بسم الله الرحمن الرحيم وهو حسبي ونعيم الوكيل
الحمد لله رب العالمين، وصلواته وسلامه على سيدنا محمد عبده ورسوله -خاتم النبيين والمرسلين- والملائكة المقربين والصالحين من عباد الله أجمعين.
وبعد:
فهذه أوراق من التطوع بالصلوات في أحد المساجد الثلاثة التي تشد الرحال إليها، ووردت الأحاديث بمضاعفة الصلوات [و] الأجور فيها: هل فعلها فيها أفضل من فعلها في البيوت، أو الإتيان بها في البيوت أفضل كبقية المساجد؟
وهل مضاعفة أجور الصلوات في هذه المساجد الثلاثة يعم كلا من الفرض والنفل، أو يختص بالفرائض فقط؟ ما للعلماء في ذلك؟
اقتضى كتابتها كلام جرى مع إمام من أئمة المسلمين، وعلم من أعلم الدين، فتيسرت ببركته، وتحررت بجميل نيته، والله ولي التوفيق.
صفحه ۱۵
روى أبو هريرة رضي الله عنه: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام))، متفق عليه، وهذا لفظ البخاري.
ولفظ مسلم: ((خير من ألف صلاة في غيره من المساجد)).
وفي رواية لمسلم -أيضا-: ((أفضل من ألف صلاة فيما سواه)).
وأخرجه -أيضا- بهذا اللفظ من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن حديث ابن عباس رضي الله عنه، عن ميمونة أم المؤمنين رضي الله عنها، أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((صلاة فيه -يعني مسجده- أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا مسجد الكعبة)).
قال الشيخ محيي الدين رحمه الله: ((اختلف العلماء في المراد)
بهذا الاستثناء على حسب اختلافهم في مكة والمدينة: أيهما أفضل؟
صفحه ۱۶
فذهب الشافعي رحمه الله وجماهير العلماء إلى أن مكة أفضل من المدينة، وأن مسجد مكة أفضل من مسجد المدينة. وعكسه مالك وطائفة.
فعند الشافعي والجمهور، معناه: إلا المسجد الحرام، فإن الصلاة فيه أفضل من الصلاة في مسجدي.
وعند مالك وموافقيه: إلا المسجد الحرام، فإن الصلاة تفضله بدون الألف)).
وقال أبو العباس القرطبي في تقرير قول مالك: ((لا شك أن المسجد الحرام مستثنى من قوله : ((من المساجد))، وهي بالاتفاق مفضولة، والمستثنى من المفضول مفضول إذا سكت عليه، فالمسجد الحرام مفضول.
لكن لا يقال: إنه مفضول بألف؛ لأنه قد استثناه منها فلا بد أن يكون له مزية على غيره من المساجد، لكن ما هي؟ لم يعينها الشرع، .. فيتوقف فيها)).
صفحه ۱۷
وقال الإمام الحافظ أبو عمر بن عبد البر: ((قال عبد الله بن نافع الزبيري -صاحب مالك-: معنى هذا الحديث: أن الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من الصلاة في سائر المساجد بألف صلاة إلا المسجد الحرام، فإن الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من الصلاة بدون الألف)).
قال: ((وهذا التأويل -على بعده ومخالفة أهل العلم له- لا حظ له في اللسان العربي. وقد قال عامة أهل الأثر: الصلاة في المسجد الحرام أفضل من الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بمائة صلاة، ومن الصلاة في سائر المساجد بمائة ألف صلاة)).
ثم روى ابن عبد البر هذا القول عن سفيان بن عيينة وقتادة وعن ابن الزبير عن الصحابة رضي الله عنهم، وعن ابن وهب وأصبغ بن الفرج: أنهما كانا يذهبان إلى تفضيل الصلاة في المسجد الحرام على الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم .
قال: فهؤلاء أصحاب مالك قد اختلفوا.
