وتنظر قريش في الصحيفة فإذا كل ما كتب فيها قد محي، ذهبت به الأرضة، إلا اسم الله فإنه كما كتبوه، هنالك يرفع الحصار ويعود القوم إلى العافية.
ولكن هذا كله إن خفف عن بني هاشم فلم يخفف عن المسلمين من أصحاب النبي شيئا ؛ فإيذاؤهم متصل وفتنتهم ماضية على عهدها.
ثم يمتحن النبي امتحانا شاقا فيفقد زوجه خديجة تلك التي كانت أول من نصرته وآزرته وأجابته إلى دعوته. ثم يفقد عمه أبا طالب ذلك الذي كفله صبيا ويافعا، وقام دونه يحميه ويذب عنه وإن كان لم يؤمن له ولم يرجع عن دين آبائه، وإنما فعل ما فعل حبا لابن أخيه وعطفا عليه وأداء لحق العصبية والحسب.
ويشتد البلاء على المسلمين وتطمع قريش في النبي، فيأذن النبي للمسلمين في أن يهاجر من استطاع الهجرة منهم إلى بلاد الحبشة؛ حيث يستطيعون أن يعبدوا الله آمنين لا يلقون فتنة ولا عذابا. فيهاجر منهم من استطاع، ويأمنون على دينهم في تلك الأرض البعيدة، ويبقى النبي ومن أبى فراقه من أصحابه بمكة يلقون ما يلقون من الشدة والبأس، لا تزيدهم الفتنة إلا إيمانا وتثبيتا.
وفي ذات يوم يخرج النبي من مكة إلى الطائف يرجو أن يجد عند ثقيف من العون والجوار ما يمكنه من أداء رسالته، ولكنه لا يلقى من ثقيف إلا أعنف الرد وأثقله، وإذا هم لا يكتفون برده والإعراض عنه، وإنما يغرون به السفهاء والصبيان يؤذونه حتى يجهدوه وحتى يضطروه إلى ظل بستان ليستريح.
وكان في البستان صاحباه - رجلان من قريش هما عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة - يريان النبي وقد بلغ منه الجهد وأوى إلى ظل بستانهما يستريح مما أدركه من العناء.
قال أصحاب السيرة: فيرق قلب هذين القرشيين له، ولكنهما متحفظان على ذلك، لا يؤويانه فتغضب قريش، فيدعوان «عداسا» غلاما لهما ويرسلانه إليه بطبق فيه عنب. ولكن «عداسا» لا يكاد يتحدث إلى النبي ويسمع منه حتى يراه سيداه مغرقا في البكاء مكبا على النبي يقبله ويتلطف له، فإذا عاد إلى سيديه سألاه، فإذا هو قد مال إلى ما يدعو إليه هذا الرجل الذي آذته ثقيف وأبى سيداه أن يضيفاه. وقد رجع النبي إلى مكة فلم يستطع أن يدخلها حتى استجار بشريف من أشرافها - هو مطعم بن عدي - فأجاره.
ثم جعل النبي يترقب موسم الحج يعرض نفسه فيه على قبائل العرب أيها يؤويه ويمنعه حتى يبلغ رسالات ربه، فترده قبائل العرب جهلا منها أولا، وكراهة أن تعادي قريشا ثانيا، حتى إذا كان في موسم من المواسم عرض نفسه على قوم من أهل يثرب فوجد عندهم ميلا إليه وإيثارا له فيضرب لهم موعدا من قابل، ويصبر عامه ذاك على الأذى ثم يلقى وفد يثرب فيبايعونه على أن يؤووه ويمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم، وقد استوثق العهد بينه وبينهم وعاد إلى مكة راضيا محبورا.
ثم جعل يأذن لأصحابه في الهجرة إلى يثرب فيهاجرون أرسالا، يهاجر الضعفاء منهم خفية ويهاجر الأقوياء منهم جهرة، وقد فشا الإسلام في يثرب، وقرئ القرآن في كثير من دورها، والنبي مع ذلك مقيم في مكة لا يبرحها، ينتظر أن يؤذن له في الهجرة، وقد استأذنه صاحبه أبو بكر في أن يكون صاحبه في سفره فقبل منه. وقد عرفت قريش ما كان من العهد بينه وبين أهل يثرب وما كان من هجرة أصحابه إليها، فكرهوا أن يهاجر النبي فيصبح هو وأهل يثرب لهم عدوا؛ فاجتمعوا وتشاوروا وانتهى رأيهم إلى أن يرصدوا له عند بيته ليلا نفرا من أحياء قريش على اختلافها ليقتلوه، يضربونه ضربة رجل واحد فيضيع دمه في القبائل ولا يستطيع قومه من بني عبد مناف أن يثئروا لدمه.
قال الرواة: وقد أرصد هذا النفر من قبائل قريش عند بيت النبي ليلا وآذنه الله بمكر قريش فلم ينم في فراشه ليلته تلك، وإنما أمر ربيبه وابن عمه «عليا» أن ينام في فراشه ويتسجى ببرده وخرج على النفر الذين أرصدوا له، فإذا هم قد غشيهم النعاس.
صفحه نامشخص