ولكني لاحظت بدقة المراقبة أن عواطفه لم تنسجم تماما مع أفكاره، وأن تحمسه الظاهر كان لتبرير انقلابه قبل كل شيء، وعلى مدى الأيام اضطر إلى أن يعترف لي قليلا: ألم يكن الأفضل أن يتم ما تم بيد انتفاضة شعبية بقيادة شباب الوفد!
فقلت: المهم أن يتم ما تم.
فقال بعد تأمل: ولكن الإنسان لا يستطيع التخلص من عقليته الخاصة، ولذلك فقل على الحرية السلام!
وكان الأستاذ رضا حمادة معتقلا في ذلك الوقت، فجاء ذكره فقال زهير: ربنا معه.
فقلت بثقة: إني أعتقد ببراءته. - لم؟ - إني من أعلم الناس بنقاء أخلاقه.
ترى أضايقه قولي؟ .. على أي حال قال: على ذلك الجيل من السياسيين أن يتخذ من أستاذنا القديم إبراهيم عقل مثلا يحتذى.
فدهشت لقوله وقلت: الدكتور إبراهيم عقل يعاني حال دروشة كاملة، وقد لمست ذلك بنفسي في لقاء عابر معه بحي سيدنا الحسين! - هذا ما أعنيه تماما، فالدروشة هنا أسلوب لمواجهة الكوليرا التي قضت على ابنيه. - ماذا تعني؟ - أعني إذا صادفتك كارثة يستحيل التغلب عليها فعليك بالدروشة، أي نوع من الدروشة، أما المقاومة غير المجدية فترمي بك إلى المعتقل!
وزهير كامل الناقد عانى انقلابا من نوع آخر في نفس الوقت، فبكل استهانة مضى يتاجر بالنقد. مضى يتقبل الهدايا والنقود، ويقيم الفن والفنانين تبعا لذلك، وبازدهار الحركة المسرحية والإنتاج السينمائي تضاعفت أرباحه فشيد فيلته الأنيقة بالدقي واقتنى المارسيدس، وبخلاف اعتداله القديم أفرط في الطعام والشراب، فزاد وزنه لدرجة أصبح من المتعذر معها التعرف عليه من أول نظرة. لم يبق من مزاياه القديمة إلا ثقافته الواسعة، وذوقه المدرب في شتى ألوان الفن، ورغم الثورية التي اتخذها مهنة كان إذا ذكر الوفد تجلى الحنين في عينيه، بل علمت أنه حمل صديقا رسالة خاصة إلى مصطفى النحاس يعتذر له فيها عما بدر منه في حقه، ويشرح له الظروف القاسية التي اكتنفت قراره. ولما أعلنت ثورة يوليو عن سياستها الاشتراكية توثب بهمته المعروفة لدراسة الاشتراكية ليؤيدها عن علم، ويحتفظ لنفسه بمستواه ككاتب من كتابها الأول. وفي أعوام قلائل متتابعة ترجم أربعة كتب عن الاشتراكية، ثم أصدر في النهاية مؤلفه المعروف «اشتراكية هذا الوطن». وفي هذه الناحية بالذات يئس من إقناعي بإخلاصه لسابق علمي بديمقراطيته الليبرالية، وقد سألته مرة ضاحكا: كيف انقلبت اشتراكيا بهذه السرعة الجنونية؟
أجابني ضاحكا أيضا: الناس على دين أوطانهم! - أتعتقد أنهم يصدقونك؟ - لم يعد أحد يصدق أحدا.
ثم قال والضحك يعاوده: المهم هو ما تقول وما تفعل!
صفحه نامشخص