وانظر إليهم حين يقرءون أو يتلى عليهم قول الله من سورة الأنفال:
يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار * ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير .
كيف تمتلئ قلوبهم ثقة بأنهم حين أزمعوا الخروج للجهاد، قد باعوا الله أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون، وعدا على الله حقا في التوراة والإنجيل والقرآن، كما يقول الله عز وجل في الآية الكريمة من سورة التوبة:
إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم .
فهم يقبلون على الجهاد وهم مطمئنون إلى أنهم قد باعوا نفوسهم وأموالهم لله بالجنة؛ فالموت أحب إلى الصادقين منهم من الحياة لأن نعيم الحياة زائل ونعيم الله باق خالد. وكلهم يرهب الفرار من العدو، أكثر مما يرهب الموت، فهم واثقون بأن أمام الفارين منهم جهنم يضطرون إليها وبئس المصير. هم بذلك يصدقون ما كتب خالد - رحمه الله - من أن جنوده يحبون الموت كما يحب عدوهم الحياة.
ومن أجل ذلك أقبل بعض قواد المسلمين، وهو أبو عبيد بن مسعود، أيام عمر بجنده متعرضا لعدوه من الفرس فعبر إلى العدو بجيشه نهرا، وغامر فإذا العدو أكثر منه قوة وأعظم منه بأسا، وكان يستطيع حين رأى ذلك أن يعبر النهر ويرجع بجنده إلى مواقعهم، ويلتزم خطة الدفاع أو ينتظر المدد، ولكنه ذكر الآية الكريمة من سورة الأنفال فكره الفرار، وأقدم فقاتل حتى قتل رحمه الله، وامتحن المسلمون في تلك الوقعة محنة عظيمة ولم ينج من نجا منهم إلا بعد الجهد كل الجهد. وبلغت قصة هذا الجيش عمر - رحمه الله - بالمدينة فبكى واسترحم لقائده وقال: لو انحاز لكنت فئته. يريد أنه لو رجع واستمد الخليفة لما كان ذلك فرارا، وإنما هو التحرف للقتال والتحيز إلى من وراءه من المسلمين، ينصرونه ويمدونه بالقوة والعتاد.
والله قد أذن للمسلمين في الآية الكريمة، التي أثبتناها آنفا من سورة الأنفال، أن يرجعوا عن العدو متحرفين للقتال أو متحيزين إلى فئة تنصرهم. كذلك كان بلاء المسلمين في الفتوح؛ لا يقبلون بلاء أقل منه حتى عاب بعضهم سعد بن أبي وقاص لما عجز عن القتال مع جيشه يوم القادسية، فأدار الموقعة من حصن كان فيه، لما أعجزه المرض عن الحركة والخروج، فقال قائلهم:
ألم تر أن الله أنزل نصره
وسعد بباب القادسية معصم
فأبنا وقد آمت نساء كثيرة
صفحه نامشخص