فعبس قائلا: لو نافقتني مرة ثانية فسأمقتك أكثر منه.
ولكي يبتعد عن مجال أبيه ويتجنب رؤيته ما أمكن أقام في مبنى مستقل بحديقة القصر كان يستعمل كمضيفة، وربما مر الشهر والشهران فلا تقع عينا أحدهما على الآخر. وفي آخر عهده بكلية الحقوق انتقى من الزملاء صحبة قليلة عرفت باستهتارها الأخلاقي، وجعل منها خاصة أصدقائه، وبهم خرج من عزلته فعرف مواطن اللهو ومقهى الفيشاوي، وانقلب مقامه المستقل في الحديقة إلى حانة وغرزة! ولا شك أن الباشا فطن إلى دبيب الحركة الجديدة المريبة، ولكنه لم يستطع أن يتعرض لها إيثارا للسلامة، وقال لي يوما: عليك بصحبة الأشرار فبفضلهم تعرف نفسك.
ولم أعرف ما يعنيه تماما إلا فيما بعد نسبيا، عندما تبين لي أنه بقدر ما يحب مصاحبة الحسان فإنه لا يستجيب لهن، وأنه لا يستجيب إلا للمومسات ذوات السحن الوحشية، وأتم دراسته عام 1938 بعد سقوط أربع مرات، وسعى الباشا إلى تعيينه في النيابة العمومية بنفوذه، ولكن لم يكن يقبل أحد في وظائف النيابة إلا بعد تحريات، وقد كشفت التحريات عن الغرزة المستقرة في مسكنه المستقل فرفض الطلب وأبلغ والده بالحقيقة! وفاتحه أبوه بالأمر فقال باستهانة: النيابة العمومية وظيفة مضحكة!
فغضب الرجل وغضب الابن وسعى الابن الآخر بينهما حتى هدأت النفوس، واتفق على أن يفتح الباشا له مكتب محاماة في مقامه المستقل على أن يجعل سهراته الخاصة في الخارج. وأعد في إحدى الحجرتين اللتين يتكون منهما المبنى مكتب، ومكتبة قانونية، وألصقت على مدخل السراي لافتة باسم المحامي الجديد . ولم ينفذ الاتفاق إلا أياما معدودات ثم رجعت ريمة لعادتها القديمة، فعاد الأصدقاء ودارت الجوزة، وكان الحشيش قد أسره تماما. ولم يقنع الأصدقاء بذلك فكانوا يجيئون ببعض المومسات باعتبارهن عميلات للمحامي الجديد، فتطورت الغرزة إلى ماخور، وسكرت إحداهن ذات ليلة حتى فقدت وعيها فتجردت من ثيابها وراحت ترقص في الحديقة تحت ضوء القمر.
ولأول مرة يسمح الباشا لغضبه بالانفجار، انهال على الابن سبا ولعنا، فرد له الابن السبة سبتين واللعنة لعنتين، وصفعه الأب فهدده الابن بالصفع والركل، وعند ذلك طرده من قصره وحذره من أن يريه وجهه مرة أخرى. وغادر عدلي القصر مطرودا في أوائل أيام الحرب العظمى الثانية، وليس معه إلا ملابسه. وراح يبيت بالتناوب في بيوت أصدقائه ويفكرون في المستقبل. اقترح عليه بعضهم أن يبحث عن أي وظيفة كتابية حتى يجيء الفرج، ولكنه قال بكبرياء: إني أفضل الصعلكة.
وعرض عليه رضا حمادة أن يبدأ من جديد في مكتبه، ولكنه قال له: نسيت القانون ولا همة لي الآن على استرجاعه.
فقال الرجل ببراءة: قم بأي عمل في المكتب!
فأدرك أنه يعرض عليه أن يعمل كاتبا بمكتبه فصاح غاضبا: إني أحتقرك وأحتقر من خلقك!
واختار الصعلكة فكان يقترض مبالغ متفاوتة بضمان موت أبيه الذي جاوز السبعين من عمره، وكان يتبلغ بالسندوتش ويسكت صراخ بطنه بالفول السوداني، وينتقل في الليل من غرزة إلى غرزة فيدخن بالمجان، ثم يقضي الليل في بيت صديق أو في مقصورة من مقاصير مقهى الفيشاوي. وساء مظهره، ووهنت صحته، ورثت ثيابه، وصار أشبه بالمتشردين، ولكن كبرياءه كان يتعقد ويتضخم، حتى انقلب وقاحة وسفاهة. وكنا مجتمعين مرة بالفيشاوي؛ فإذا به يضحك عاليا ويستغرق في الضحك، فسألته عما يضحكه، فقال: تصور أن أموت أنا قبل «الكلب»؟
فقلت باسما: هذا محتمل ومتوقع أيضا!
صفحه نامشخص