فبذلك قال الله:
وعلى الثلاثة الذين خلفوا
وليس الذي ذكر الله مما خلفنا عن الغزو، إنما هو تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا عمن حلف واعتذر إليه، فقبل منه.
فانظر إلى هذه القصة الرائعة وإلى ما فيها من العبر والموعظة، وإلى تأديب النبي لمن يحب من أصحابه الصادقين حين يحتاجون إلى التأديب؛ فهؤلاء الثلاثة قد تخلفوا ولم يكن لهم عذر من ضعف أو فقر أو عجز عن السفر، وإنما امتحنهم الله ببعض أعمالهم ليبلوهم ويطهر قلوبهم، وكان كثير من الناس قد تخلفوا عن هذه الغزوة، يعدهم كعب نيفا وثمانين رجلا. فلما عاد النبي إلى المدينة أقبل المتخلفون فجعلوا يتكلفون المعاذير ويقولون للنبي غير الحق، وجعل النبي يقبل معاذيرهم ويستغفر لهم؛ لأنه - كما كان يقول دائما - لم يؤمر بالتنقيب عما في قلوب الناس، ولكن هؤلاء الثلاثة كانوا أشد إيمانا بالله ورسوله، وأصدق حبا لهما من أن يضيفا إلى تخلفهم خطيئة الكذب على النبي
صلى الله عليه وسلم ، وهم يعلمون حق العلم أن ضمائر المتخلفين المنافقين لم تكن لتخفى على الله، وأن الله جدير أن ينبئ رسوله بسرائرهم، فآثروا الصدق وفاء لدينهم، وإشفاقا أن يفضح الله كذبهم وتخلفهم فاعترفوا بذنوبهم، وسمع النبي منهم وأعلن أنهم صدقوه ولم يعف عنهم مع ذلك. ترك أمرهم إلى الله يقضي فيه بما يشاء، ثم لم يلبث أن أمعن في عقابهم فأمر المؤمنين ألا يكلموهم. وينظر هؤلاء الثلاثة فإذا هم قد اقتطعوا من الناس اقتطاعا، وإذا هم في عزلة بغيضة إلى نفوسهم كان السجن أهون منها. ومن أجل ذلك لزم اثنان منهم بيوتهما فلم يخرجا منها ولم يتعرضا لجفوة الناس، وإنما أقاما يؤديان الصلاة في بيوتهما ولا يشهدان جماعة المسلمين، ثم يبكيان أكثر وقتهما، وأما كعب فقد كان جلدا يحسن الاحتمال، فجعل يخرج ويغدو على الأسواق ويحتمل جفوة الناس متأذيا بها، كأنه يبالغ في تأديب نفسه بالعقاب الذي فرض عليه. وهو يذهب إلى ابن عم له من أصحاب النبي فينشده الله ثلاثا: أيعلم من أمره أنه محب لله ورسوله؟ فيسكت عنه ابن عمه حتى إذا ألح عليه كعب في المسألة أجابه بهذا الجواب اللاذع الممض: «الله ورسوله أعلم.» وما كان له أن يجيب بغير هذا فالنبي غاضب على هؤلاء الثلاثة وغضبه من غضب الله، ثم كان كعب يذهب إلى المسجد ويشهد صلاة المسلمين ويصلي بعض النوافل قريبا من مجلس النبي، ليرى أينظر النبي إليه أم يعرض عنه، وإذا هو يستكشف أن النبي ينظر إليه حين يقبل على صلاته، فإذا نظر إلى النبي أعرض عنه، ولكن النبي يرسل إليه ذات يوم وإلى صاحبيه من يبلغهم أن النبي يأمرهم أن يعتزلوا نساءهم.
وليس في هذا شيء من الغرابة، فنساؤهم مؤمنات وقد صدر الأمر إلى المؤمنين باعتزالهم، فليعتزلهم نساؤهم أيضا. فأما كعب فقد أرسل زوجه إلى أهلها حتى يقضي الله في أمرهم، وبعد أن مضت عليهم خمسون ليلة في هذه العزلة، وقد أخذ الندم من قلوبهم أقوي مأخذ، أنزل الله توبته عليهم في الآيتين الكريمتين اللتين أثبتناهما منذ حين، وابتهج المؤمنون كلهم لذلك، فكانوا يهنئون هؤلاء الثلاثة بتوبة الله عليهم، وقد فرح كعب بهذه التوبة فرحا لم يفرح مثله لشيء قبلها، وهم أن يتصدق بماله كله، فانظر إلى النبي يرفق به ويقبل منه الصدقة في وقت واحد، فيأمره أن يمسك بعض ماله ليعيش منه وينفق على أهله، وأن يتصدق بسائره. فأمسك سهمه من خيبر وتصدق بما عداه.
وعاهد النبي على ألا يتكلف ولا يكذب متعمدا في حديث حتى يموت.
وتبلغ روعة هذه القصة أقصاها حين تقرأ في سورة التوبة تعذير الله للمتخلفين من المنافقين، بين أهل المدينة ومن حولها من الأعراب، فترى شدة هذا التعذير وعنفه، وتقرأ قصة هؤلاء الثلاثة فترى كيف نزلت عليهم رحمة الله كما ينزل الغيث على الأرض الميتة فيحييها بعد موتها.
وقد صورنا لك في كثير جدا من الإيجاز مكان النبي بين أصحابه بشيرا ونذيرا، وشاهدا وداعيا إلى الله بإذنه، ومفقها للمؤمنين في دينهم، ومعلما لهم في عظائم أمورهم ودقائقها.
فلا غرابة في أن تكون السنة هي الأصل الثاني بعد القرآن الكريم، من الأصول التي تبنى عليها حياة المسلمين، فكل ما يعرض للمسلمين من الأمر في حياتهم من المشكلات يجب عليهم أن يردوه إلى الله ورسوله. يلتمسون له الحل في القرآن، فإن وجدوا هذا الحل فهو حسبهم، وإن لم يجدوه فعليهم أن يلتمسوه في سنة النبي، فيما صحت به الرواية عنه من قول أو عمل؛ ذلك أن النبي لم يكن ينطق عن الهوى، وإنما كان يعلم الناس مما علمه الله، ويعلمهم في أكثر الأحيان عن أمر الله له بتعليمهم ويستشيرهم فيما لم يعلمه الله من الأمر ويقبل مشورتهم. فإذا التمس حل المشكلات في القرآن الكريم فلم يوجد، والتمس في السنة فلم يوجد، فالمسلمون يرجعون إلى أصل ثالث من أصول الأحكام في الدين، وهو إجماع أصحاب النبي؛ ذلك أن أصحاب النبي إن أجمعوا على شيء فأكبر الظن أنهم لم يجمعوا عليه إلا لأحد أمرين: فإما أن يكونوا قد عرفوا من قول النبي أو عمله ما لم يصل إلينا، وإما أن يكونوا قد اجتهدوا رأيهم واختاروا لأنفسهم، وهم خيار المسلمين وهم قدوة لهم، ولا سيما قبل أن ينجم بينهم الخلاف وتفسد الفتنة عليهم كثيرا من أمرهم. فإن لم يجد المسلمون في القرآن ولا في السنة، ولا فيما أجمع عليه أصحاب النبي حلا لبعض مشكلاتهم فعليهم أن يجتهدوا رأيهم، ناصحين لله ورسوله وللمسلمين.
صفحه نامشخص