صفحه ۱۸
وقد روينا عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وأبي الدرداء وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم: أنهم كانوا يفضلون مكة ومسجدها، وإذا لم يكن بد من التقليد فهم أولى أن يقلدوا من غيرهم الذين جاؤوا من بعدهم))، انتهى قول ابن عبد البر -رحمه الله- في كتاب ((الاستذكار)).
وقال فيه أيضا قبل ذلك: ((وأحسن حديث روي في ذلك: ما رواه حماد بن زيد وغيره عن حبيب المعلم، عن عطاء بن أبي رباح، عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من الصلاة في مسجدي هذا بمائة صلاة)).
وقال ابن أبي خيثمة: سمعت يحيى بن معين يقول: حبيب المعلم ثقة، .. .. [وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سمعت أبي يقول: حبيب المعلم ثقة. وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل:] (¬1) ما أصح حديثه. وسئل أبو زرعة الرازي عن حبيب المعلم [فقال]: بصري ثقة)).
قال أبو عمرو: ((وسائر الإسناد لا يحتاج إلى القول فيه.
وقد روي -أيضا- من حديث ابن عمر وحديث جابر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل حديث ابن الزبير رضي الله عنه)).
صفحه ۱۹
قلت: حديث ابن الزبير هذا صححه -أيضا- الحاكم في ((المستدرك))، وأخرجه ابن حبان في ((صحيحه)).
ثم قال ابن عبد البر: ذكر البزار قال: حدثنا إبراهيم بن حميد، قال: حدثنا محمد بن يزيد بن شداد، ثنا سعيد بن سالم القداح، ثنا سعيد بن بشير، عن إسماعيل بن عبيد الله، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((فضل الصلاة في المسجد الحرام على غيره مائة ألف صلاة، وفي مسجدي ألف صلاة، وفي بيت المقدس خمس مائة صلاة)). قال أبو بكر البزار: هذا حديث حسن.
قلت: هذا الحديث من أجود ما روي في مضاعفة الصلوات بالمسجد الأقصى؛ فإسماعيل بن عبيد الله: اتفق على الاحتجاج به، ويعرف بابن أبي المهاجر.
صفحه ۲۰
وسعيد بن بشير -وإن كان بعضهم تكلم فيه- قال فيه شعبة: كان صدوق اللسان، وقال ابن عيينة: كان حافظا، ووثقه دحيم وقال: كان مشايخه يوثقونه، وقال ابن أبي حاتم: رأيت أبي ينكر على من أدخله في كتاب الضعفاء، وقال: محله الصدق. وقال فيه ابن عدي: الغالب على كلامه الاستقامة.
وسعيد بن سالم القداح: قال فيه ابن معين: ليس به بأس، وقال أبو حاتم: محله الصدق، وقال فيه أبو داود [و] ابن عدي: صدوق.
وشيخ البزار فيه وشيخ شيخه لم يتكلم فيهما.
صفحه ۲۱
وقد رواه محمد بن إسحاق الصغاني -أيضا- عن محمد بن يزيد بن شداد الأزدوي، أخرجه من طريق القاسم بن عساكر في كتابه ((المستقصى))، وقد حسنه البزار كما تقدم، فالحديث خير رد.
وهو في مسند الإمام أحمد بن حنبل من هذا الوجه أيضا.
وأخرجه ابن ماجه في سننه بلفظ آخر من حديث أنس بن مالك بإسناد ضعيف.
وكذلك روي من طرق أخرى ضعيفة.
وفي هذا الإسناد كفاية، وبالله التوفيق.
قال القرطبي: اختلفوا في قوله صلى الله عليه وسلم : ((صلاة في)
مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه)). هل المراد بالصلاة هنا الفرض أو هو عام في الفرض والنفل؟
وإلى الأول ذهب الطحاوي، وإلى الثاني ذهب مطرف من أصحابنا.
