بسم الله الرحمن الرحيم (١)
الاستعانة بالله، هذه المسائل الحلبية لأبي علي الفارسي مخروم منها نحو كراسين، وقفها مالكها محمد محمود بن التلاميد على عصبته بعده وقفًا مؤبدا، فمن بدله فإثمه عليه. وكتبه محمود بن التلاميد التركزي غرة المحرم سنة ١٣٠١.
...
"ملقى واحف" والمعنى: أي بمكان إلقاء واحف، وهذا اتساع، وإنما يريد بمنقطعه؛ لأنه أراد: انقطع عنه، فكأنه قد ألقاه؛ ألا ترى أن الشيء المنقطع من الشيء مباين له، كما أن الملقى مفارق للملقي، وليس "الملقى" باسم مكان هنا، ولكنه كـ "المجرى" و"المرسى" في من قرأ
_________
(١) البسملة ليست في الأصل.
1 / 5
"باسم الله مجراها ومرساها" وقول النابغة:
كأن مجر الرامسات ذيولها ... عليه قضيم نمقته الصوانع
قالوا: القضيم: ما كان من أدم خريز نحو الإداوة، والقربة، والمزادة.
1 / 6
مسألة القول في حروف "يدٍ" وما تصرّف منها
قولهم "يدٌ" كلمة نادرة لا نعرف لها نظيرًا في كلامهم، وذلك أن الفاء منه ياء، والعين دال، واللام أيضًا ياء، يدل على ذلك قولهم: "يديت إليه يدًا"، فظهرت اللام الساقطة من "يدٍ" في اشتقاق الفعل منه، كما ظهرت الواو المحذوفة من "غدٍ" في قوله ﴿وإذا غدوت من أهلك﴾، وهذا مثل قولهم "شعَّرت الجنين" و" استحجر الطين" في أنه مأخوذ من اسم ليس بعبارة عن حدث، وليس مثل "دمٍ" لأن دمًا من قولك "دمي يدمى دمًا" الذي يجوز أن يكون فعلًا مثل "الفرق" لمجيء الماضي على "فَعِل"؛ "فَعَلًا" في مصدر "فَعِل" مطرد، وليس في مصدر "فعلت" من الياء كذلك. ويدل على أن "دمًا" مصدرٌ إنشادهم هذا البيت:
1 / 7
(فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ... ولكن على أقدامنا يقطر الدما)
فـ "يدٌ" من باب "سلس" و"قلق"، ولا يُعلم ف يالواو مثل هذا في الفعل؛ ألا ترى أنه لم يوجيء مثل "وعوت"، وقد جاء في اسم واحد، وهو قولهم "واوٌ" والقياس في الألف منها أن تكون منقلبة عن ياء. وجاءت الهمزة أيضًا فاء ولامًا في أحرف، وذلك قولهم "أجأ". وحكى ابن حبيب "أتأة" وهو اسم مخصوص. وقالوا "آءة" وفي جمعها: "آءٌ". وذهب سيبويه في "آلاءة" و"أشاءة" إلى أنه من هذا البا. فأما "الأَباء"
1 / 8
فكان محمد بن السري يذهب إلى أن الهمزة فيها منقلبة عن الياء. وقالوا في اسم علم "أجأ".
وجاء الفاء والعين واوين، وهو قولهم "أول"، ولم يجئ مثل ذلك في الياء. وجاءت الياء والواو جميعًا في باب "رددت"، فالواو نحو "قوة" و"حوّة" و"صوّة" و"الجوّ" و"التوّ". وفي التاء: "حيي" و"عيي بأمره" و"تئية" و"إيا الشمس" و"إياؤها".
ولم تجئ العين ياء واللام واوًا / في اسم ولا فعل، وأما "حيوة" للاسم ال علم، و"الحيوان" فالواو فيه بدل. وقد جاء عكس هذا كثير، نحو "طويت" و"لويت" و"زويت" و"رويت". وجاء الواو فاء والياء عينًا في
1 / 9
"ويل" و"ويح" و"ويس". وعكس هذا قولهم "يوم". وقرأت بخط محمد بن يزيد "يُوح" في اسم الشمس.
