كتاب المركب النفيس
إلى التنزيه والتقديس
تأليف
السيد العلامة محمد بن عبد الله عوض المؤيدي حفظه الله تعالى
[مقدمة]
الحمد لله خالق الخلق، ومدبر الأمر، العليم القدير الحي القديم، الذي ليس كمثله شي وهو السميع البصير، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى أهل بيته الطاهرين، حجج الله على خلقه، وشهدائه على عباده، الذين من اتبعهم نجا، ومن خالفهم ضل وغوى، أما بعد:
فهذا مختصر لطيف في معرفة الله تعالى وما يلحق بذلك من أصول الدين، محتو على الغالب من ما في كتاب العقد الثمين وعلى زيادات هامة أيضا، ينبغي معرفتها.
هذا ولم آت بشيء جديد، بل كل ما ذكرته فيه مستوحى عن أئمة أهل
البيت عليهم السلام، والجديد هنا هو السهولة في التعبير بحيث لا يحتاج المبتدئ إلى كثير في فهمه، وتنبغي قراءته للمبتدئين قبل العقد الثمين أو بعده، والحمد لله رب العالمين، الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وصلى الله وسلم على محمد وآله.
[أول الطريق إلى العلم بالله]
العقل من طبيعته التفكير، وله القدرة وحده على معرفة الله تعالى، وما يستحقه من القداسة والكمال والجلال، غير أن الله سبحانه وتعالى قد عزز العقل بالرسل والكتب، فهداهم وأرشدهم إلى طرق التفكير الصحيح الذي سيوصلهم حتما إلى معرفة الله تعالى، فمن ذلك قوله تعالى }أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون{ [الطور/35].
هنا يخاطب الله العقلاء:
هل خلقوا من غير شيء؟ هل هم الخالقون لأنفسهم؟
صفحه ۱
ولا شك أن العقلاء جميعا لا يقبلون واحدا من هذين الافتراضين، ولا يحتاجون في تفسيرهما إلى تفكير، بل يردون ذلك ببداهة عقولهم من غير تردد ولا تفكير ولا نظر، وحينئذ لم يبق أمام العقل إلا أن يصدق ويؤمن بأن له خالقا خلقه وسواه، وشق سمعه وبصره...الخ
وهكذا كلما يجده العاقل من المحدثات، فإن العقل يفترض ثلاثة تساؤلات في تفكيره لا غير:
هل حدثت هذه الأشياء من غير شيء؟
هل أحدثت هذه الأشياء أنفسها؟
أم أحدثها محدث؟
ولا يجد العقل افتراضا آخر يفترضه، بل يحتم عليه تفكيره أن
يختار واحدا من هذه الثلاثة التقادير، والافتراض الأخير وهو أنه أحدث هذه المحدثات محدث هو الذي يقبله العقل، ويطمئن إليه.
[المرحلة الثانية من التفكير]
بعد التصديق بأن هذه المحدثات قد أحدثها محدث، فإن العقل حتما ينتقل بتفكيره إلى الخالق الذي أحدثها فيؤمن ويصدق بأنه:
موجود، لأنه لا يقبل العقل بخالق معدوم.
حي، لأن الفعل لا يصدر من ميت بالضرورة.
قادر، وذلك لأن الفعل لا يصدر من عاجز.
عالم، وذلك أن الفعل المحكم المشتمل على غاية الإحكام والإتقان لا يصح ضرورة من جاهل.
صفحه ۲
فكل هذه الصفات يؤمن بها العقل، ويصدق بها، ولا يحتاج العقل في الإيمان بها إلى تكرير النظر، بل يكفي النظر الأول، فتحصل هذه الصفات الأربع بالتبع للنظر الأول، فإذا عرف العقل أنه لا بد لهذا المحدث من فاعل عرف أن هذا الفاعل متصف بهذه الصفات الأربع ضرورة.
