كتاب - مسائل نحو مفردة - محققا
1 سئل الشيخ أبو البقاء عبد الله بن الحسين بن عبد الله العكبري رحمه الله عن قوله تعالى : [ وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها ] (1) وقد قيل : إذا اجتمع المذكر والمؤنث غلب جانب المذكر ، وههنا غلب جانب المؤنث ، وقد قيل : كان ينبغي أن يكون الضمير مثنى ، فما وجه ذلك ؟
صفحه ۸
... فأجاب : أما قوله [ انفضوا إليها ] جعل الضمير للتثنية ، فلا يدل اللفظ عليه ، لأنه قال : [ تجارة أو لهوا ] ، و[ أو ] لأحد الشيئين ، فلا يجوز أن يعود الضمير إلى الاثنين ؛ لأن ذلك حكم الواو التي هي للجمع ، ولهذا لو قلت : زيد أو عمرو قائما ، لم يجز ، بل تقول : زيد أو عمرو قام ؛ لأن المعنى أحدهما قام ، وأما جعل الضمير مؤنثا ففيه أجوبة :
أحدها : أنه أعادها إلى التجارة ؛ لأن سبب نزول الآية ، تفرقهم لأجل التجارة ، وذلك أن جلبا (2) ورد المدينة ، فسمع بذلك الصحابة ، ففارقوا الرسول صلى الله عليه وسلم ، وخرجوا ينظرون إليها ، والاعتناء بالأسباب أولى (3) 0
والوجه الثاني : أن كل تجارة لهو ، أي : يلهى بها عن الطاعة ، وليس كل لهو تجارة ، فكان الضمير عائدا على ما اشتمل عليه المعنيين ، ولو أعيد على اللهو للزم إلغاء التجارة 0
والثالث : هي المعطوف عليها ، والبداية بالشيء تدل على الاهتمام به ، فالضمير يعود على الأهم ، ثم يعود حكم المعطوف من التشريك بحكم العطف 0
والرابع : أن الضمير يعود على أحد الشيئين ، ويكتفى به ؛ لأن حكم الآخر كحكم المذكور ومثله قول الشاعر (4) : ( من الكامل )
... وكأن في العينين حب قرنفل ... ... أو سنبلا (5) كحلت به فانهلت
-27-
فأعاد الضمير إلى أحد المعنيين ، وفهم من ذلك التنبيه على الأخرى ، وكذلك قول الآخر(1)
... ... لمن زحلوقة زل ... ... ... بها العينين تنهل (2) ( الهزج )
فأعاد الضمير إلى الخصلة المذمومة ، فالتجارة خصلة ، واللهو خصلة ، فأتى بالضمير الجامع بالمعنى دون اللفظ ، وهذا كما في المذكر في قوله ( تعالى ) (3) :[ ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا ] (4) أي : بذلك الفعل الذي هو خطيئة ، أو إثم ، وكذلك قوله تعالى : [ والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله ] (5) فأعاد الضمير عند قوم إلى الفضة ؛ لأنها أقرب المذكورين ، وقال آخرون : الذهب يؤنث أيضا ، وقال قوم : إنه أعاد الضمير إلى الأموال ؛ لأن الذهب والفضة أموال ، وقال قوم : الذهب جنس ، والفضة جنس ، وكل جنس يشتمل على أنواع ، فعاد الضمير على أنواع الجنسين ، وهذا كقوله تعالى : [ فإذا هم فريقان يختصمون ] (6) فكل واحد من الفريقين يشتمل على آحاد ، فكان الاختصام راجعا إلى آحاد الفريقين ، لا إلى لفظ الفريقين ، والله أعلم 0
2 وقال رحمه الله : سألني سائل عن قوله صلى اله عليه وسلم : " إنما يرحم الله من عباده الرحماء " (7) فقال : أيجوز في الرحماء النصب والرفع ؟ وذكر أن بعضهم زعم أن الرفع غير جائز ، فأجبت وبالله التوفيق بأن الوجهين جائزان ، أما النصب فله وجهان :
صفحه ۱۰
