فلما اطلع فريدريك على هذه الشروط اندهش غاية الاندهاش من مطالب الروسيا وأطماعها، وقد حصل وقتئذ أن رئيس أفندي - وهي وظيفة كانت في الدولة العلية بمثابة وظيفة ناظر الخارجية - أخبر سفيري النمسا وبروسيا أن الدولة العلية لا تقبل المخابرة مع الروسيا مباشرة بشأن الصلح، ولكنها تقبل توسط النمسا والبروسيا، وأبلغهما أنه أعلن ذلك للجنرال رومانتسوف.
وقد كتب فريدريك لما اطلع على شروط الصلح المبعوثة إليه من القيصرة إلى أخيه البرنس هنري - الذي كان لا يزال بسان بطرسبورغ - بتاريخ 3 يناير سنة 1771: «لقد اندهشت اندهاشا عظيما لما اطلعت على الشروط التي تقدمها الروسيا للصلح، وأنه يستحيل علي أن أقدمها للأتراك أو للنمساويين؛ لأنها شروط لا يمكن قبولها.» وأبان فريدريك في كتابه لأخيه أن هذه الشروط لا يمكن لدول أوروبا قبولها، وأنها تعتبر إعلان حرب للنمسا، وقد كتب بنفسه للقيصرة بتاريخ 5 يناير سنة 1771 أنها إذا كانت تريد اجتناب الحرب مع النمسا، يجب عليها أن تكتفي بأخذ أزوف والكاباردا وبحرية الملاحة في البحر الأسود.
وفي أثناء ذلك كانت القيصرة كاترينا تتحدث مع البرنس هنري بسان بطرسبورغ في أمر تقسيم بولونيا، فلما كتب البرنس هنري إلى أخيه بذلك سر ملك بروسيا حيث جاء هذا الأمر موافقا لرغائبه، واجتهد في جعل حل المسألة الشرقية في بولونيا فقط لعلمه بما لبقاء الدولة العلية من اللزوم والأهمية، فأراد تقسيم بولونيا على شرط أن الروسيا لا تأخذ البغدان والأفلاق.
وقد جرى عندئذ أن النمسا طمحت لمحالفة تركيا ضد الروسيا، والعمل للاستفادة من هذه المحالفة ولو ضد تركيا نفسها، فبعث «كونيتز» رئيس الوزارة النمساوية إلى المسيو «توجوت» سفير النمسا في الآستانة يأمره بمخابرة رجال الدولة العلية في أمر عقد محالفة بين النمسا وتركيا يشترط فيها أن تركيا تدفع سنويا للنمسا 34 مليونا من الفلورينو، أي فوق الثلاثة ملايين من الجنيهات، وأن تتنازل لها عن «الأفلاق» ومدينة بلغراد، وأن تجعل للنمساويين في ممالك الدولة العلية أهم الامتيازات التجارية، وفضلا عن كل هذه الشروط تقدم للنمسا في حالة الحرب من خمسين إلى ستين ألف مقاتل، وتشترط النمسا على نفسها مقابل ذلك أن تحارب الروسيا مع تركيا إذا لم ترض القيصرة بطريق المخابرات إعادة البلاد التي استولت عليها إلى الدولة العلية.
وقد سعى «كونيتز» عندئذ لدى فريدريك ملك بروسيا أن يبقى على الحياد إذا قامت الحرب بين النمسا والروسيا، ولكن فريدريك اتبع طريق المراوغة فلم يجب بجواب صريح.