} وهو بكل شي عليم {
إتقان المخلوقات وتقديرها على ما تقتضيه الحكمة والمصلحة وتقدير الأرزاق للحيوانات، وحفظه لها وهدايته لها إلى مصالحها، كل ذلك يدل على إحاطة علم الخالق بكل شيء، وكذلك فإنك ترى إتقان الخلق وإبداعه في كل ورقه، وفي كل زهرة، وفي كل شجرة، وفي كل ثمرة، وفي خلق كل دابة، في النحلة والنملة وإلى آخر ما خلق الله تعالى، كل ذلك يدل على إحاطة علم الله تعالى بكل شيء، وقد قال تعالى: }ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا{ [المجادلة/7]، وقال تعالى: }وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين{ [الأنعام/59].
} هو الأول والآخر{
والله سبحانه وتعالى قديم لا أول لوجوده، ولا آخر لوجوده.
صفحه ۳
والدليل على أن الله تعالى لا أول لوجوده هو: أنه لو كان لوجوده أول لوجب أن يكون محدثا مخلوقا، فيحتاج حينئذ إلى خالق خلقه، ومحدث أحدثه، وهكذا إلى ما لا نهاية، وللعقل في هذه المسألة إفتراضان لا غير:
إما أن يكون الخالق قديما.
وإما أن يكون محدثا.
وقد بطل بالدليل العقلي الذي قدمنا أن يكون الخالق محدثا، فوجب أن يكون قديما، وعلى هذا فيجب التصديق والإيمان بأن الخالق تعالى قديم لا أول لوجوده.
} وهو السميع البصير{
يجب الإيمان بأن الله تعالى سميع بصير، ومعنى ذلك: أنه تعالى لا يخفى عليه شيء من المسموعات ولا من المرئيات، فهو سبحانه يسمع كل شيء مما يسمع، ويرى كل شيء مما يرى، لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، وقد قال تعالى: }ليس كمثله شيء وهو السميع البصير{ [الشورى/11]، ويجب أن نعرف هنا أن رؤية الله وسمعه للأشياء ليس بآلة سمع وآلة بصر كما في الحيوانات، فليس له تعالى عينان يبصر بهما، ولا أذنان يسمع بهما، وليس له قلب وعقل يفكر بهما - تعالى سبحانه عن ذلك - }ليس كمثله شيء وهو السميع البصير{ [الشورى/11].
} ليس كمثله شيء {
أولا: المخلوقات الموجودة هي أجسام، وهذه الأجسام لها صفات وهيئات، وهذه الصفات والهيئات اسمها أعراض، فالأعراض إذن هي توابع للأجسام، وليست شيئا مستقلا، والجسم ثلاثة أنواع:
صفحه ۴
حيوان، ونبات، وجماد، وكل هذه الثلاثة الأنواع: طبيعته الضعف والتحول، فالحيوان يتحول إلى جماد لا حياة به، ثم إلى تراب، وكذلك الجماد يتحول من حالة إلى حالة أخرى، فالحديد وهو أقوى الجمادات وأصلبها قد يحوله الصدأ إلى تراب، والحجار قد تحول إلى تراب وإلى نورة، والنبات كذلك، وتماما كما وصفه الله تعالى }ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما{ [الحديد/20].
ثانيا: الأنواع الثلاثة التي قدمنا ذكرهاكلها محدثة، أما النبات والحيوانات فبالمشاهدة والضرورة، وأما الجمادات فأثر التقدير فيها يدل على أن ثم مقدر قدرها، وجاعل جعلها على تلك الكيفيات والتشكيلات، وإذا كانت كذلك فهي محدثة لوجود دلائل الحدوث فيها.
هذا وبناءا على ما قدمنا فلا يجوز أن نشبه الله تعالى بشيء من المخلوقات، وذلك أنه لو أشبه شيئا منها لكان ضعيفا معرضا للتحول، ومعرضا للآفات والتبدد والزوال، ولكان محدثا، وقد ثبت أنه تعالى خالق الأجسام، وعليه فيلزم أن لا يكون جسما، ولأن الشيء لا يخلق مثله.