فأما الهمزة فإنها قد جاءت في باب "سلس" و"قلق" في الح روف التي تقدمت، ولم تجئ في باب "رددت" ولا باب "ددنٍ" و"كوكب" لما كان يلزم من إبدالها وقلبها إلى حرف اللين، كما يلزم ذلك إذا دخلت همزة زائدة أو مبدلة على أخرى أصل أو زائدة نحو "آدم" و"آمن" و"جاءٍ" و"خطايا"، فإذا لم يتواليا في كلمة وإحداهما زائدة، فألا يتواليا وكلاهما أصل أجدر.
قال التوزي: "ثوبٌ يديٌّ: إذا كان ضيق الكم، وإذا كان واسعه"، وأنشد:
بالدهر إذ ثوب الصبا يديُّ
1 / 10
وحكى يعقوب أن بعضهم قال في اليد: "أديٌ"، فأبدل الهمزة من الياء، وأظهر اللام. قال أبو علي: فهذا ينبغي أن يكون لغة في "اليد" كما كان "أكدت" و"كدت" و"آصدت" و"أصدرت"، وما حكاه أبو زيد من قولهم "يفعة" و"وفعة" لغات في هذا الكلم؛ لأن الهمزة لم تبدل من الياء المفتوحة في هذا النحو، كما أن هذا يحمل على أنه لغتان، وليس ببدل من الفاء. وكذلك "أسروع" و"يسروع"، فـ"أسروع" مثل "أخدود" و"يسروع" مثل "يعفور"، إلا أن الياء ضمت لضمة الفاء كقولهم "مغلوق".
ومثل "يدٍ" و"أدي" قولهم:
(............................ ... طاف والركب بصحراء أسر)
ويروى: "يُسُر".
وقال النوزي: "يقول أهل الحجاز: آدِني عليه، أي: أعِنِّي عليه، ويقولون: استأديته يريدون: استعديته" فقولهم "آدِني عليه" يحتمل ثلاثة أوجه:
1 / 11
يجوز أن يكون أبدلت من العين التي هي فاء الهمزة، وكان الأصل "أعدني": "قوني"، وأنشد يعقوب:
(ولقد أضاء لك الطريق وأنهجت ... سبل المسالك، والهدي تعدي)
قال: "يقول: إبصارك الهدى يقويك". وكأن معنى قول الرعية لسلطانها: أعدني على خصمي: قوِّني.
ويجوز أن تكون الهمزة غير بدل، ولكنها من الأداة، والمعنى قريب من المعونة، كأن إعانته كالأداة التي يتقوى بها عليه. ومثل بدل الهمزة من العين في "أعدني" إبدالها من الهاء في "آلٍ".
ويجوز في "آدني" أن يكون / "أفعلني" من "اليد" في من أبدل من الياء التي هي فاء همزة، كأنه أراد: اجعلني ذا يدٍ وقوة عليه.
وذكر محمد بن يزيد "آدني" في كتابه في "إعراب القرآن"، وأجاز فيه الوجه الأول، وهو إبدال الهمزة من العين، وأجاز فيه أن يكون "أفعلني" من "الأيد"، وهو القوة.
قال أبو علي: فأما الوجه الأول فسائغ، وأما الوجه الآخر فشبيه بالسهو؛ لأن "الأيد" و"الآد" المراد بهما القوة، الهمزة منه فاء والياء عين، فلو بنيت من هذا "أفعلني" للزم أن تقول "أيدني"، فتبدل من الهمزة التي هي فاء الألف،
1 / 12
كما تبدل منها في "آمن"، وتصحح الياء، ولا يجوز غير ذلك إذ قالوا "أطيب" و"أجودت"، صححوا مع انتفاء توالي الإعلال فيهما، فلما صححوا ذلك وجب أن يلزم التصحيح ما توالى فيه إعلالان؛ الا ترى أنهم بنوا الماضي من "الود" على "فعلت" ليلزم في المضارع "أفعل"، فلا يتوالى إعلالان، فكذلك لزم أن يصحح العين من الفعل من "أفعل" في "الأيد"، وهكذا تكلم به من آثر أن يجعله على "أفعل"، دون "فعلني"، وعلى هذا قوله:
(يبني تجاليدي وأوتادها ... ناوٍ كرأس الفدن المؤيد)
وكأن الأكثر تكلم به على "فعل" لئلا يلزمه تصحيح العين لما ذكرنا، وتصحيح هذه العين مكروه عندهم، فقالوا "أيدتك"، وفي التنزيل ﴿إذ أيدتك بروح القدس﴾؛ لأن العين على هذا لم يلزمها التصحيح في موضع يكره فيه التصحيح.
