وقال عيد منصور: يا جماعة أنا لا أستطيع أن أذكر والد أحدكم أو أمه إلا إذا قرنته بالسب المناسب.
وقال شعراوي الفحام محذرا: يا جماعة إذا خلت اجتماعاتنا من قلة الأدب فقل عليها السلام!
وتداولنا في الأمر باهتمام جدي ثم تم الاتفاق على مواصلة المعاملة الحرة فيما بيننا، مع استثناء سرور عبد الباقي فيعامل معاملة مؤدبة خاصة.
وكان يتخذ من السياسة موقفا مماثلا فلا يتعامل معها على الإطلاق ولا يهتم بها، حتى المظاهرة السلمية التي زحفت على ميدان عابدين تأييدا لسعد زغلول رئيس الوزراء لم يشترك فيها، ويوم الإضراب الذي قتل فيه بدر الزيادي تخلف سرور في بيته. ورغم رشاقته ووسامة وجهه الأسمر تجنب البنات، ولم يلعب بعينيه هنا أو هناك، وكان يشعر دائما بأن عيني أمه تراقبانه وتتبعانه حيث ذهب. والأوقات التي كنا نخصصها للقراءة كان يقضيها في حديقة بيته ممارسا هوايته في رعاية الزهور أو رفع الأثقال. ومن فترة مبكرة وضح ميله لدراسة الطب ولكن نجاحه في البكالوريا لم يحقق له المجموع المطلوب، ولذلك أقنع والديه بوجوب الالتحاق بكلية الطب في لندن، وكان المتبع أن تقبل الكلية المصرية الطالب إذا نجح عامين في إنجلترا. وسافر إلى إنجلترا فدرس الطب عامين بنجاح ثم رجع إلى مصر فالتحق بكلية الطب، وناقشنا تلك الواقعة يوما فقال رضا حمادة: ليس سرور غبيا كما توهمنا وإلا ما نجح في إنجلترا!
فقال عيد منصور: وليس نظام القبول بكلية الطب المصرية سليما كما يظن.
فقال جعفر خليل: وليست الفرصة متكافئة بين الأغنياء والفقراء!
وتخرج سرور عبد الباقي في الكلية عام 1936، وتزوج بعد أربعة أعوام من فتاة من أسرة كبيرة، وتقدم في عمله عاما بعد عام حتى عد من كبار الجراحين في مصر، وربح من ذلك أموالا طائلة فشيد عمارة كبيرة في وسط المدينة، وبنى لنفسه فيلا غاية في الجمال بالمعادي، ولم يتخل يوما عن مبادئه الأخلاقية حتى عرف بأخلاقه وإنسانيته كما عرف ببراعته. وهو طبيب مثالي، مهارة في العمل، وغزارة في العلم، ورحمة بالمرضى، وبعدا عن الجشع والاستغلال. وهو محبوب جدا من طلابه. وكثيرا ما خاض معارك حادة في مجلس الكلية بسبب مثاليته التي لا تعرف المهادنة، وبالرغم من علمه الواسع وتجربته الفذة ظل طفلا ساذجا بالنسبة للثقافة والعقائد والسياسة، ولم ينعم بأي نظرة شمولية للمجتمع الذي يتألق فيه كنجم من نجومه. ومرت به الأحداث الكبرى وهو منها بمأمن، لا تعنيه في شيء حتى قامت ثورة يوليو بثقلها الاجتماعي فشدته من مأمنه لأول مرة، بدأ يهتم بهذه الثورة التي تتعرض للأرزاق وتغير الأوضاع، وتسلل إليه قلق لم يعرفه من قبل. وطبق نظام الإصلاح الزراعي على زوجته فطارت من ملكية أسرته خمسمائة فدان بجرة قلم، وذهل الرجل الذي تعود على تقديس المال والملكية، ونبض قلب أسرته بالعداوة، وعد هو ضمنا من الأعداء، ولذلك لم يتعين عميدا للكلية رغم استحقاقه العلمي لها فامتلأت نفسه بالمرارة والحزن. قال لي: فكرت طويلا في الاستقالة للتفرغ لعيادتي الخاصة.
ثم قال بإخلاص أنا أول من يقدره: ولكني لا أحب أن أتخلى عن واجبي العلمي!
وبدءا من ذلك التاريخ مضى يهتم بالحياة العامة، والسياسة بصفة خاصة - التي تجنبها طوال حياته - بعد أن غزته في صميم داره. وكنا نقابله في نادي المعادي على فترات متباعدة كلما سمح وقته المشحون بالعمل، وكنت أنا ورضا حمادة الصديقين اللذين استمرت علاقتهما به، وثمة آخر هو خليل زكي اتصل به دون صداقة حقيقية بحكم عمله في قصر العيني، ولكنه كان يذكر الجميع بقدر من الحنان، وقد حزن لمصرع شعراوي الفحام، ووفاة جعفر خليل، وضياع سيد شعير، فإذا ذكر عيد منصور ضحك قائلا: شيلوك! .. عليه اللعنة!
وفي تلك الأثناء ساء حظ رضا حمادة فأصيب في وحيده وزوجته، فوثق بينهما سوء مصير واحد على تفاوته بينهما. وبعد صفقة السلاح المشهورة مع تشيكوسلوفاكيا جزع الدكتور سرور عبد الباقي وقال: هذه هي الخطوة الأولى نحو الشيوعية!
صفحه نامشخص