صفحه ۵
فإذا ثبت أن الله تعالى ليس جسما، وانتفت صفات الأجسام جميعها تبعا لنفي الجسمية، فليس تعالى في مكان، ولا يدرك بالحواس، ولا يتصف تعالى بالحركة والسكون، والاجتماع والافتراق، والرطوبة واليبوسة، والطول والعرض، ولا بالألوان، ولا بالمشي والهرولة، والصعود والنزول، ولا بأي كيفية، لأن ذلك كله من صفات الأجسام الضعيفة المحدثة، وكذلك فلا يتصف بالوجه والجنب واليدين والساق والعينين، ليس في مكان _ تعالىسبحانه أن يكون في السماء، أو في الأرض _، ولا تحده الفوقية والتحتية، ولا اليمين والشمال، والخلف والأمام.
كان الله سبحانه ولا شيء، لا مكان ولا زمان، ولا سماء ولا أرض، ولا عرش ولا كرسي، وهو خالق المكان، مستغن عن المكان، وخالق الزمان، فلم يتقدمه زمان.
ليس بنور ولا ظلام، لا تجوز عليه الغفلة والنوم والنسيان، ولا يجوز أن يقال إنه تعالى يفرح ويستر، أو يلحقه الهم والغم، أو يتألم أو يلتذ، أو يشتهي أو ينفر، إذ أن كل ذلك من صفات الأجسام الضعيفة المحدثة، وقد ثبت أن الله تعالى ليس بجسم، فوجب أن ننفي عنه تعالى كل صفات الأجسام على الإطلاق.
صفحه ۶
هذا والأمر الذي يدور عليه رحى التوحيد هو: نفي التشبيه عن
الله تعالى على الإطلاق، وصدق أمير المؤمنين عليه السلام: (التوحيد أن لا تتوهمه)، وقال تعالى: }ليس كمثله شيء{ [الشورى/11]، وقال تعالى }ولم يكن له كفوا أحد{ [الإخلاص/4].
[آيات متشابهات]
قوله تعالى}بل يداه مبسوطتان{ [المائدة/64] تفسيرها في الآية التي بعدها وهي قوله تعالى: }ينفق كيف يشاء{ [المائدة/64] وقد جاءت هذه الآية جوابا على اليهود حين قالوا: }يد الله مغلولة{ [المائدة/64] بمعنى أنه بخيل، فرد الله عليهم بالآية السابقة، وقوله تعالى: }تجري بأعيننا{ [القمر/14] معناه تجري في حراستنا وحفظنا وقوله تعالى: }يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله{ [الزمر/56] معناه في طاعة الله، وقوله تعالى }فثم وجه الله{ [البقرة/115]، أي الجهة التي وجهكم إليها، وقوله تعالى: }تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك{ [المائدة/116]، أي تعلم سري وغيبي، ولا أعلم سرك وغيبك، وقوله تعالى: }مما عملت أيدينا{ [يس/71]، أي قدرتنا، وقوله تعالى: }استوى على العرش{ [الأعراف/54]، بمعنى استولى على الملك بالقدرة والسلطان.
وفي القرآن كثير من الآيات المتشابهة التي لا يعلم تأويلها إلا الله والراسخون في العلم من أهل البيت عليهم السلام .
صفحه ۷
[التصديق والتصور]
نعم! العلم ينقسم إلى قسمين: علم تصديقي، وعلم تصوري، والذي كلف الله تعالى به عباده هو: الإيمان به، والإيمان به هو التصديق به.
أما التفكر في الله تعالى وتصوره فلا يجوز ذلك، وذلك لأن عقول البشر، وإن اجتهدت في التفكير لا تستطيع أن تتصور إلا المخلوقات، بل إنها لا تستطيع أن تتصور من المخلوقات إلا ما قد عرفته، وإليك بعض الأمثلة:
لو أن رجلا لم يطعم الحالي ولم يذقه، فإنه لا يستطيع أن يتصور الحلاوة، وإن بالغت في شرحها له وتوضيحها، وكذلك الأعمى الذي ولد أعمى لا يستطيع أن يتصور الألوان ولا النور والظلام، وكذلك أنت أيها البصير لا تستطيع أن تتصور لونا غير ما عرفته من الألوان.