صفحه ۲۲
وقال الشيخ محيي الدين رحمه الله في ((شرح مسلم)): ((اعلم أن مذهبنا: لا يختص هذا التفضيل في الصلاة في هذين المسجدين بالفريضة، بل يعم الفرض والنفل جميعا، وبه قال مطرف من أصحاب مالك، وقال الطحاوي [يختص] بالفرض، وهذا مخالف لإطلاق هذه الأحاديث الصحيحة، والله أعلم)).
وقال -أيضا- في كتابه هذا في باب استحباب صلاة النافلة في بيته: ((قوله صلى الله عليه وسلم : ((خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة))، هذا عام في جميع النوافل المرتبة مع الفرائض والمطلقة، إلا في النوافل التي هي من شعائر الإسلام، وهي: العيد والكسوف والاستسقاء، وكذا التراويح على الأصح؛ فإنها مشروعة في جماعة [في] المسجد، والاستسقاء في الصحراء، وكذا العيد إن ضاق المسجد، والله أعلم)).
وقال -أيضا في صدر هذا الباب-: ((وكذا ما لا يتأتى في غير المسجد كتحية المسجد، أو يندب كونه في المسجد وهو ركعتا الطواف)).
صفحه ۲۳
فظاهر هذا أنه لا فرق بين المساجد الثلاثة وبين غيرها في ترجيح فعل النوافل في البيت فيها؛ لأنه استثنى ركعتي الطواف، وهما يفعلان ندبا في المسجد الحرام خلف المقام، فبينه وبين كلامه الأول الذي اختار فيه تعميم المضاعفة في الفرض والنفل ما لا يخفى من التنافي إلا أن يقال: إن النافلة في أحد المساجد الثلاثة يكون أفضل من ألف مثلها في غير مسجد المدينة مثلا، ويكون فعل هذه النافلة في البيت الذي في تلك البلدة أفضل من فعلها في ذلك المسجد، وهذا فيه نظر أيضا؛ لأن هذه المضاعفة المخصوصة بهذه المساجد الثلاثة لو لم يختص كل مسجد بما جعله الشارع صلى الله عليه وسلم له من المضاعفة لم يبق لذلك المسجد مزية على غيره.
فإذا كانت النافلة في البيت تحصل المضاعفة فيها أكثر من ذلك المسجد، زالت تلك الخصوصية.
وأيضا، يلزم من ذلك استواء المساجد الثلاثة مع ما ليس بمسجد أفضل، وفيه ما فيه.
صفحه ۲۴
وقال الشيخ محي الدين -أيضا في ((شرح المهذب))-: ((قال أصحابنا: إن كانت الصلاة مما يتنفل بعدها فالسنة أن يرجع إلى بيته ليفعل النافلة، لأن فعلها في البيت أفضل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : ((صلوا أيها الناس في بيوتكم، فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة))، رواه البخاري ومسلم)).
وذكر أحاديث أخر وكلاما، ثم قال: (([قال] أصحابنا: فإن صلى النافلة في المسجد جاز وإن كان خلاف الأفضل؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم سجدتين قبل الظهر، وسجدتين بعدها، وسجدتين بعد المغرب، وسجدتين بعد العشاء، وسجدتين بعد الجمعة، فأما المغرب والعشاء ففي بيته))، رواه البخاري ومسلم)).
قال: ((فظاهره أن الباقي صلاها في المسجد لبيان الجواز في بعض الأوقات، وواظب على الأفضل في معظم الأوقات، وهو صلاة النافلة في البيت.
وفي الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ليالي رمضان في المسجد غير المكتوبات))، انتهى كلام الشيخ محيي الدين رحمه الله، وهو ظاهر في ترجيح فعل النافلة في البيت على فعلها في المسجد وإن كان أحد المساجد الثلاثة.
صفحه ۲۵
وقال -أيضا- في باب صلاة التطوع من ((شرح المهذب)): ((قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: فعل ما لا تسن له الجماعة من التطوع في بيته أفضل منه في المسجد وغيره، سواء في ذلك تطوع الليل والنهار، وسواء الرواتب مع الفرائض وغيرها. وعجيب من المصنف رحمه الله -يعني في ((المهذب))- في تخصيصه بتطوع النهار، وكان ينبغي أن يقول: وفعل التطوع في البيت أفضل، كما قاله في ((التنبيه))، وكما قاله الأصحاب وسائر العلماء)).
