وهذه هي المقالة التي يجب على كل مؤمن أن يقول بها ويتخذها دينا، ولست أدري أيصل العقل يوما إلى أن يبلغ ما لم يبلغه إلى الآن من القوة أم لا؟ ولكن الشيء المحقق هو أن عقل القدماء وعقل المحدثين من أصحاب الفلسفة والعلم ما زالا أضعف وأقصر باعا من أن يصلا إلى استكشاف حقيقة الله، أو البحث عن صفاته وإصدار هذه الأحكام التي أصدرها الفلاسفة والمتكلمون؛ اغترارا بالعقل واستجابة لما لا تنبغي الاستجابة له.
ومن أجل هذا أقول: إن المؤولين من المحدثين كالمؤولين من القدماء قد استجابوا لعقولهم القاصرة واغتروا بها، وقالوا فيما ليس لهم أن يقولوا فيه، وطمعوا فيما ليس لهم أن يطمعوا فيه. ولو قد تواضع أولئك وهؤلاء، ووقفوا أنفسهم حيث تنتهي قوتهم، لكان خيرا لهم وللذين افتتنوا بهم من الناس.
فهؤلاء الذين يزعمون أن الطير الأبابيل، وما رمت به جيش الحبشة أمام مكة، إنما كانت وباء من الأوبئة، وكانت الحجارة ضربا من الميكروبات. إنما يقولون هذا من عند أنفسهم، وهم يعلمون حق العلم أن النبي وأصحابه لم يفهموا هذه السورة على هذا النحو، وما كان لهم أن يفهموها على هذا النحو، فهم لم يكونوا يعرفون الميكروب، وما كان لهم أن يعرفوه. والذين يقولون إن السموات السبع التي تذكر في القرآن هي الكواكب السيارة، إنما يرجمون بالغيب ويقولون ما لم يقله النبي وأصحابه. ومصدر هذا أنهم يريدون أن يلائموا بين القرآن ومستكشفات العلم الحديث، فيضطرهم ذلك إلى تكليف النصوص من التأويل ما لا تحتمل. وليس على الدين بأس أن يلائم العلم الحديث أو لا يلائمه، فالدين من علم الله الذي لا حد له، والعلم الحديث كالعلم القديم محدود بطاقة العقل الإنساني، وبهذا العالم الذي يعيش الإنسان فيه.
ومن أسخف السخف أن نحاول الملاءمة بين ما لا حد له وما هو محدود بطبعه، وصدق الله حين أنبأ بأن الراسخين في العلم يقولون: ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
وشر آخر نشأ عن اختلاف هذه الفرق فملأ حياة المسلمين فسادا أي فساد، وهو الغلو في التأويل إلى أبعد ما يتصور العقل، وإلى غير ما يفهم صراحة من نصوص القرآن. وذلك حين اضطرت بعض الأحزاب إلى أن تسر دعواتها، وتستخفي بمذهبها في السياسة أولا وفي الدين بعد ذلك كهؤلاء الباطنية الذين زعموا أن العلم بالدين علمان: علم الظاهر وهو ما عليه الناس في كثرتهم، وعلم الباطن وهو ما هم عليه. وجعلوا يتركون ظاهر النص؛ لأنه لا يليق إلا بعامة الناس ولا يلائم خاصتهم، ثم يلتمسون للنص تأويلا يخالف كل المخالفة ما يفهم منه لغة، وما فهمته جماعة المسلمين حين سمعوا النبي يتلو عليهم القرآن ويبين لهم ما أنزل إليهم، وغلوا في ذلك كل الغلو حتى أحدثوا لأنفسهم دينا لا يدين به غيرهم من المسلمين فأفسدوا الدين والعقل معا، ثم نشأ التصوف ونشأ في أول أمره زهدا غلا فيه أصحابه وأنكره النبي
صلى الله عليه وسلم ، فهو قد رد على عثمان بن مظعون - رحمه الله - رهبانيته، وشدد على عبد الله بن عمرو بن العاص حين أزمع أن يصوم الدهر وحين غلا في قراءة القرآن، وأراد أصحابه على أن يأخذوا دينهم بالرفق وبالإسماح، وذكرهم بما أنبأهم به القرآن من أنه يريد بهم اليسر ولا يريد بهم العسر، ومن أنه لم يجعل عليهم في الدين من حرج، وأمر الغلاة منهم في الصيام والقيام أن يصوموا ويفطروا وأن يقوموا ويناموا، ولا يحرموا على أنفسهم ما أحل الله لهم، بل بالغ النبي
صلى الله عليه وسلم
في ذلك حتى استخفى من أصحابه ببعض عبادته مخافة أن يشق عليهم، وأن يتقيدوا به فيتكلفوا ما لا يطيقون، ونهاهم عن أن يواصلوا في صومهم فيصوموا الليل والنهار جميعا. فلما قالوا له: إنك تواصل! قال: «إني لست كهيئتكم، إني أظل يطعمني ربي ويسقيني.» يريد أن الله قد منحه من القوة والجلد على عبادته ما لم يمنحهم.
وعلى رغم هذا ظهر الزهد، وأبى فريق من صالحي المسلمين إلا أن يرفضوا لين الحياة، ويشددوا على أنفسهم في العبادة والتقشف والإعراض عن اللذات، وليس بهذا كبير بأس، فالناس أحرار في أن يزهدوا إن أطاقوا الزهد ولم يسوءوا به أحدا، ولكن هذا الزهد لم يلبث أن تطور حين نشأت الفرق وجعل أمره يتعقد شيئا فشيئا، حتى نشأ عنه التصوف الذي عرف في أواخر القرن الأول وازداد تعقيدا حين اشتد اتصال المسلمين بالثقافات الأجنبية، فلم يلبث التصوف أن تأثر بما عرف المسلمون من ثقافة الهند والفرس، ومن ثقافة اليونان خاصة، وتحول الزهد من تفرغ للعبادة وإمعان فيها إلى محاولة الاتحاد بالله أو الاتصال به، أو معرفته من طريق الإشراق. ثم اختلط التصوف بمذاهب الباطنية فازداد تعقيدا إلى تعقيد، وانحرف عما عرف الناس من شئون الدين، وأصبح مذهبا بعينه، بل أصبح مذاهب يختلف فيها المختلفون، وتكلم المتصوفون بأشياء أنكرها الفقهاء والمحدثون والمتكلمون، وامتحن فيها بعضهم محنة شديدة انتهت أحيانا إلى القتل والصلب كما جرى على الحلاج.
وليس التصوف مقصورا على الإسلام بل هو معروف في الديانات الأخرى وفي المسيحية خاصة، ولكن متصوفة الإسلام أسرفوا على أنفسهم، ثم أسرفوا بعد ذلك على الناس، فصار أمر التصوف بعد أن فشا الجهل والجمود إلى ألوان من الشعوذة والدجل حتى أصاب عامة الناس منه شر كثير، لو رآه أئمة الصوفية الأولون لضاقوا به أشد الضيق وأنكروه أعظم الإنكار.
صفحه نامشخص