وبناءا على هذا فإن الفكر إذا ذهب يتصور الخالق جل وعلا فإنه
بلا شك ولا ريب سيشبهه بالمخلوقات التي ألفها وعرفها، ولا يستطيع أن يتجاوزها بتفكيره، فلأجل هذا يحرم على العاقل أن يفكر في الخالق أو يتصوره، ويؤيد هذا الدليل العقلي الذي ذكرنا.
[أدلة الكتاب والسنة]
أما الكتاب فقوله تعالى: }ولا يحيطون به علما{ [طه/110]، ومن السنة قوله صلى الله عليه وآله وسلم ((تفكروا في المخلوق، ولا تتفكروا في الخالق))، وقول الوصي عليه السلام : (التوحيد أن لا تتوهمه).
صفحه ۸
[وفاق وخلاف]
اتفق المسلمون جميعهم أهل السنة جميعا، والشيعة جميعا على:
أن الله تعالى ليس كمثله شيء، وأنه لا يشبه المخلوقات، وأنها لا تشبهه.
ثم قال بعضهم: إن له وجها ويدين وجنبا وقدمين وأصابع، وأنه يضحك ويفرح ويغضب، ويقوم ويقعد، ويمشي ويهرول، ويطلع وينزل، فأثبتوا لله تعالى كل ذلك وشبهوه بمقولتهم هذه، ثم حاولوا الهروب من التشبيه الذي وقعوا فيه، فقالوا: إن له وجها يليق بجلاله، ويدين تليقان بجلاله، وعينين تليقان بجلاله و..إلخ.
وتارة يقولون: إن له وجها بلا كيف و..إلخ.
وينزل بلا كيف، ويطلع بلا كيف، ويقعد بلا كيف، ويمشي بلا كيف، ويهرول بلا كيف، و.. إلخ.
وكل ذلك لا يخرجهم من دائرة المشبهين، فقولهم: إن له تعالى وجها يليق بجلاله، ويدين تليقان بجلاله مما يؤكد التشبيه، ويحقق التجسيم، فإن الحيوانات كذلك، فللجمل يدان تليقان به، وللإنسان يدان تليقان به، وللذرة يدان تليقان بها و...الخ، فلا تليق يدا الإنسان للجمل ولا للحمار ولا للذرة والنملة، ولا يدا بعض الحيوانات للبعض الآخر، وقولهم له وجه بلا كيف و...إلخ، ويرى يوم القيامة بلا كيف، ويجلس على العرش بلا كيف، ويمشي وينزل ويصعد ويهرول ويضحك ويتكلم بلا كيف، قولهم هذا لا يمكن العقل أن يصدق به لاستحالته.
وتوضيح ذلك: أن اليد إذا كانت موجودة وحقيقة كما يقولون فلا بد أن تتصف بصفة وكيفية، فلا بد أن تكون طويلة أو قصيرة أو بين ذلك، أو صغيرة أو كبيرة، أو متحركة أو ساكنة، أو رطبة أو قاسية و...إلخ، ولا يمكن نفي تلك الكيفيات عنها.
صفحه ۹
وكذلك لا يمكن أن نصدق أن الله تعالى ينزل ويصعد ويهرول ويجلس من غير أن يكون هناك حركة وسكون، وكذلك لا يمكن أن يرى في الآخرة من غير أن يكون متحركا أو ساكنا، ومن غير أن يكون في الأمام أو الفوق أو...إلخ.
