استمر هذا الفتح الوحشي نحو ثلاثة قرون، من عهد موسى الكليم سنة 1300 إلى عهد داود، وابنه سليمان الحكيم، في سنة 1015 قبل الميلاد، حين بلغت دولتهم أوسع حدودها. ولم يتمكنوا من تثبيت أقدامهم في الأرض إلا عندما استولى ملكهم الثاني داود النبي على حصون أورشليم، وجعلها عاصمة لملكه في سنة 1050 قبل الميلاد، واستمرت المعارك سجالا بينهم وبين الفلسطينيين والكنعانيين، الذين فروا أمامهم، وتجمعوا في ساحل البلاد الغربي أو في المناطق الشمالية طول مدة اغتصابهم، إلى أن دالت دولة اليهود وخلت منهم الديار.
امتدت الأرض التي استولوا عليها من دان شمالي بحيرة الحولة في الشمال، إلى بير السبع في الجنوب. وأما من الشرق فلم يمكنهم الأنباط العرب من المؤابيين والعموريين، من التوسع إلا على مساحة ضيقة على الضفة الشرقية، من وادي الأردن في اليرموك والزرقاء، فاقتسموا هذه الأرض التي أبادوا سكانها وأخرجوهم من ديارهم بين أسباطهم الاثني عشر، واستقروا عليها عهدا قصيرا، لا يتجاوز ثلاثة قرون، قضوها بالقتال الدائم مع سكان البلاد الأصليين الذين كانوا يغتنمون كل فرصة لاسترداد وطنهم من هؤلاء الغزاة المعتدين، وضعفت دولتهم بعد موت سليمان بانقسام الأسباط، وشطر المملكة إلى شطرين؛ أحدهما في أورشليم لسبطي يهوذا وبنيامين، والآخر في السامرة «نابلس» بالشمال للأسباط العشرة. وقد أغار عليهم مرارا فراعنة مصر وملوك آرام واكتسحوهم، وحاولوا إجلاءهم عن البلاد وإعادتها إلى أهلها، إلى أن تم ذلك لسرجون الآشوري - ملك نينوى - سنة 722 قبل الميلاد، فحطم مملكتهم الشمالية، وأجلى اليهود عنها، وردهم إلى مخرجهم الأصلي، في شرق الفرات، وأعاد الكنعانيين والفلسطينيين المشردين إلى ديارهم.
وفي سنة 586 قبل الميلاد، أغار نبوخذ نصر - ملك بابل - على أورشليم، وهدم أسوارها وهيكلها، وأجلى يهود المملكة الجنوبية وحملهم إلى الأهواز في شرقي الدجلة؛ فخلت أراضي فلسطين من اليهود خلوا تاما، وهكذا بقوا بعيدين عنها، إلى أن دالت دولة بابل بتغلب كورش الفارسي عليها، فأذن لهم ملوك الفرس بالعودة إلى أورشليم، في أوائل المائة الرابعة قبل الميلاد ، فأخذوا بالعودة تدريجيا، بحماية ملك مادي وفارس، وأعادوا بناء الهيكل والأسوار تحت حماية حراب جنوده، الذين صدوا عنهم غارات العرب والنبط وسائر عشائر كنعان وفلسطين بقيادة جشم العربي، ولم يلتفت ذلك الملك العظيم إلى عرائض الاحتجاج، التي تقدمت بها وفود البلاد والتمست العدول عن ذلك القرار، بل كان يجيبهم بأن شريعة مادي وفارس لا تنسخ، فعليهم أن يذعنوا ويطيعوا، وهكذا تمكن فلول اليهود من الاستقرار في أورشليم وبعض الكور حولها، بصفتهم رعية لملك الفرس، وتفصيل ذلك وارد في سفري عزرا ونحميا من التوراة.
من ذلك ترون أيها السادة أن اليهود لم يكونوا في فلسطين إلا غزاة غاصبين تمكنوا في إحدى غفلات الدهر من اجتياح شطر من هذا الإقليم والاستقرار فيه بعامل القهر والتغلب، ولم يعترف لهم سكان البلاد الأصليون في وقت ما بهذا الحق، بل كانوا دائما يناهضونهم ويقاتلونهم، ويحاولون استرداد الأرض التي انتزعوها منهم، فلم تمر سنة من مكوثهم في فلسطين إلا اصطلوا بنار حرب لهم أو عليهم، ولم تطل مدة ملكهم إلا أقل من ثلاثة قرون، قبل السبي الآشوري، ولم تقم لهم بعد السبي الآشوري والبابلي قائمة ملك، ولا كان لهم دولة، بل أصبحوا رعايا للآشوريين، فالبابليين، فالفرس، فاليونان البطالسة، فالرومان، أسوة بالشعوب الأخرى التي اندمجت في سيطرة هذه الإمبراطوريات. ولم يكن في هذه العهود لليهود وطن قومي خاص بهم، بل كانوا منتشرين في الأقاليم المختلفة، أقلية في كل مكان إلا في مدينة أورشليم، وبعض الكور في جوارها، من غير أن يكون لهم فيها حكم أو سلطان. ولما اشرأبت أعناقهم إلى الحكم، وإقامة وطن قومي لهم في عهد المكابيين أنكر عليهم ذلك قياصرة الرومان، وحمل عليهم القيصر تيطس الروماني في سنة 70 بعد الميلاد، وحاصرهم في أورشليم إلى أن فتحها قهرا، وقتل منهم نحو مليون نفس، وسبى الباقين، وفرقهم في أنحاء دولته العظيمة، وحرم على كل يهودي العودة إلى أورشليم أو إلى الإقليم الفلسطيني الذي بقي خاليا منهم أكثر من ستة قرون، إلى أن سمح لهم بعد الفتح الإسلامي بالسكنى، أينما أرادوا، فتسلل إليها عدد قليل منهم أقاموا في أنحائها، ولم يبلغ عددهم فيها عند الاحتلال الإنكليزي أكثر من 55 ألفا.