أما فرنسا حليفة النمسا، فكانت تعمل في هذا الحين على مساعدة تركيا بأسطولها مقابل عوض مالي، ولكن «توجوت» سفير النمسا - الذي كان كاتب سرا الحكومة الفرنساوية كجاسوس لها مقابل أجرة شهرية، وكان في الحقيقة يغشها، ولا يخدم إلا مصلحة النمسا وطنه - بذل أقصى جهده من حين علم بهذا المشروع على إحباط مسعى فرنسا، فأبان لرجال الدولة العلية أن مساعدة الأسطول لا تفيد شيئا ما؛ لأن الحرب برية محضة لا بحرية، وأن قصد فرنسا ليس مساعدة الدولة العلية، بل معاداة الروسيا ومد أمد الحرب إلى ما شاء الله. فأفلح «توجوت» واقتنع رجال الدولة بصدق أقواله وصحة أفكاره، ورفضوا مشروع فرنسا.
وقد كان رجال الدولة العلية يؤملون أن اتفاق فرنسا مع الدولة يحمل النمسا - حليفة فرنسا - على مساعدة تركيا، ولكن النمسا كانت تخشى هذا الأمر لما فيه من التقيد لها، ولعلمها بأنها لا تستطيع أن تخدع تركيا إذا كانت فرنسا متحدة معها، بخلاف ما إذا كانت هي المتحدة مع الدولة العلية دون غيرها؛ ولذلك كان فشل مشروع فرنسا مضرا بالدولة العلية مفيدا للنمسا حليفة فرنسا!
ولما فشل مسعى فرنسا عمل «توجوت» على عقد التحالف بين النمسا وتركيا، ومن حسن حظ النمسا وقتئذ أن خضعت تاتار بلاد القرم للروسيا، وصارت كتاتار البسرابي، فاضطرت الدولة بهذا السبب لتعجيل الاتفاق مع النمسا وقبول معاهدة التحالف؛ فأمضت المعاهدة مساء يوم 6 يوليو سنة 1771، وشروط هذه المعاهدة: أن النمسا تتعهد بمساعدة تركيا ضد الروسيا، وعدم سلخ أي جزء من الأملاك العثمانية، والمحافظة على استقلال بولونيا مراعاة لشرف الدولة العلية، وأن تتعهد تركيا بدفع مبلغ 11350000 فلورينو للنمسا - لا 34 مليونا كما طلبت النمسا أولا - أي نحو المليون جنيها، وبالتنازل للنمسا عن أراضي «الأفلاق»، وبمساعدة الرعايا النمساويين في بلاد الدولة العلية على ترويج تجارتهم وصنائعهم، واشترط بين الدولتين المتعاهدتين أن هذه المعاهدة يكتم أمرها خصوصا على فرنسا حليفة النمسا إذ ذاك.
وقد رفع «توجوت» صورة هذه المعاهدة إلى حكومة دولته، وطلب التوقيع عليها.
فلما وصلت صورة المعاهدة إلى «كونيتز» اطمأن من جهة الدولة العلية، وأخذ يهدد الروسيا مؤملا بهذا التهديد حملها على مخابرته في شأن تقسيم الدولة العلية، وقد كان ذلك، وأرسلت الروسيا الكونت «ماسين» حاملا لجملة مشروعات تختص بالدولة العثمانية، ومكلفا من قبل القيصرة بعرضها على «كونيتز»، ومن ضمن المشروعات مشروعان يشتملان على عقد اتحاد بين النمسا والروسيا يكون غرضه الوحيد إخراج الأتراك من أوروبا، وتقسيم الدولة العلية. فالمشروع الأول: يبين صورة تقسيمها بين الدولتين بأن تأخذ النمسا صربيا والبوسنة والهرسك وألبانيا ومقدونيا، ويترك للروسية بقية أملاك الدولة العلية بما فيها الآستانة. وفي المشروع الثاني: تأخذ النمسا الأفلاق وصربيا وبلغاريا والهرسك، وتأخذ الروسيا مقدونيا وألبانيا ورومانيا وقسما عظيما من الأرخبيل وآسيا الصغرى والآستانة، وتأخذ كذلك الروسيا الأراضي الواقعة على شمال الدانوب، وشواطئ البحر الأسود. أما بلاد القرم والمورة فتبقى مستقلة.
صفحه نامشخص