{وربك الغني ذو الرحمة}
مما يجب معرفته: التصديق والإيمان بأن الله تعالى غني لا تجوز عليه الحاجة، والذي يدل على ذلك من جهة العقل: أنه قد ثبت بما تقدم أن الله تعالى ليس بجسم، وبناءا على ذلك فيجب نفي صفات الأجسام وخصائصها عنه تعالى، ومن ذلك السرور والفرح، والهم والغم، واللذة والألم، والشهوة والنفرة، والزيادة والنقصان، والخوف والأمن، وهذه الخصائص هي دواعي الحاجة والفقر، فإذا كانت منتفية عن الله تعالى انتفى تبعا لانتفائها عنه تعالى الفقر والحاجة، فإنه تعالى إذا انتفى عنه التلذذ فإنه ينتفي عنه تبعا لذلك الحاجة إلى كل أنواع الملاذ، وكذلك إذا انتفت عنه تعالى الشهوة انتفى عنه الحاجة إلى كل أنواع المشتهيات، وإذا كان سبحانه وتعالى لا يلحقه الهم والغم انتفى عنه تبارك وتعالى الحاجة إلى كل ما يدفع ذلك وهكذا...
وقد قال تعالى: }يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد{ [فاطر/15]، وقال: }ومن كفر فإن الله غني عن العالمين{ [آل عمران97]، وقال: }إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد{ [إبراهيم/8]، وغير ذلك كثير.
صفحه ۱۰
وبناءا على ما ذكرنا فإن كل ما خلقه الله تعالى من المخلوقات إنما خلقه لحكم ومصالح عظيمة يعود نفعها إلى المخلوقات، ولم يخلقها تعالى لحاجة إليها، ولا لينتفع بها، وهكذا كل ما أمر الله تعالى به، أو نهى عنه في كتبه، أو على ألسنة رسله؛ فإنه لم يفعل ذلك لحاجة يعود نفعها إليه تعالى، بل إنما كان ذلك لمصالح ومنافع تعود إلى المكلفين، ومن هنا قال تعالى: }من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد{ [فصلت/46]، فهو سبحانه غني عن الكذب وخلف الوعد، وظلم العبيد و....إلخ.
وقد قال تعالى: }ومن أصدق من الله قيلا{ [النساء/122]، }إن الله لا يخلف الميعاد{ [الرعد/31]، }ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد{ [ق/29]، وغير ذلك كثير.
{لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار}
مما يجب التصديق والإيمان به: أنه تعالى لا يرى، ولا تدركه الأبصار لا في الدنيا ولا في الآخرة.
والذي يدل على ذلك: أن الرؤية لا تصح إلا لما كان جسما، وقد ثبت أن الله تعالى ليس بجسم، فلو رؤي الخالق سبحانه وتعالى لكان جسما مقدرا بالطول والعرض والشكل، ومحددا بالفوقية والتحتية والخلف والأمام واليمين والشمال، وفي حالة تحرك أو سكون، وفي مكان مخصوص، وهذه كلها خصائص خاصة بالأجسام، وقد ثبت أن الله تعالى ليس بجسم.
صفحه ۱۱
ولا يعقل أن يرى تعالى لا في مكان، ولا مقدرا بطول وعرض، ولا محددا بالجهات، ولا في حركة أو سكون.
فقول من قال: إنه تعالى يرى بلا كيف كلام مرفوض عند العقل، فالرؤية لا تكون إلا للمتكيف بتلك الكيفيات التي قدمنا، وقد قال تعالى: }لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار{ [الأنعام/103]، وقال تعالى لموسى عليه السلام }لن تراني{ [الأعراف/143].
هذا ولم يسأل موسى عليه السلام الرؤية لنفسه، بل عن سؤال قومه، وتماما كما حكاه الله تعالى } أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل{ [البقرة/108]، وقال تعالى }فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم{ [النساء/153]، وقوله تعالى: }فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين{ [الأعراف/143].
فقد دلت هذه الآيات على أن الله تعالى لا يرى من وجوه:
1-التصريح بالنفي في قوله }لن تراني{ [الأعراف/143] الشامل لجميع الأزمنة بما في ذلك الآخرة.
2-قوله { فقد سألوا موسى أكبر من ذلك} [النساء/153] مما يدل على أن سؤال الرؤية عصيان كبير.
