بالألمانيين دون سواهم؛ ولهذا كان الاهتمام لعرض المصنوعات الألمانية في معرض الدول عظيما، فإنهم أنفقوا على بنائه ستة ملايين وستمائة ألف فرنك، وكان بناء بديعا فخيما، دهن بتراب الرخام حتى يخيل للرائي أنه مبني من الرخام برمته. وكان هذا القصر الألماني ممتازا بين أمثاله من معارض الدول في أن له شرفة طويلة في الدور الثاني يظهر منها المعرض كله، وأما الأشياء التي ضمها هذا القصر فكثيرة لا يسهل عدها على القارئ، نذكر منها آلات جديدة لصب الحروف المستعملة في الطباعة، وصورة جوتمبرج - وهو ألماني مر ذكره في فصل آخر من هذا الكتاب، كان أول من اخترع الطباعة بالحروف على النسق الحديث - وغير هذا كثير.
هذه سلسلة القصور التي بنيت على ضفة النهر تمثل حالة الدول والأمم تمثيلا يجعل المتنقل بينها كأنه ساح من قطر إلى قطر، ورأى زبدة ما يستحق الذكر في كل من تلك الأقطار، وأما قصور الدول الأخرى التي بنيت في شارع تروكاديرو فهي كما يجيء:
قصر روسيا:
معلوم للجميع أن هذه الدولة الضخمة السلطان مشهورة باتساع مواردها وكثرة كنوزها وحاصلاتها، ولها مزية بكثير من المصنوعات والحاصلات ليست لبقية الأمم، مثل الفرو يصدر أكثره من بلاد الروس ويصنع في مدائنهم، وقد كان لهذا النوع قسم كبير في القصر الروسي استلفت أنظار المتفرجين ولا سيما السيدات منهم، وقد أتقنوا عرض هذه الفراء الثمينة فوضعوا أشخاصا من الخشب كالرجال والنساء والأولاد وألبسوها أنواع الفرو الثمين مفصلة على جميع الأزياء، هذا لملابس السيدات داخل المنازل، وهذا للخروج في أيام الشتاء، وهذا للحفلات وهذا للاستقبال، وكان بين تلك الأزياء شكل سيدة خارجة من حفلة وهي لابسة جبة من أثمن أنواع الفرو، وهو يقدر بأضعاف قيمته من الذهب لندرته وجماله المفرط وصعوبة الحصول عليه، وكان هنالك قطعة من فرو السمور الأسود لم أر لها نظيرا في جمال سوادها الساطع اللامع ونعومتها، فلا عجب إذا بلغ ثمنها 75000 فرنك، وقد كتب عليها هذا الثمن الكبير، وقد مثلوا في هذا المعرض أيضا حالة الصياغة الروسية، ولا سيما ما خص منها بالآثار الكنائسية؛ فإنهم جاءوا بالصياغ من روسيا كانوا يصيغون أفاريز من الفضة تطلى بالذهب وتوضع فيها الأيقونات، كذلك صنع الطلاء المعروف بالمينا، وهو مما امتاز به الروس وكان له قسم في القصر الروسي. وكانا في هذا القصر خارطة الشرق البعيد، وفي وسطه سكة الحديد العظيمة التي توصل روسيا من أطرافها عند بطرسبرج بأقصى ملاكها في الشرق عند فلادفستوك، والأرض التي قامت بسببها أكبر الحروب الحديثة بين دولتي روسيا واليابان.
صفحه نامشخص