أقواهما : أن تكون (ما) كافة لإن عن العمل ، فلا يكون في الرحماء على هذا إلا النصب ؛ لأن ( إن ) إذا كفت عن العمل ، وقعت بعدها الجملة من الفعل والفاعل ، والمبتدأ والخبر ، ولم يبق لها عمل ، فيتعين حينئذ أن تنصب الرحماء بيرحم ، إذ لم يبق له تعلق بإن ، ومثله [ إنما حرم عليكم الميتة ] (8) على قراءة من نصب (9) ، والفائدة من دخول ما على هذا الوجه إثبات المذكور ، ونفي ما عداه ، ومعنى ذلك : أن تثبت رحمة الله (10) للرحماء دون غيرهم 0
صفحه ۱۱
-28- والوجه الثاني : أن تكون (ما) زائدة ، و( إن ) بمعنى نعم ، وزيادة ( ما ) كثير ، قال الله تعالى : [ فبما نقضهم ميثاقهم ] (1) وقال الله تعالى [ فبما رحمة من الله ] (2) ، ووقوع ( إن ) بمعنى نعم كثير أيضا ، فمنه قوله تعالى : [ إن هذان لساحران ] (3) في أحد القولين (4) ومنه قول ابن الزبير ، حين قال له رجل (5) : لعن الله ناقة حملتني إليك ، فقال : إن وراكبها ، وهو كثير في الشعر ، فإن قيل : إنما يجيء ذلك بعد كلام تكون ( إن ) جوابا له ، ولم يسبق ما يجاب عنه بنعم ، قيل : إن لم يسبق لفظا ، فهو سابق تقديرا ، فكأن قائلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أيرحم الله من عباده من يرحم الخلق وإن كان مقصرا فيما بينه وبين الله ؟ فقال : نعم ، وهذا مما يجوز أن يسأل عنه ، لأن تقصيره فيما بينه وبين الله ربما أوهم أنه لا يمحى برحمته للخلق ، وعلى هذا الوجه أيضا لا يجوز في الرحماء غير النصب 0
... وأما الرفع فجائز جوازا حسنا ، وفيه عدة أوجه :
أحدها : أن تكون ( ما ) بمعنى الذي ، والعائد إليها محذوف ، والرحماء خبر ( إن ) ، والتقدير : إن الفريق الذي يرحمه الله من عباده الرحماء ، فإن قيل : يلزم من ذلك أن تكون ( ما ) ههنا لمن يعقل ، ففيه جوابان :
أحدهما : أن ( ما ) قد استعملت بمعنى ( من ) فمن ذلك قوله تعالى : [ ما طاب لكم من النساء ] (6) ومنه قوله تعالى : [ والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم ] (7) وهو كثير في القرآن ، ومنه [ والسماء وما بناها والأرض وما طحاها ] (8 في أصح القولين (9) ، وحكى أبو زيد عن بعض العرب : سبحان ما سبحتن (له ) (10) ، وسبحان ما سخركن لنا 0
صفحه ۱۳
-29- والثاني : أن ( ما ) تقع بمعنى الذي بلا خلاف ، والذي تستعمل فيمن يعقل ، وفيما لا يعقل ، وإنما يعرف ذلك بما يتصل بها ، فإن اتصل بها ما يدل على أنها لمن يعقل، حملت عليه ، وإن دل على أنها لما لا يعقل ، حملت عليه ، وكذلك في ( ما ) ، لا سيما إذا اتصل بها ما تصير به وصفا ، وإنما تفترق ( ما ) و( الذي ) في أن الذي توصف بلفظها ، وما لا توصف بلفظها ، فإن قيل : كيف يصح هذا والرحماء جمع ، وما بمعنى الذي مفردة ، والمفرد لا يخبر عنه بالجمع ؟ قيل : (ما ) يجوز أن يخبر عنها بلفظ المفرد تارة ، وبلفظ الجمع أخرى ، مثل ( من ) و( كل ) ، كقولك : ما عندي ثياب ، وما عندي ثوب ، ولا خلاف في ذلك ، كما إنه لا خلاف في قولك : جاءني من تعرفه ، ومن تعرفهم ، ومنه قوله تعالى : [ ومنهم من يستمع إليك ] (1) وقال في آية أخرى :[ ومنهم من يستمعون إليك ](2) وكذلك قوله عز وجل :[ بلى من أسلم وجهه لله ] (3) ثم قال [ ولا خوف عليهم ] ( 4) ، وقال في كل : [ وكل أتوه داخرين ] (5) و[ كلهم آتيه يوم القيامة فردا ] (6) ، فالأفراد محمول على لفظ ( من ) و( ما ) و( كل ) والجمع محمول على معانيها0 وأما الذي فقد استعملت مفردة للجنس ، ورجع الضمير تارة إلى لفظها مفردة ، وتارة (7) إلى معناها مجموعا ، قال الله تعالى : [ مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم ] (8) فجاء بالضمير مفردا وجمعا ، وقال الله تعالى : [ والذي جاء بالصدق وصدق أولئك هم المتقون ] (9) فهي مثل الآية الأولى ، ومنه قول الشاعر (10) :