فإن قلت: فاجعل "آدِني" الذي قال أبو العباس فيه "أفعلني" من "الأيد" على ما ذكره على القلب، كأنه قلب العين إلى موضع اللام.
قيل: هذا ممكن في القياس وإن لم يكن بسهل في التأويل؛ لأنا
1 / 13
لم نعلمه استعمل مقلوبًا، ولم يقل هو أيضًا ذلك، فلذلك قلنا: إنه شبيه بالسهو.
وفي "الأيد" الذي هو القوة لغتان: "أيدٌ" و"آدٌ" كـ "العيب" و"العاب"، قال:
(من أن تبدلت بأيدي آدا ... لم يك ينآد، فأمسى انآد)
ينآد: مطاوع "أدته"، وفي التنزيل ﴿ولا يؤوده حفظهما﴾، قال قتادة: لا يكرثه. وقال حسان:
(وقامت تراعيك مغدودنا ... إذا ما تنوء به آدها)
أي: اثقلها. وقال التوزي: "رجل مودٍ: إذا هلك، ورجل مودٍ: إذا كان ذا سلاح / قويًا". ولم ينبغ أن يذكر ذلك في الأضداد؛ لأن اللفظين وإن اتفقا، فليسا من أصل واحد؛ ألا ترى أن "المودي" الذي يراد
1 / 14
به "الهالك" الفاء منه واو، يقال: أودى الرجل: إذا هلك، كما قالوا: فاضت نفسه، ومنه "الوادي" إنما هو "فاعلٌ" من ذلك إلا أنه اسم بمنزلة "الغارب" و"الكاهل"، قال:
(............................. ... عوم السفين تفيض منه الأنفس)
ومن ذلك قولهم: ودى الرجل، وقال:
كأن عرق أيره إذا ودى ... حبل عجوزٍ ضفرت خمس قوى
وقال:
(يدي لك، إن ركبت - فلا تلمني - ... أتان الحي، عير بني تميم)
وأنشد ابن حبيب:
كيف السبيل .............. ... ...............
قال: "يوديهم: يهلكهم"، فهذا "أفعل" و"فعلته".
وقولهم لصغار النخل: "الودي" يشبه أن يكون لضرب عروقه في الثرى
1 / 15
وذهابها وغرسها. قال: أهل المدينة يسمون الفسيل "الودي" ثم "الجعل" ثم "الجبار" ثم "الطريق" ثم "العيدان" ثم "الخصاب" الواحدة: خصبة.
فأما قولهم "المؤدي" لذي السلاح القوي، فليس من باب "أودى"، ولكن الأوجه أنه ذو أداة، فالفاء منه همزة كما أنها من "الأداة" كذلك، والسلاح وجميع ما يتقوى به العامل على عمله.
1 / 16
القول على قوله تعالى (في سبيل الله)
السبيل في اللغة: الطريق الذي هو ممر ومدرج، والدليل على ذلك ما أنشده سيبويه:
(فما كنت ضفافًا، ولكن طالبًا ... أناخ، فأغفى فوق ظهر سبيل)
فالإناخة والإغفاء لا يكونان إلا على مستقر، ولهذا قالوا للذين يسلكونه "سبل، وقياس واحده "سابل"، قال العجاج أو رؤبة:
(منهرت الأشداق غضب مؤكل ... في الآهلين واخترام السبل)
وهذا اسم على معنى النسب، وليس جاريًا على الفعل، كما أن
1 / 17
"دارعًا" و"عطارًا" و"بوابًا" كذلك، فكأن المعنى: أصحاب السبيل، ومن ثم قالوا للمسافر البعيد عن بلده وماله "ابن سبيل"، فنسب إلى الطريق لممارسته له وعلاجه إياه، وهم أحد الأصناف الثمانية الذين هم موضع الصدقة، فقولهم منه "ابن" مثل "صاحب"، وقد استعملوا في هذا المعنى "الابن" و"الأخ"، فقولوا "هو ابن بجدتها" للخبير بالبلدة وغيرها، وأنشد أحمد بن يحيى:
(بينا أنازعهم ثوبي وأمنعهم ... إذا بنو صحفٍ بالحق قد وردوا)
بنو صحف: الشهود الذي يشهدون عليه بدين.