3-قوله { ومن يتبدل الكفر بالإيمان } [البقرة/108]، يدل على أن سؤال الرؤية من ذلك.
صفحه ۱۲
4-أخذهم بعذاب الصاعقة التي لم يعهد من الله تعالى التعذيب بها إلا على الكافرين.
5-تسمية السؤال ظلما.
6-قوله }فلما أفاق قال سبحانك{ [الأعراف/143]، يدل على أن الله تعالى منزه عن الرؤية، ومقدس عنها، وإلا فما فائدة التسبيح.
7-قوله }تبت إليك وأنا أول المؤمنين{ [الأعراف/143]، يدل على أن سؤال الرؤية ذنب.
هذا ويستدل المخالفون على أن الله تعالى سوف يرى في الآخرة بقوله تعالى: }وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة{ [القيامة/22-23]، وبآيات اللقاء كقوله تعالى: }أنكم ملاقوه{ [البقرة/223]، }أنهم ملاقو الله{ [البقرة/249] و}إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون{ [المطففين/15]، وبأحاديث رووها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كحديث: ((سترون ربكم يوم القيامة كالقمر ليلة البدر)).
والجواب على ذلك أن التفسير لقوله تعالى: { إلى ربها ناظرة } [القيامة/23]، عند أهل البيت عليهم السلام أن الوجوه منتظرة لرحمة الله، فالنظر في الآية بمعنى الانتظار.
وأما آيات اللقاء: فليس فيها ذكر الرؤية، والتفسير الصحيح أن لقاء الله: بمعنى لقاء جزائه.
وأما الأحاديث: فهي من الأحاديث التي لا يجوز بناء العقائد عليها، وذلك أنها من روايات الآحاد، وهي لا تفيد إلا الظن عند تكامل شروط الصحة، والمطلوب هنا هو العلم.
صفحه ۱۳
{قل هو الله أحد}
قال الله تعالى: }فاعلم أنه لا إله إلا الله{ [محمد/19]، وقال تعالى: }شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قآئما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم{ [آل عمران/18]، وقال تعالى: }لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا{ [الأنبياء/22] وقال تعالى: }أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار }
نعم! ما نراه من المخلوقات يدل على إله واحد، وخالق واحد، وذلك أن المخلوقات على اختلاف أنواعها وكثرتها مترابطة بعضها ببعض، ومسخرة لغاية واحدة، وغرض واحد، وحكمة واحدة، ومصلحة واحدة.
صفحه ۱۴
فالإنسان يعيش على ظهر الأرض، وكل ما نراه على الأرض لمصلحة الإنسان، فالحيوانات مسخرة لمصلحة الإنسان، فهو ينتفع بالأكل من لحمها، وبالركوب عليها، وبالحراثة، وينتفع بأصوافها، وكذلك تربة الأرض ينتفع بها الإنسان في الزراعة واستخراج الثمرات، وينتفع بالأشجار والفواكه والثمار، وكذلك الماء يشربه الإنسان والحيوان والنبات، وتستخرج به الثمرات والحبوب، وتطهر الأبدان والثياب، ويستخرج منه لحوم الأسماك، واللؤلؤ والمرجان، ويركبه الإنسان في التنقل، وتنشأ منه السحاب الثقال التي تحمل الأمطار من بلد إلى بلد، والشمس كذلك مسخرة لمصلحة الإنسان، ولا تستقيم الحياة على وجه الأرض بدونها، وكذلك الهواء والأمطار والقمر والنجوم، فكل ذلك يدل على صانع واحد حكيم.
هذا ولم نر أو نسمع عن إله آخر يدعي الإلهية، ولو كان ثم إله آخر لأتتنا رسله، وأنزل كتبه، والذي سمعناه هو دعوى المشركين الإلهية للأصنام، وهي حجار منحوتة من الجبال لا تسمع ولا تبصر، ولا تضر ولا تنفع، وكذلك دعوى النصارى الإلهية لعيسى بن مريم، ودعوى اليهود أن عزير بن الله، وهنالك دعاوى كثيرة فمن الناس من يعبد البقر، وآخرون نوعا من الشجر، وآخرون يعبدون الفروج إلى غير ذلك وبطلان إلهية ما ذكرنا واضح البطلان.