(و) إن الذي حانت بفلج دماؤهم هم القوم كل القوم يا أم خالد ( الطويل )
-30-
فأعاد الضمير بلفظ الجمع لا غير ، وإذا جاء ذلك في ( ما ) و( الذي ) والتي ما بمعناها ، كان ذلك سائغا في الخبر ، من غير دافع عنه ، ولك على هذا الوجه أن تجعل أن العاملة ، وأن تجعلها بمعنى نعم ، على ما سبق 0
الوجه الثاني من وجوه ( ما ) التي يجوز معها رفع الرحماء : أن تكون ( ما ) نكرة موصوفة في موضع فريق أو قبيل ، و( يرحم ) وصف لها ، و( الرحماء ) الخبر ، والعائد من الصفة إلى الموصوف محذوف تقديره : إن فريقا يرحمه الله الرحماء ، فإن قيل : كيف يصح الابتداء بالنكرة ، والإخبار بالمعرفة عنها ؟ قيل : النكرة هنا قد خصصت بالوصف ، والرحماء لا يقصد بهم قوم بأعيانهم ، فكان فيه لذلك نوع من إبهام ، فلما قرنت النكرة هنا بالصفة من المعرفة ، وقربت المعرفة من النكرة ، بما فيها من إبهام ، صح الإخبار بها عنها ، على أن كثيرا من النكرات تجري مجرى المعارف في باب الإخبار ، إذا حصلت من ذلك فائدة ، والفائدة هنا حاصلة 0
والوجه الثالث : أن تكون ( ما ) مصدرية ( و) (1) في تصحيح الإخبار عنها بالرحماء ثلاثة أوجه :
صفحه ۱۵
أحدها : أن يكون المصدر هنا بمعنى المفعول ، تقديره : إن مرحوم الله من عباده الرحماء ، ومثل ذلك قوله تعالى : [ هذا خلق الله ] (2) أي : مخلوق الله ، قال الله تعالى : [ والله مخرج ما كنتم تكتمون ] (3) ، قال أبو علي : لك أن تجعل ما مصدرية ، أي : مخرج كتمانكم ، وكتمانكم بمعنى مكتومكم ، لأن حقيقة الكتمان لا تظهر ، وإنما يظهر المكتوم ، وأنشد سيبويه (4) : ( من الخفيف )
أرواح مودع أم بكور ... ... ... أنت فانظر لأي حال تصير
إن شئت كان التقدير : أرائح أنت أم مبتكر ؟ وإن شئت كان التقدير : أمروح أنت أم مبكر بك ؟ ومنه قولهم : هذا درهم ضرب الأمير ، أي : مضروبه ، وهذا ثوب نسج اليمن ، أي : منسوجه ، وهذا درهم وزن ، أي : موزون ، وهو كثير 0
-31-
والوجه الثاني : أن المضاف إلى المصدر أو إلى الخبر محذوف ، فيجوز أن يكون التقدير : إن ذوي رحمة الله من عباده الرحماء ، أي : المستحقون لها ، ويجوز أن يكون التقدير إن رحمة الله حق الرحماء ، ومثل هذين الوجهين قوله تعالى : [ ولكن البر من آمن ] (1) تقديره : ولكن ذا البر من آمن ، أو ولكن البر بر من آمن 0
صفحه ۱۶
والوجه الثالث : ألا تقدير حذف مضاف ، غير أنك تجعل الرحماء هم الرحمة ، على المبالغة ، كما قالوا : رجل عدل ، ورجل زور ، ورجل علم ، وقوم صوم ، إذ (2) كثر ذلك منهم ، ومنه قول الخنساء (3) : ( من البسيط ) ... ... ترتع ما رتعت حتى إذا ادكرت فإنما هي إقبال وإدبار
فثبت بمجموع ما ذكرناه وهاء قول من زعم امتناع الرفع في الرحماء 0
3 ومن كلامه أيضا في لو :
... أما لو فتقع في الكلام على ثلاثة أوجه :
أحدها : امتناع الشيء لامتناع غيره 0
والثاني : بمعنى إن الشرطية ، كقوله تعالى : [ ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم (4) 0
