ولكنه حصل على الماجستير، ولم ينفذ فكرته، ولم ينشر من الكتب إلا تحقيقا لتهافت الفلاسفة وتحقيقا آخر لتهافت التهافت، وكان زميلي في الكلية عجلان ثابت، هو الذي أطلعني على جانب من ماضيه المجهول، قال: إنه يسكن معنا في حي السيدة، وكان أبوه سائق ترام، وهو يعيش اليوم مع أمه وشقيقته.
فقلت: إن مظهره المهيب الرزين يقطع بأنه من سلالة حكام!
فضحك عجلان ثابت وقال: توظف بالابتدائية ثم درس وهو موظف حتى بلغ ما بلغه من العلم.
ثم همس: ويبدو أن شقيقته بنت لعوب عفريتة، ولذلك فاتها سن الزواج ولم تتزوج!
ولم يكن يخلو من جانب مزاح، ففي أحد احتفالات آخر السنة بالكلية تطوع لتقليد بعض الأساتذة، ونجح في تقليد الدكتور إبراهيم عقل نجاحا مثيرا، فما كاد يتكلم عن المثل العليا حتى دوت القاعة بالتصفيق الشديد، ومع ذلك كانت علاقته بالدكتور إبراهيم عقل وثيقة، ولما ولي الدكتور منصبه الخطير نتيجة لتقربه من السراي اعتمد في إدارته على عدلي المؤذن، وهو الذي قدمه إلى أحد الوزراء قبيل الحرب العظمى الثانية، فنقله الوزير إلى وزارته مفسحا لطموحه مجالا جديدا، أحفل بالفرص من إدارة الجامعة، هكذا وفد إلى وزارتنا كرجل خطير من رجال الوزير، وزرته مهنئا ومستبشرا بقدومه خيرا، ولكني وجدت فيه شخصا جديدا، شخصا إداريا خطيرا مقطوع الصلة تقريبا بالرجل الذي كان يتلمس طريقه بمشقة بين مسالك الفلسفة .. وتجلت مواهبه الكامنة في خدمة الوزير والوزارة، وكان - والحق يقال - حاد الذكاء ذا مقدرة إدارية فذة، وكان بارد الأعصاب لدرجة لا تصدق، ولم تعهد عادة بين المصريين، ومنذ أول يوم شعر شرارة النحال بخطورته، وعمل له ألف حساب وحساب. وخيل إلى الأستاذ عباس فوزي أنه طرأ على الوزارة موظف خطير مثقف لأول مرة، وأنه يحسن به أن يهدي إليه مؤلفاته، وفعل، وقال له وهو يهديها إليه وبحضوري إذ كنت أنا الذي قمت بالتعارف بينهما: ليس من عادتي أن أهدي كتبي إلى أحد، ولكن الكتب لا تؤلف إلا لتهدى إلى أمثالك!
فقال عدلي المؤذن ببروده النادر: أعترف لك بأني اطلعت عليها .
فشاع الفرح في وجه عباس فواصل الآخر قائلا: وأعترف لك بأني وجدتها سطحية لم تكد تضيف إلى الأصل إلا قليلا.
فاصفر وجه عباس فوزي غير أنه قال متظاهرا بالمرح: لا تحكم بعقلك يا أستاذ، نحن نكتب للبسطاء لنعلمهم، أما الفلاسفة فلا سبيل لنا إليهم.
وعدنا إلى الإدارة والرجل يقول لي في الممشى: لا تخبر بما سمعت أحدا من الرعاع.
فقلت له برثاء خفي: طبعا.
صفحه نامشخص