وتمثل ذلك الحب في صورة قوة طاغية متسلطة لا تقنع بأقل من التهام الروح والجسد. قذف بي في جحيم الألم، وصهرني، وخلق مني معدنا جديدا تواقا إلى الوجود، ينجذب إلى كل شيء جميل وحقيقي فيه. وبقي الحب - بعد اختفاء خالقه - ما لا يقل عن عشرة أعوام مشتعلا كجنون لا علاج له، ثم استكن على مدى العمر في أعماقي كقوة خامدة، ربما حركتها نغمة أو منظر أو ذكرى فتدب فيها حياة هادئة مؤقتة تقطع بأنه لم يدركه الفناء بعد. وكلما تذكرت تلك الأيام أذهلني العجب، وتساءلت بدهشة عن سر الحياة التي عشتها، وهل كان أصابني مس من الجنون، وأسفت غاية الأسف أنه لم يقدر حبي أن يخوض تجربته الواقعية، وأن تتلاقى في دوامته العنيفة السماء والأرض، وأن أمتحن قدراتي الحقيقية في معاناته ومواجهة أسراره على ضوء الواقع بكل خشونته وقسوته، وما أحكم رضا حمادة حين قال لي يوما وقد بلغنا درجة من النضج والتجربة: صفاء ألقيت في حياتك كمثير ... لم تكن إلا «شفرة» تشير إلى شيء، تعين عليك أن تحل رموزها للوصول إليه.
فقلت له: لقد تحللت حياتنا إلى سخريات، ولكني أكره أن أذكر تلك الأيام باستخفاف. - استخفاف؟! كيف يستخف إنسان بأروع سني العمر؟!
ومررت بقصر آل الكاتب في الستينيات فوجدته قد هدم ورفعت أنقاضه، مخلفا أرضا فضاء تحفر تمهيدا لإقامة أربع عمارات سكنية. ابتسمت وأنا أنظر إلى الأرض الفضاء، وعبرني إحساس بالأسى، فتذكرت صفاء التي لم أرها منذ هبوطها في ثوب العرس، التي لم أدر عنها شيئا، حية كانت أم ميتة، سعيدة أم شقية، وكيف غيرها الكبر بعد بلوغ الستين؟ وأيا كان خبرها، ورأي الآخرين فيها، ألم يكن من حقها أن تعرف أنها عبدت في محراب كإله، وأنها فجرت في قلب حياة ما زالت تنبض بين الحين والحين بذكراها؟
صقر المنوفي
كان طبيعيا أن يوصف عم صقر المنوفي بأنه الساعي بإدارة السكرتارية، ولكن جاء وقت كاد يطلق على إدارتنا العتيدة بأنها إدارة عم صقر، وكان أقرب إلى القصر والبدانة، ولكنه كان جم النشاط، بل فاق نشاطه عادة المهام المطلوبة منه، وكان جاسوسا بالسليقة، ولحساب نفسه، وفي أوقات تقديم قهوة الصباح كان يتطوع بالهمس مفشيا الأسرار، أسرار الوزارة والموظفين، ولعله كان أول من بصرني بالأسباب الحقيقية لترقية شرارة النحال من عامل تليفون إلى سكرتير لسعادة وكيل الوزارة، ثم انهمرت أنباؤه تباعا عن عباس فوزي، وعدلي المؤذن، وعبد الرحمن شعبان، والآنسة عبدة سليمان، والرجل الطيب التعيس طنطاوي إسماعيل وغيرهم. قال لي يوما الأستاذ عباس فوزي ونحن بصدد الحديث عن ارتفاع الأسعار وبؤس الموظفين ذوي المرتبات الثابتة في أيام الحرب: لا أحد يأكل ما يشتهي إلا عم صقر!
فأبديت الدهشة فقال: إنه مغرم بالطعام الجيد.
فقلت له: الغرام شيء والقدرة شيء آخر.
فقال بسخريته المعهودة: كأنه فلم مباحث، فما من فرح يقام أو مأتم إلا وعنده علم به، وسرعان ما تجده بين العاملين في الفرح أو المأتم. يتطوع للخدمة ليشهد في النهاية وليمة العشاء، كذلك تجده في ليالي الموالد بالجوامع الكبرى، فما من ليلة تمر إلا وهو في وليمة، فأي باشا يدانيه في هذا الحظ الغذائي منعدم النظير؟!
من ذلك جاء تألقه الدائم بالصحة والعافية، وغزله الرقيق باللحوم والفطائر والحلوى، أما بقية مظاهر حياته فجرت في مستواها الطبيعي البائس كساع مسكين، يقيم في حجرة أرضية بعطفه دعبس بالحسينية هو وزوجته وأبناؤه، ولكن متى رسم خطة للإثراء؟ إذ من المحقق أنه رسم تلك الخطة وعمل على تنفيذها بصبر ودأب، ربما منذ عهد التحاقي بالخدمة في أواخر عام 1924.
انطلق في ذلك السبيل بادئا من بيع قطع الحلي والنحاس ورثها عن أمه فتجمع لديه مبلغ من المال راح يستثمره في إقراض الموظفين بربح فاحش. وهو نشاط غريب بالنسبة لرجل مسلم من أهل البلد الفقراء، ولكنه أقدم عليه وتمادى فيه حتى النهاية، وعرف بذلك في أوساط الموظفين الفقراء وما أكثرهم فأقبلوا عليه بنهم، وأصبح بذلك مركزا لحركة مصرفية سرية، ونمت نقوده وتراكمت، وفي بحر ربع قرن من الزمان استطاع أن يشتري البيت الذي يسكن حجرته الأرضية بألف جنيه، ثم هدمه فأقام موضعه عمارة صغيرة مكونة من دورين ودكانين. وكان له ابنان وبنت، أهملهم إهمال الفقراء فعمل البكري فراشا في وحدة صحية بالريف، وانقطع كلية عن أسرته، واشتغل الأوسط صبي قصاب، أما البنت فقد اختفت وهي في سن المراهقة، قيل إنها خطفت أو تاهت أو هربت، وما لبث ابنه الأوسط أن قتل في مشاجرة بالمذبح، وحزن عم صقر حزنا عميقا، واعتقد أن ما أصابه في بنته وابنه إنما هو عقاب من الله على إثرائه بالربا فكف عن الإقراض، وأدى فريضة الحج تائبا. والعجيب أن تحسن حاله المالية لم يغير مظهره ولا سلوكه العام في الحياة، بقي في وظيفته الحقيرة يقوم على خدمة الموظفين يعتبر سيدا لهم من الناحية الاقتصادية، ولبث يسعى إلى الأفراح والمآتم للاستمتاع بالولائم المجانية، وظل يتشمم الأخبار ليفشي الأسرار عند تقديم القهوة، فإذا خلا إلى نفسه غلبه الحزن على ابنته المفقودة وابنه القتيل. وأذكر أنني كنت في مأتم جعفر خليل عندما جاء عدلي المؤذن للتعزية، وجالسته بعض الوقت فقال لي: صقر المنوفي قبض عليه!
صفحه نامشخص