والأخ في هذا الباب كأنه أوسع في استعمالهم، قال ذو الرمة:
(ويشبح بالكفين ضاحٍ كأنه ... أخو فجرةٍ أعلى به الجذع صالبه)
وأنشد سيبويه:
(أخا الحرب لباسًا إليها جلالها ... وليس بولاج الخوالف أعقلا)
1 / 18
وقد جاءت "أم" في هذا المعنى أيضًا، أنشد أحمد بن يحيى:
(خوت نجوم بني شكس لقد علقت ... أظفارهم بعقابٍ أمها أحد)
وقال أوس:
(وجارت على وحشيها أم جابرٍ ... على حين أن نالوا الربيع وأمرعوا)
قالوا: أم جابر: إياد، فسماهم "أم جابر" من حيث كانوا أصحاب حراثة، قال أبو زيد: قالوا للخبز "جابر بن حبة" معرفة غير مصروفة. وفي الحديث "أم مثواي" يريد به صاحبة منزله. فإذا جازم تسمية صاحب الشيء بملابسته أمًا، جاز أن يكون قوله ﴿فأمه هاويةٌ﴾ على هذا كما قال ﴿مأواكم النار﴾ أي: أمه نار هاوية، أي: هي مثواه، وقد تكون ﴿فأمه هاويةٌ﴾ على قول الشاعر:
1 / 19
(هوت أمه! ما يبعث الصبح غاديًا ... وماذا يؤدي الليل حين يؤوب)
وجاء "أبٌ" في هذا المعنى أيضًا، قال أوس:
(على العمر واصطادت فؤادًا كأنه ... أبو علقٍ في ليلتين مؤجل)
قيل: المعنى: كأنه صاحب رهن غلق في ليلتين.
ومثل "السبيل" في أنه المدرج والطريق قولهم "الصراط"، يدل على ذلك قوله تعالى ﴿ولا تقعدوا بكل صراطٍ توعدون﴾، فلم يتعد إليه الفعل الذي لا يتعدى إلى المفعول حيث كان مخصومًا، كما لم يتعد إلى غيره من الأسماء التي هي عبارة عن الأشخاص والجثث المخصوصة، ثم اتسع فيه فجاء في قولهم "سبيل" حتى قيل في المعتقدات والآراء في الديانات وغيرها، وذلك نحو قوله تعالى: ﴿وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلًا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلًا﴾ وقال ﴿قل هذه سبيل أدعو إلى الله على بصيرةٍ أنا ومن اتبعني﴾، ففسر السبيل بقوله ﴿أدعو﴾. فالسبيل في هذه المواضع كالمعتقد؛ لأن هذه الأشياء ليست بذوات جثث، فيجوز أن يكون لها طرق ومسالك. وأما قوله ﴿يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل
1 / 20
السلام﴾ فهو - والله أعلم - أن يراد به طرق الجنة؛ لأن من اتبع رضوانه فقد أوتي الهداية التي هي الاستدلال، فقد هدي إلى صراط مستقيم، فتكون الهداية في هذه الآية مثل الذي في قوله ﴿والذين قتلوا في سبيل الله فلن يَضل أعمالهم * سيهديهم ويصلح بالهم﴾ في أنه ليس بهداية الاستدلال، ولكنه الهداية إلى طرق الجنة للثواب. وقوله ﴿سبل السلام﴾ يجوز أن يكون على حذف المضاف، كأنه: سبل دار السلام، كما قال ﴿فهم دار السلام عند ربهم﴾. ويجوز ﴿سبل السلام﴾: طرق السلام التي يسلم سالكها من أن يعذب أو يعاقب. ويجوز أن يكون ﴿السلام﴾ اسم الله تعالى كما جاء ﴿سبيل الله﴾ و﴿صراط الله﴾، فإذا كان على هذا الوجه بعد أن يكون المراد به الطريق الذي هو ممر؛ لأن هذا التقييد قد صار فيه كالأمارة للإيضاح، ويكون المعنى حينئذ كقوله تعالى ﴿والذين اهتدوا زادهم هدىً﴾.