إن تاريخهم القديم، المسرود في التوراة مملوء بالفجائع والفظائع، واحتلالهم كما هو معترف به في ذلك التاريخ المفصل كان قائما على قرض السكان أصحاب البلاد الأصليين وإبادتهم، وقد مضى عليهم إلى اليوم 19 قرنا وهم متفرقون في أقطار الدنيا، لا يجمعهم كيان سياسي، وإنما ظل البعض منهم يمنون أنفسهم بآمال خائبة بإعادة سيرتهم الأولى، واغتصاب القطر الفلسطيني من سكانه، ليجعلوه وطنا قوميا، ويقيموا فيه معالم الدولة التي تمتعوا بقسم منه ثلاثة قرون، وعجزوا عن الاحتفاظ بها ستة وعشرين قرنا منذ السبي الآشوري، في القرن الثامن قبل الميلاد حتى اليوم. فهذا الاحتلال القديم الذي يستندون إليه لم يكن حقا مشروعا، بل دخلوا البلاد بالقوة القاهرة، وأخرجوا منها بالقوة القاهرة، ومن أخذ بالسيف وأخذ منه بالسيف تتهاتر عنده الحجة؛ قهر بقهر، والبادئ «أظلم». تقوم الحكومة البريطانية اليوم بإعادة الكرة للمرة الثالثة، وتعتمد على مدافعها وطياراتها وسائر آلاتها الحربية، لتحمي أنصارها اليهود، وتقيم لهم وطنا قوميا، في سوريا الجنوبية، وستفشل خطتهم هذه المرة كما فشلت الخطط العنيفة التي تقدمتها في التاريخ؛ لأنها بنيت على فساد، ولا يدوم على الفساد شيء. الوعد البلفوري الشهير محكوم عليه بالفشل المحتوم، ولا بد أن يثوب ساسة الإنجليز إلى الرشد، ويعرفوا أن أمرهم بالتصرف بملك الغير باطل، بحكم كل شرع معروف، ومصدر هذا الأمر غير ملزم بتنفيذ أمره، ما دام البلد الفلسطيني ليس ملكا للواهب. بل هو ملك للعرب المقيمين فيه، منذ القديم، وما دام العرب لم يجيزوا هذا العقد الفضولي، وهم في جميع أقطارهم عازمون بالإيمان الذي لا يتزلزل على الاستعانة في مقاومة هذا العمل الجائر، والاستمرار بالكفاح مهما يطل أمده، وتتفاقم ويلاته.
المشكلة اليهودية أصبحت مشكلة عالمية لا تتسع فلسطين إلى تحملها، فهي إقليم صغير لا يمكن أن يستوعب - على فرض خلوه لهم - عشرهم، فأين يذهبون بالأعشار التسعة الباقية؟ يوم بذلوا لهم وعد بلفور لم تكن قائمة معاضل طردهم من أكثر البلاد، فالحال اليوم قد تبدلت تبدلا يوجب إعادة بهذا الوعد الأهوج والتطلع إلى قطر آخر يتسع لبضعة عشر مليونا منهم.
فصلوا المقاطعة الفسطينية عن أمها سوريا، لكي يسهل عليهم ازدرادها، ومزقوا سوريا إلى دويلات، وأحدثوا في كل دويلة مشاكل داخلية، لكي يخضدوا من شوكتها، ويلهوها بنفسها، ويحولوا دون نجدتها لإخوانها، وهم اليوم يقيمون العراقيل في طريق سوريا ليؤجلوا موعد استقلالها ريثما ينجزون خطتهم المشئومة باقتطاع هذا الشطر الغالي عنها، وإفراغه في حالة تتعذر معها وسائل الاسترداد.
فلسطين - أيها السادة - لا تستطيع أن تعيش وحدها مفصولة عن أمها سوريا، والشعب السوري برمته ومنه جميع الفلسطينيين العرب معتمدا على قوة الحق التي لا تغالب، منكر لهذا الانفصال، وثائر على كل أسلوب يرمي إلى تحقيقه، ومقيم على المطالبة والمواثبة بكل وسيلة مستطاعة، لتأييد حقه بالوحدة التامة، وإعادة فلسطين المغصوبة إلى الحظيرة السورية العربية، ليجتمع الشعب الواحد في كيان سياسي موحد، يتمكن من استثمار مواهبه في خدمة السلام. «هتاف وتصفيق».
حاولت أوروبا بأسرها انتزاع فلسطين من أيدي العرب في حملاتها الصليبية فلم تفلح إلا أمدا قصيرا، عادت بعدها بالخيبة والندم، فكان على الصهيونية ومناصريها أن يعتبروا بسوابق التواريخ، ويستفيدوا من عبره البارزة، ولا يغامروا باقتحام مشروع محروم من مبادئ العدل ومن عناصر النجاح. «تصفيق». (2) قرارات المؤتمر البرلماني العالمي
في الساعة الخامسة من مساء يوم الثلاثاء 17 من شعبان سنة 1357ه، 11 أكتوبر سنة 1938م، وافق المؤتمر بالإجماع على القرارات التالية:
صفحه نامشخص