فظاهر هذا الكلام التعميم بالنسبة إلى المساجد من غير استثناء المساجد الثلاثة من غيرها.
وقال فيه -أيضا- في باب استقبال القبلة: ((قال أصحابنا: النفل)
في الكعبة أفضل منه خارجها، وكذا الفرض إن لم يرج جماعة، أو أمكن الجماعة الحاضرة الصلاة فيها، فإن لم يكن فخارجها [أفضل])).
ثم احتج لذلك بنص الشافعي رضي الله عنه، فإنه قال في ((الأم)): ((قضاء الفريضة الفائتة في الكعبة أحب إلي من قضائها خارجها)). قال: ((وكلما قرب منها كان أحب إلي مما بعد، وكذا المنذورة في الكعبة أفضل من خارجها)). قال الشافعي: ((ولا موضع أفضل ولا أطهر للصلاة من الكعبة)).
صفحه ۲۶
وهذا الكلام من الشيخ محي الدين رحمه الله يقتضي ترجيح النفل في الكعبة على غيره، وربما فيه منافاة للقولين اللذين تقدم نقلهما آنفا، اللهم إلا أن يقال: إن مراده أن صلاة النفل داخل الكعبة أفضل منها خارجها وإن كان فعلها في البيت أفضل.
وأما احتجاجه لذلك بما ذكر من نص الشافعي رضي الله عنه، ففيه نظر؛ لأن كلام الإمام الشافعي إنما هو في الفائتة والمنذورة، ولا يلزم من أفضليتهما في الكعبة أفضلية النفي؛ لدلالة الأحاديث الآتي ذكرها على أن فعل النافلة في البيت أفضل.
وقد أشار الشافعي رضي الله عنه إلى ذلك كما سيأتي إن شاء الله تعالى، على أن في ترجيح الصلاة داخل الكعبة على خارجها نظرا؛ لوجود الخلاف في صحة ذلك، وليس هذا موضع بسط الكلام في ذلك.
وقال الشيخ محيي الدين -أيضا- في ((شرح المهذب)) في باب صفة
صفحه ۲۷
الحج: ((اختلف العلماء في التطوع في المسجد الحرام بالصلاة والطواف أيهما أفضل؟ فقال صاحب ((الحاوي)): الطواف أفضل، وظاهر إطلاق المصنف في قوله [في] باب صلاة التطوع: (أفضل عبادات البدن الصلاة): أن الصلاة أفضل. وقال ابن عباس وعطاء وسعيد بن جبير ومجاهد، الصلاة لأهل مكة أفضل، والطواف للغرباء أفضل)).
وهذا الخلاف يقتضي أن يكون التطوع في المسجد الحرام أفضل منه في البيت؛ إذ لا يصح التفاضل بين الطواف الذي لا يصح فعله إلا في المسجد وبين الصلاة التي هي مفضولة بالنسبة إلى فعلها في البيوت، والله سبحانه أعلم.
فتحصل من هذا كله اضطراب النقل في النوافل: هل فعلها في المساجد الثلاثة أفضل أو في البيوت؟
والذي تقتضيه الأحاديث عند المحققين: أن فعلها في البيوت أفضل إلا ما شرع له الجماعة، كالعيد والكسوف والاستسقاء، وكذا التراويح على الأصح، وكذا ركعتا الطواف؛ اتباعا لفعله صلى الله عليه وسلم لهما خلف المقام، وكذلك تحية المسجد لاختصاصها بالمسجد، وما عدا ذلك ففعله في البيت أفضل؛ لدخوله تحت قوله صلى الله عليه وسلم : ((أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة))، وعدم ما يدل على إخراجه من هذا العموم.