وكما قالوا للغريب "ابن سبيل" فنسبوه إلى الطريق، قالوا فيه "ابن أرض"؛ لأن الطريق ضرب منها، وأنشد أبو زيد:
(دعاني ابن أرضٍ يبتغي الزاد بعدما ... ترامى حلاماتٌ به وأجارد)
1 / 21
ومثل ذلك قول طرفة:
(رأيت بني غبراء لا ينكرونني ... ولا أهل هذاك الطراف الممدد)
فقوله "بني غبراء" كقوله "ابن أرض"؛ لأن الغبراء: الأرض، وكأنهم نسبوا إليها على هذه اللفظة العامة لما لم يعرفوا الموضع الذي أتوا منه مخصوصًا، وأراد بهم الفقراء؛ لأن "الطراف": بيوت الأدم، وإنما تكون للأغنيات، فكأن المعنى: لا ينكرني الفقراء ولا الأغنياء لإعطائي الفقراء وإخراجي في الحقوق التي يخرج فيها الأغنياء.
1 / 22
مسألة
وقفت - أدام الله عزك - على ما ذكرته من استفصال محمد بين قولهم للعبد "رقبتك حُرٌّ" و"رأسك حُرٌّ" و"فرجك حُرٌّ" وبين قولهم "يدك حرٌُّ".
قالقول في ذلك إن "الرقبة" قد جرى لفظها في اللغة والعرف مجراها، فأجرى عليها حكمها، و"اليد" لم تجر مجراه في العرف ولا في اللغة، فأما إجزاؤهم "الرقبة" على ما ذكرته فظاهر واضح، وذلك أنه قد جاء في التنزيل: ﴿أو كسوتهم أو تحرير رقبةٍ﴾، وقال: ﴿فتحرير رقبةٍ من قبل أن يتماسا﴾، وقال: ﴿ومن قتل مؤمنًا خطأً فتحرير رقبةٍ مؤمنةٍ﴾، وقال: ﴿والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب﴾، والمعنى - والله أعلم- في تحرير الرقاب، أي: إعانتهم على أداء مكاتبتهم، أو: في فك الرقاب، كما قال في موضع آخر ﴿فك رقبةٍ﴾ أي: فكها من الرق. وجاء عن علي ﵁: "جناية العبد في الرقبة". وروي "احبس رقبتها". فكما أن "الرقبة"
1 / 23
في هذه المواضع في الرقبة قد جرى مجرى الجملة والجميع، فصار قوله (وفي الرقاب) كقوله: وفي المكاتبين، كذلك قوله (فتحرير رقبةٍ) في الآي الأخر بمنزلة: تحرير نسمة، أو نفس، أو نحو ذلك مما يكون عبارة عن جملة الشخص وجميعه.
ومما يمكن أن تكون "الرقبة" قد أجريت فيه مجرى الجملة، قول أبي كبير أو غيره من الهذليين:
(فليس كعهد الدار يا أم مالكٍ ... ولكن أحاطت بالرقاب السلاسل)
فـ "الرقاب" يريد بها الأشخاص لا هذه الأعضاء منها، والمعنى أن الإسلام لما جاء منعت شرائعه وزواجره عما لم يكن منه منعٌ قبله، وهذا المنع شائع في جميع الشخص، وليس في الرقبة دون غيرها؛ ألا ترى أن بعد هذا البيت:
(وعاد الفتى كالكهل، ليس بقائلٍ ... سوى الحق شيئًا، واستراح العواذل)
وقد قالوا "نسأل الله فكاك رقابنا". ذكره أبو عثمان. وليس يريدون بذلك الرقبة دون سائر الشخص. ولما كانت الرقبة قد عني بها جملة الشخص، حتى صار ذكرها بمنزلة ذكره، اتسعوا في ذلك حتى قال الشاعر:
(إن لي حاجةً إليك، فقالت ... بين أذني وعاتقي ما تريد)
1 / 24