مصیبت کبری

شبلی شمیل d. 1335 AH
49

مصیبت کبری

المأساة الكبرى: رواية تشخيصية في الحرب الحاضرة

ژانرها

الرئيس (للمدعي) :

عرج عن هذا الآن، وإن كان كلامك في محله.

المدعي (يمتثل) :

وإنه لغريب جدا أن أمة كالأمة الألمانية، حاصلة على قسط وافر من العلم؛ تخضع خضوعا أعمى لنظام إمبراطورية كنظام إمبراطوريتها عريق في الأثرة والاستبداد، وأغرب من ذلك دعواها بأنها - وهي في رق هذا الحكم - ذات «كولتور» يجعل تربيتها أرقى من تربية سائر الأمم العريقة في الحضارة. ونحن مع اعترافنا بأنها بلغت شأوا بعيدا في العلم والصناعة، ونالت امتيازات جمة على سواها، إلا أنه لا يجوز لنا أن نجهل أن هذا الكولتور الذي تفاخر به يجعلها عبدة لنظام حكومة يديرها فرد، أو أفراد غير مسئولين حقيقة، وقط ما كان العبد أرقى من الحر، وإذا كان في علمها وعملها شيء كثير من الإتقان، فإنك قلما تجد فيهما شيئا من الابتكار؛ لأن العبد إذا كان أصبر على العمل، فالابتكار من امتيازات الحر وحده، وإذا كنا نراها تتعمد الشر كثيرا لسواها، وتستخدم علمها لهذه الغاية خلافا للآخرين؛ فلأن ذلك من أخلاق العبيد أيضا.

ولولا أن تكون هذه الأخلاق غريزية في هذه الأمة لما مالأت إمبراطورها على جنايته الكبرى، مع ما هي عليه من العلم، ولأدركت حينئذ أن الأمم التي قامت لتذلها وسعت لتبيدها؛ لكي تحل محلها إنما هي أعضاء نافعة في جسم العمران، بل لعرفت أن نجاحها هي نفسها لا يتم لها بدون التعاون معها، ولجعلت تنازعها معها تنازع مباراة لمصلحة هذا الجسم، ولما استأنست بحلفاء السوء الذين هم لصوص الاجتماع، وكان ينبغي التحالف عليهم. ودعواها الطويلة العريضة أن مستواها أرقى من مستوى هذه الأمم، ويخولها حق السيادة عليها؛ دعوى تحتاج إلى دليل، ومنشؤها غرور المحدثين، وهو ابن عم الجهل المركب أو عينه، وهي لو غلب عقلها هواها لعلمت ما يعلمه كل واحد؛ وهو أن المفاضلة بينها وبين الأمم المذكورة في العلم والصناعة هي حتى الآن في مصلحة هذه الأمم لا في مصلحتها.

فالألمان حقيقة هم تجار علم أكثر منهم علماء، وهم مستثمرو اكتشافات سواهم أكثر منهم مبتكرين مخترعين، ونعني بسواهم اليوم الطليان والإنكليز والفرنساويين خاصة، حتى في أيام كبوتهم. وهؤلاء - أي: الفرنساويين - أنجبوا في قرنين من أبطال رجال العلم المبتكرين اثنين، لو اجتمع الألمان أكداسا بعضهم فوق بعض لما بلغوا مأبض ركبتهما، وهما: لامرك؛ مكتشف نظام الأحياء الكبرى الطبيعي، وأبو دروين الشهير، وباستور؛ مكتشف الأحياء الدنيا، وصاحب مذهب التعقيم والاختمار، والذي يعلم ما كان لهذا الاكتشاف من النفع العميم في الطب والزراعة والصناعة، يستطيع وحده أن يقدر فضل الرجل، فالأمة التي تنجب مثل هذين البطلين اللذين لا يقاس بهما أبطال، هل يجوز أن يقال إنها أمة يستغنى عنها ويجب سحقها؟ وهل يمكن سحق أمة هذا جوهرها مهما يبد عليها من التواني؟ ولقد أدرك الألمان اليوم على حسابهم أن السيد لا يصير عبدا للعبد، وقد رأوا ما فعلت هذه الأمة المجيدة في هذا الوقت القصير، حينما انصرفت إلى ما هم منصرفون له منذ نصف قرن، ولكنها أمة أنبل من أن تخدم العلم لتصرفه للشر نظيرهم، فدعوى الألمان لأنفسهم على سواهم دعوى فاسدة تستغرب منهم، لولا أن الغرور يعمي ويصم، ويذهب بالعقل كل مذهب.

وتستغرب منهم لولا وجود أناس فيهم كبرناردي، يعلمون أن تآخي البشر وتعاونهم لا يجوزان إلا في الأمة الواحدة، وإلا انقلبا إلى عداء، والحرب حينئذ بفظائعها فضيلة من فضائل الاجتماع. ولا أعلم مبلغ الدراهم التي قبضها على هذا القول الضليل خدمة لمقاصد إمبراطوره الشنيعة. والعلم عندهم لا ينفع إلا إذا تجمد مالا، وعلى هذه القاعدة الفاسدة جرت أمته في هذه الحرب الفظيعة عن علم وقصد لا يصفح عنهما، لا عن ضلال وجهل يستنكران، ولكن قد يعذران، فدمرت وقتلت وسوغت لنفسها كل شنيع وقبيح.

وإنه ليعجبني من قائل هذا القول قصر نظره مع طول دعواه؛ لأنه يزعم أنه يسير على مبدأ العلم الطبيعي، ولم يعتبر للعقل مزايا على الحيوان في التنازع، ولم يدرك الغاية من هذا التنازع، حتى في الطبيعة الغشيمة، وهي التوازن في نظام هذا الكون، وضم المتماثلات من الجزئي إلى الكلي، لا العبث بهذا النظام.

ولو أنه كان أقصر نظرا، ووقف في التنازع عن حد الفرد - وهو كل بنفسه - لا في أطراف الأمة؛ فلربما كان له من سوء فهمه في علمه عذر، ولكنه - وقد امتد بنظره إلى أطراف الأمة الواحدة، وقرر وجوب التعارف بين أفرادها، حتى تضحية النفس في سبيل مصلحة الكل - لم يبق له عذر في عدم إطلاقه هذا المبدأ على كل المجتمع البشري، ناظرا إليه نظر الفزيولوجي، ومتصرفا فيه تصرف الطبيب في الجسم الحي، فإذا كان أفراد البشر أعضاء في جسم الأمة، فالأمم مجاميع أعضاء في جسم العمران، فإذا كانت الأعضاء ومجاميعها سليمة، كان التنازع بينها تنازع مباراة وتواصل لمصلحة الكل، ولا يكون تنازع تقاطع مفككا لأوصالها، إلا إذا كانت فاسدة كلها أو بعضها.

فعلم منافع الأعضاء في الجسم الاجتماعي ينبغي أن يكون بنفس المقام الذي له في الجسم الحي، وطب الجسم الاجتماعي ينبغي أن يكون كطب الجسم الحي للذين يدعون أنهم في تعاليمهم يهتدون بهدي العلوم الطبيعية، وكم هم كثار الذين يفترون على هذه العلوم بسوء فهمهم، ولو أنهم - برناردي وقومه - من ذوي الأقدار. ولو اقتصر الأمر على هؤلاء وحدهم لهان، ولكن علو مقامهم يدفع كثيرين وراءهم من المتظاهرين بالفهم؛ فيتعلقون بزمكاهم، ويقولون قولهم؛ ليقال إنهم يفهمون، ولو أنهم على أنفسهم.

صفحه نامشخص