صفحه ۲۸
وهذا الذي اختاره الإمام أبو عمر بن عبد البر، ونقله عن جماعة من الصحابة، وحكاه -أيضا- عن نص الشافعي، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
فأما الأحاديث الدالة على ذلك:
ففي الصحيحين: عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: ((احتجر النبي صلى الله عليه وسلم حجيرة بخصفة أو حصير في المسجد، وفي رواية: (([في] رمضان))، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فيها، قال: فتتبع إليه رجلان وجاؤوا يصلون بصلاته، قال: ثم جاؤوا ليلة فحضروا، وأبطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم فلم يخرج إليهم، فرفعوا أصواتهم، وحصبوا الباب، فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مغضبا فقال لهم: ((ما زال بكم صنيعكم حتى ظننت أنه سيكتب عليكم، فعلكم بالصلاة في بيوتكم؛ فإن خير صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة))، وهذا لفظ مسلم.
ورواه الدارقطني في سننه بإسناد الصحيح، ولفظه: ((فإن خير صلاة المرء في بيته إلا الجماعة)).
صفحه ۲۹
وأخرجه [الترمذي] مختصرا بلفظ: ((أفضل صلاتكم في بيوتكم إلا المكتوبة))، ثم قال: ((وفي الباب عن عمر بن الخطاب، وجابر بن عبد الله، وأبي سعيد، وأبي هريرة، [وابن عمر]، وعائشة، وعبد الله بن سعد، وزيد بن خالد الجهني)).
قلت: حديث أبي سعيد: أخرجه ابن خزيمة في صحيحه من حديث جابر، عن أبي سعيد رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا قضى أحدكم صلاته في المسجد فليجعل لبيته نصيبا من صلاته؛ فإن الله عز [وجل] جاعل في بيته من صلاته خيرا)).
ثم رواه عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير ذكر أبي سعيد.
وحديث عبد الله بن سعد: رواه الترمذي والنسائي في سننهما، وابن خزيمة في صحيحه، عن عبد الله بن سعد قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في بيتي والصلاة في المسجد، فقال صلى الله عليه وسلم : ((قد ترى ما أقرب بيتي من المسجد، ولأن أصلي في بيتي أحب إلي من أن أصلي في المسجد إلا المكتوبة))، وهذا لفظ ابن خزيمة في صحيحه.
صفحه ۳۰
وروى فيه -أيضا- عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة، عن أبيه، عن جده رضي الله عنه قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة المغرب في مسجد بني عبد الأشهل، فلما صلى قام ناس يتنفلون، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((عليكم بهذه الصلاة في البيوت))، ورواه النسائي أيضا.
وعن محمود بن لبيد رضي الله عنه قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني عبد الأشهل، فصلى بهم المغرب، فلما سلم قال لهم: ((اركعوا هاتين الركعتين في بيوتكم))، قال عاصم بن عمر بن قتادة: فلقد رأيت محمود بن لبيد وهو إمام قومه يصلي بهم المغرب، ثم يخرج فيجلس بفناء المسجد حتى يقوم قبيل العتمة فيدخل البيت فيصليهما، أخرجه ابن خزيمة في صحيحه أيضا.
فهذه الأحاديث كلها دالة دلالة قوية ظاهرة على ترجيح فعل النافلة في البيوت على فعلها [في المسجد] وإن كان أحد المساجد الثلاثة، كما دل عليه حديث عبد الله بن سعد المتقدم ذكره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رجح الصلاة في بيته على الصلاة في مسجده الذي هو أحدها، فهو صريح في المقصود.
ومثله رواية أبي داود لحديث ابن ثابت الآتي ذكره إن شاء الله تعالى.
صفحه ۳۱
وهذا أولى بالترجيح من طريق الجمع بينهما .