والثالث : أن تكون بمعنى أن الناصبة للفعل المستقبل ، ولكنها لا تنصب ، وهو كثير في القرآن والشعر، فمن ذلك قوله تعالى : [ ودوا لو تكفرون ] (5) (و) (6) [ يود المجرم لو يفتدي ] (7) و[ ودوا لو تدهن فيدهنون ] (8) ولا يجوز أن تكون للامتناع ،(9) إذ لا جواب لها ، ولأن ود لا تعلق عن العمل إذ ليس من باب العلم والظن ، ويدل على أن معناها أن الناصبة أنها قد جاءت بعدها صريحة في قوله تعالى : [ أيود أحدكم أن تكون له ] (10) ، فإن قيل : فإذا كانت بمعنى أن فلم لم تنصب ؟ قيل : لأن لو قد تعددت معانيها فلم تختص ، وجرت لذلك مجرى حتى في الأفعال 0
-32-
والقسم الأول من أقسام لو يرد في اللغة على خمسة أوجه :
أحدها : أن تدل على كلام لا نفي فيه ، كقولك : لو قمت قمت ، ويفيد ذلك امتناع
صفحه ۱۷
قيامك لامتناع قيامه 0 والثاني : أن تدخل على نفيين ، فيصير المعنى إلى إثباتها ، كقولك : لو لم تزرني لم أكرمك ،
أي : أكرمتك لأنك زرتني ، فانقلب النفي ههنا إثباتا ، لأن لو امتناع ، والامتناع
نفي ، والنفي إذا دخل على النفي صار إيجابا 0
والثالث : أن تكون للنفي فيما دخلت عليه ، دون جوابها ، كقولك : لو لم تشتمه لأكرمك ،
فالشتم واقع ، والإكرام منتف ، فالامتناع أزال النفي ، وبقي الإيجاب بحاله 0
والرابع : عكس الوجه الثالث ، وهو قولك : لو أحسن إليك لم تسىء إليه ، والمعنى معلوم 0
والخامس : أن تقع للمبالغة ، فلا تفيد مفادها في الوجوه الأولى ، وذلك كقول عمر :
" نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه " والمعنى أنه لو لم يكن عنده خوف لما
عصى ، كيف يعصي وعنده خوف ؟ ولو لم يرد المبالغة ، لكان معنى ذلك : إنه
يعصي الله لأنه يخافه 0
4 ومن كلامه في إذا الزمانية :
... إذا كان لها جواب كان هو الناصب لها ، كقولك : إذا جئتني أكرمتك ، فإذا منصوبة بأكرمتك ، فإن لم يكن بعدها جواب ، عمل فيها ما قبلها ، كقولك : لأكرمنك إذا جئتني ، ومنه قوله تعالى : [ ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم ] (1) 0
5 وسئل رحمه الله عن قوله صلى الله عليه وسلم : " نحن أحق بالشك من إبراهيم ، فقيل : هذا يدل على أن إبراهيم شك في إحياء الموتى ، ولا يجوز ذلك على الأنبياء ، فقال : إن إبراهيم لم يشك ، ولفظ الآية (2) لا يدل على لشك ، إذ ليس فيها حرف يدل على الشك ، وإنما طلب من الله تعالى أن يعرفه كيفية الإحياء ، ومن طلب كيفية شيء فهو معترف بأصله ، وإنما طلب أن يعرف على أي وجه يقع ، وأما قوله عليه السلام : " نحن أحق بالشك " فمعناه : أنه
كأن قائلا قال : قد شك إبراهيم حتى سأل أن يرى ذلك حقيقة ؛ ليطمئن قلبه ، فقال عليه السلام : لم يكن ذلك من إبراهيم شكا ، وإنما كان سؤالا عن الكيفية ، ولو تطرق الشك على إبراهيم ؛ لتطرق إلينا ، وإبراهيم قد عرف الربوبية والوحدانية قطعا بالأدلة ، وهو ما تضمنته آيات الأنعام (1) من قوله : [ هذا ربي ] ثم اعترف باليقين حتى قال : [ إني بريء مما تشركون ] [ إني وجهت وجهي ] الآية (2) ، فلما ثبت ذلك عنده ، امتنع أن يتطرق الشك إليه ، وإنما أراد زيادة اليقين في الإحياء ، وإن المعاينة أقوى من الخبر ، وإذا لم يتطرق الشك إلى من بعد إبراهيم ، فأولى ألا يتطرق الشك إليه ، فإن حاله في اليقين فوق حال غيره ، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يشك في الإحياء انتفى الشك عن إبراهيم ضرورة 0
... ... ... ... والله أعلم 0
صفحه نامشخص