صفحه ۱۵
[عدل حكيم]
معنى ذلك: أن الله تعالى لا يفعل القبيح، وكل أفعاله صادرة عن حكمة، وكلها أيضا حسنة لا يوجد فيها قبيح.
والدليل على أنه تعالى كذلك من جهة العقل: أن الفعل القبيح لا يقع إلا لواحد من أمرين، أو كليهما:
1-الجهل بقبح الفعل.
2- الحاجة إلى ذلك الفعل القبيح.
وهذان الأمران منتفيان عن الله تعالى، فإنه تعالى عالم بجميع القبائح }لا تخفى منكم خافية{ [الحاقة/18]، وغني عن فعلها، وقد قدمنا الدليل على غناه، ونفي الحاجة عنه تعالى، وهو عالم أيضا بأنه غني عنها، وكل من كان كذلك فإنه لا يقع منه فعل القبيح.
هذا وقد أجمعت كل طوائف المسلمين على أن الله تعالى عدل حكيم }لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما{ [النساء/40].
غير أن بعض هذه الطوائف نقضت هذا الأصل المجمع عليه فقالت: إن كل فاحشة يفعلها العباد من كفر وفسوق وعصيان وكذب وباطل وزور كل ذلك من فعل الله، وأن الله تعالى هو الذي خلق ذلك وفعله وأراده وشاءه وقدره وقضاه، فنسبوا كل ذلك إلى العدل الحكيم، واتهموه بفعله و...إلخ
صفحه ۱۶
ثم قالوا: إن الله تعالى سيعذب العباد على ذلك، فنفوا بقولهم هذا عن الله تعالى العدل والحكمة، ونسبوه إلى فعل الظلم والقبائح والكذب و...إلخ، فعطلوا العدل والحكمة عن معانيها، وأكفؤا الإناء بما فيه، فلم يتركوا للعدل والحكمة عين ولا أثر، ولم يبق لهم من ذلك سوى تنزيه الله تعالى بالحروف والألفاظ، فنزهوه تعالى بنفي الظاء واللام والميم، وأثبتوا له تعالى العين والدال واللام و..إلخ فمذهبهم هذا مذهب مخالف للعدل والحكمة تماما، إذ كيف يأمر الله تعالى بما قد خلقه، أو ينهى عن ما قد خلقه، وأي فائدة في إرسال الرسل، وإنزال الكتب.
ومما يدل على بطلان مذهبهم:
أن الإنسان يلحقه حكم فعله من المدح والثناء والذم والاستهزاء والثواب والجزاء.
وأن الإنسان يحصل منه الفعل على حسب إرادته.
فكل هذا يدل على أن الفعل من الإنسان لا من الواحد الرحمن.
وأن الله تعالى قد أضاف أفعال العباد إليهم فقال: }يكسبون{، }يمكرون{، }يفعلون{، }يصنعون{، }يكفرون{، }وتخلقون إفكا{، ونحو ذلك في القرآن كثير.
فالحق الذي تؤيده فطر العقول، وتشهد له الحكمة والعدل، وتنادي بصحته آيات القرآن: أن الإنسان هو الذي يفعل الطاعة أو المعصية باختياره وإرادته ومشيئته، وأن المكلف قادر على فعل ذلك وعلى تركه، وأن الله تعالى منزه عن فعل معاصي العباد فلم يخلقها ولم يشأها ولم يردها، وأن العصاة فعلوا العصيان من قبل أنفسهم وباختيارهم وإرادتهم، وأن الله تعالى قد هداهم النجدين، ومكنهم في الحالين، لم يمنعهم عن المعاصي جبرا، ولم يدخلهم في الطاعات قهرا، وأنه لو شاء ذلك لفعله كما قال تعالى: }ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا{ [يونس/99]، يريد به تعالى مشيئة الإجبار، إذ لو أكرههم لبطل التكليف.