لأنه قد يقال: إن قوله صلى الله عليه وسلم : ((صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه)) -وكذلك بقية الأحاديث التي تشبهه- عام في جميع الصلوات كما تقدم من اختيار الشيخ محيي الدين رحمه الله في شموله الفرض والنفل، فلم يدخله تخصيص شيء. وقوله صلى الله عليه وسلم : ((أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة))، وإن كان عاما، فقد اختص بأشياء، منها ما شرعت فيه الجماعة، وكذلك تحية المسجد وركعتا الطواف وغير ذلك، وإذا تعارض عامان وأحدهما قد خص والآخر باق على عمومه، قدم الباقي على عمومه على الذي دخله التخصيص.
وجواب هذا أولا: بمنع العموم في قوله صلى الله عليه وسلم : ((صلاة في مسجد هذا خير من ألف صلاة فيما سواه)) وأمثاله من الأحاديث؛ فإنها نكرة في سياق الإثبات، ولا عموم لها على الراجح، بل هو مطلق في كل الصلوات، والمطلق لا عموم له إلا على جهة البدل، فأما عموم الشمول فلا.
صفحه ۳۲
وثانيا: أنه على تقدير تسليم العموم فيه، فليس هذا من باب العامين المتعارضين، بل الأحاديث الدالة على ترجيح فعل النافلة في البيوت أخص بالنسبة إلى الصلوات، وإن كان قد خرج منها بعض النافلة، فهي خاصة من حيث اعتبار النفل والفرض وتناولها للنفل فقط وإن كانت عامة في جميع صلوات النفل، وقد خرج بعضها بدليل، فلا ينافي ذلك كونها خاصة بالنسبة إلى جميع أنواع الصلوات، فصلاة النفل: نوع بالنسبة إلى مطلق الصلاة، جنس بالنسبة إلى أفرادها من الرواتب وغيرها وما شرع فيه الجماعة.
ثم هي متناولة لمحل النزاع، وهو الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أحد المساجد الثلاثة بطريق التنصيص، وذلك في حديث عبد الله بن سعد الذي تقدم ذكره والتنبيه عليه.
وفيما أخرجه أبو داود في سننه قال: حدثنا أحمد بن صالح، ثنا عبد الله بن وهب، أخبرني سليمان بن بلال، عن إبراهيم بن [أبي] النضر، [عن أبيه]، عن بسر بن سعيد، عن زيد بن ثابت رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا إلا المكتوبة)).
وهذا الإسناد على شرط البخاري -سوى إبراهيم بن أبي النضر- فقد احتج بهم كلهم سواء. وإبراهيم هذا وثقه محمد بن سعد وأبو حاتم بن حبان، ولم يضعفه أحد، وقد ثبته الإمام أبو عمر بن عبد البر واحتج به،
صفحه ۳۳
فقال في كتاب ((الاستذكار)). ((اختلفوا في الأفضل من القيام مع
الناس، أو الانفراد في شهر رمضان؟ فقال مالك والشافعي: المنفرد في بيته في رمضان أفضل.
قال مالك: وكان ربيعة وغير واحد من علمائنا ينصرفون ولا يقومون مع الناس. قال مالك: وأنا أفعل ذلك، وما قام رسول الله إلا في بيته.
قال: واحتج الشافعي بحديث زيد بن ثابت رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في قيام رمضان: ((أيها الناس: صلوا في بيوتكم؛ فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة)).
قال الشافعي: ولا سيما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي مسجده، غير ما في ذلك من الفضل.
قلت: فهذا نص من الشافعي رضي الله عنه على ترجيح النافلة في البيوت على فعلها في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لدلالة القصة والأحاديث عليه)).
ثم قال ابن عبد البر: ((وروينا عن عمر رضي الله عنه وسالم والقاسم وإبراهيم ونافع: أنهم كانوا ينصرفون ولا يقومون مع الناس.
وجاء عن عمر وعلي رضي الله عنهما، أنهما كانا يأمران من يقوم للناس في المسجد، ولم يجئ عنهما أنهما كانا يقومان معهم)).
صفحه ۳۴