صفحه ۱۷
{ولا تزر وازرة وزر أخرى}
المعنى في ذلك: أن الله تعالى لا يعذب أحدا إلا بذنبه، ولا يعاقبه بذنب غيره، والدليل على ذلك من جهة العقل: أن عقاب من لا ذنب له ظلم، وكذلك عقابه بذنب غيره، والظلم قبيح، وهو تعالى لا يفعل القبيح كما تقدم، وقد قال تعالى: }إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما{ [النساء/40]، وقال: }وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين{ [الزخرف/76] وقال تعالى: }ولا تزر وازرة وزر أخرى{ [الأعراف/164]، إلى غير ذلك.
{لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}
من مقتضى العدل والحكمة أن الله تعالى لا يكلف أحدا إلا ما يطيق، وذلك أن تكليف ما لا يطاق قبيح، وهو تعالى لا يفعل القبيح كما قدمنا، وقد قال تعالى: }لا يكلف الله نفسا إلا وسعها{ [البقرة/286]، والوسع: دون الطاقة، وقال: }لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها{ [الطلاق/7]، وقال تعالى: }يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } [البقرة/185].
صفحه ۱۸
{والله يقضي بالحق}
تدل هذه الآية أن الله لا يقضي بالباطل والكفر والفساد، ومن هنا فلا يجوز القول بأن المعاصي بقضاء الله تعالى ويراد بذلك أنه خلقها أو أمر بها أو أرادها أو شاءها، وقد يراد بالقضاء العلم فيقال: إن المعاصي بقضاء الله أي أنه تعالى عالم بها، وقد قال تعالى: }والله يقضي بالحق{ [غافر/20]، وقال تعالى:}وما الله يريد ظلما للعباد{ [غافر/31]، وقال:}ولا يرضى لعباده الكفر{ [الزمر/7]، }والله لا يحب الفساد{ [البقرة/205]، فكل ذلك يدل على أن الله تعالى لا يريد شيئا من القبائح، ولا يحبه ولا يرضاه ولا يشاؤه، وقد تقدم الدليل الدال على أن الله تعالى لا يفعل القبيح، وإرادة القبيح قبيحة.
{يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}
من مقتضى الحكمة: أن الله تعالى لا يفعل لعباده ولا يكلفهم إلا بما يدعوهم إلى الفلاح، ويكسبهم الصلاح سواء كان ذلك محنة أو نعمة أو تكليفا، وذلك لأنه تعالى حكيم، والحكيم لا يفعل إلا ما هو صواب ومصلحة، فكل ما نرى من الأمراض والمحن والخوف والأمن والفقر والغنى والخصب والجدب و...إلخ.
أما النعم: فوجه الحكمة فيها ظاهرمكشوف.
صفحه ۱۹
وأما المحن: ففيها موعظة وذكرى واعتبار، وتماما كما قال الله
تعالى: }ذلك وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون{ [الأعراف/168] }فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا{ [الأنعام/43] }أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون{ [التوبة/126]، وهذا بالإضافة إلى ما أعد الله للصابرين، وقد يكون بعض المصائب عقابا، كما قال الله في سورة سبأ وقصتهم }ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور{ [سبأ/17].
[{محمد رسول الله} صلى الله عليه وآله وسلم]
الدليل على نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم : أنه صلى الله عليه وآله وسلم حين ادعى النبوة أردف دعواه بالبرهان القاهر، وهو القرآن، فقد تحداهم صلى الله عليه وآله وسلم حين كذبوا دعواه بأن يأتوا بمثله، أو بعشر سور من مثله، ثم بأن يأتوا بسورة من مثله، فعرفنا حين لم يأتوا بشيء من ذلك مع شدة عداوتهم له ، وحرصهم الكبير على إبطال دعوته أنه نبي صادق، وأن القرآن من كلام الله تعالى.
صفحه ۲۰