وخرج ابن عنبسة من عند الخليفة بعد أن خدعه وأظهر له العدول عن الفتك بالوليد، والتقى بعد أيام بصدوف في داره؛ لأنها كانت تتغفل أهلها، وتختلس زيارته بين الحين والحين، فأحسن لقاءها، وأكثر من الحفاوة بها، وطوقها بهالة من غزله وتشبيبه، وبثها كثيرا من أشواقه؛ فأجج في قلبها نار كاد يطفئها اليأس، وفتح بابا من الرجاء أغلقه القنوط، فمالت عليه مذهولة حيرى بعد أن أثار فيها حبا قديما كان يساورها في اليقظة والمنام، وهاج في نفسها وجدا كامنا لم تفل من حدته الأيام، ثم أخذت تتمتم ورأسها على كتفه قائلة: حبيبي ماذا جد لك؟ لقد كنت ألقاك قبل اليوم فلا أجد فيك تلك النشوة، ولا أحس لقلبك بهذا الخفقان الذي كأنه صدى وجيب قلبي. - كنت أكظمه يا صدوف، وكنت أربأ بمروءتي أن أمد يدي إلى طعام غيري، ولكن لكل شيء طاقة، وقد عجزت طاقتي، وناء صبري بأن يحتمل أكثر مما احتمل، ولا بد للماء في مرجل أن يفور، وللسيل المحتبس أن يخترق ما أمامه من جنادل، لقد بعتك يا حبيبة قلبي في ساعة جنون، ولم أعرف الهدوء منذ ذلك الحين، ولكني كنت أخاف أن أظهرك على ما في نفسي فأجدد لك شوقا وحزنا أنت عنهما في غناء، ثم انكب عليها يقبلها في ظمأ ونهم، ويهمس في أذنها بما يلقى من العصابة والهجر؛ فأحاطت وجهه بيديها الرخصتين وهي تقول: ليتني أعود إليك يا حبيبي، هل من سبيل؟ فأطرق كالمفكر وقال: ليس من سبيل إلا أن يبيعك لي الوليد. - إنه كثير النفور مني، متجن عسوف، ولكنه شديد البغض لك، وهو يؤثر أن يبيعني لمجوسي ولا يبيعني لك، ولو وازنتني بالذهب. - إذا لم يبق من سبيل. - إنني لا أستطيع الحياة بعيدة عنك يا حبيبي. - ويل للوليد، إنه سد منيع بين قلبين. - سد من فولاذ. - أنستطيع أن نحطم هذا السد؟ - كيف يا حبيبي؟ - إن الحديد بالحديد يفلح، بهذا الخنجر، ثم قذف بالخنجر فسقط في حجرها، فقامت مذعورة وقد تفتحت عيناها، وارتعشت يداها، وأدركها ما يدرك النساء ساعة الوهل من الذهول، وارتجاف العصب، ثم همست والكلمات تتعثر بلسانها: تريد أنه يقتل؟ - نعم يقتل؛ لأن الحب لا يقف في طريقه شيء. - لا يا حبيبي، دعني من القتل وذكر الدماء، وخذ في وسيلة أخرى. - ليس أمامي شيء غير القتل، ولو واتتني الفرص كما تواتيك ما توانيت لحظة عن قتله. - كما تواتيني؟ أتريد أني أقتله أنا؟ - ولم لا؟ - لا، إنني أوثر أن يقتلني الحب على أن أمد يدي لقتل رجل أعيش تحت سقف داره. - تعيشين تحت سقف داره ذليلة منبوذة، تعيشين تحت سقف داره وتتركينه ينام ملء عينيه هانئا سعيدا، وحبيبك يتقلب دنفا حزينا على فراش من سهاد، تعيشين تحت سقف داره وتتحرجين من قتل رجل يقتل نفسين في وقت معا، إنني لن أعيش طويلا إذا ظلت هذه الحال، ولن تمر أيام حتى تذرفي الدموع على شهيد قتلته حبيبته؛ لأنها لم تقتل قاتله. - إن القتل أكبر الجرائم إثما عند الله والناس. - ألا يقتل بعض الناس بعضا في الحرب فرحين متفاخرين؟ - ذلك في ميدان الحرب يا حبيبي. - إن الوليد يحاربني ويحاربك بسلاح مسموم، فيجب أن ندفع عن أنفسنا، وأن نقتل قاتلنا. - ولكني لا أقتل أحدا. - إذا لم تقتليه فخير لي أن أقتل نفسي، ثم وثب نحو الخنجر فدفعته عنه مذعورة وصاحت: لا تفعل يا حبيبي، وقل ما شئت فإنني لك سمع وطاعة، فارتمى على وسادته كالمجهود، ثم قال: إن الأمر أهون ما يكون، إن الوليد ينام وحده، فإذا هدأت الأصوات، ونامت العيون، ولم يبق من الليل إلا أقله، تسللت إلى حجرته كأنك الطيف الطارق، أو الظل الساري، فأغمدت هذا الخنجر في صدره وهو نائم، دون أن تسمع لك نأمة، أو تحس حركة، ثم عدت فغسلت يديك، ونمت مطمئنة هادئة، فإذا جاء الصباح وعلم الأمر سهل أن يتهم بقتله أحد خدمه، وبينهم رستم الفارسي الذي هو جاسوس عليه من خراسان، ثم ناولها الخنجر فخبأته تحت ثيابها، وخرجت من لدنه مضطربة ذاهلة كأن بها مسا من جنون.
ولما بلغت القصر لمحها أبو رقية، وقرأ بعينه البلهاء ما على وجهها من خوف وحذر، ورأى في اضطراب مشيتها، وفي حديثها الذاهل المتعثر ما يريب؛ لأن المسكينة على ما بذلت من جهد لم تستطع أن تكبت ما يجيش في صدرها من أمواج الدسيسة، لمحها أبو رقية فأخذ يغالط نفسه، ويتهم عينيه، ويلوم عقله المختبل على إساءة الظن بفتاة قد يكون عصف بها مطل حبيب، أو فراق خليل، ثم إنه يعرف بصورة مبهمة أن الوليد ينأى عنها بحبه، ويخص بغرامه سعاد الكوفية، فلعل ثورة من الغيرة طافت بها في هذه اللحظة، والنساء لغز معقد لا يهتدى إلى حله، وتيه مضلل تدور فيه ولا تخرج منه، ولكنه رجع إليها البصر فلمح نتوءا لا يكاد يرى عند أعلى فخذها اليمنى، فعاوده الشك، وتملكته الحيرة: أتخفي صدوف شيئا تحت ثيابها؟ ولم تخفيه إذا لم تقصد شرا؟ وما هو؟ ولعب الشيطان بعقله، وتزاحمت هواجسه، فصمم على أن يتابع حركاتها دون أن تشعر ليرى إلى أي مدى تنتهي، وجاء المساء، وانصرف أهل القصر إلى شيء من اللهو والطرب كعادتهم، وصلى الوليد العشاء الآخرة بعد أن مر هزيع من الليل، وتحين أبو رقية غفلة العيون فدلف إلى حجرة نوم الوليد، واختفى تحت سريره، ثم ذهب الوليد لينام، وأوى من بالقصر إلى مضاجعهم، ولما سكتت الأصوات، ولف القصر ضرب من سكون الموت بعد أن كان يضطرب بضجيج الحياة، وأوشك الليل أن يزمع الرحيل، قامت صدوف من مرقدها خائفة مرتعشة، ولكنها استعانت ببقية من مذخور عزيمتها، فأسرعت الخطا في حذر وترقب، حتى بلغت الحجرة فدخلتها، فسمعت تنفس الوليد هادئا فأدركتها رجفة، ولكنها لم تأبه لها، وتقدمت والخنجر في يمينها، وسمع أبو رقية خطواتها فتزحزح ليخرج من تحت السرير، فرأى صدوف ويدها تمتد بالخنجر إلى صدر الوليد، فوثب من مكانه وقبض على يدها بقوة ليست في طوق البشر، وذعرت الفتاة للمفاجأة؛ فصرخت وقذفت بالخنجر، ودهمتها موجة جارفة من البكاء والنحيب، واستيقظ الوليد؛ فدهش لما رأى وصاح: ما الخبر يا أبا رقية؟ - شيء تافه، فتاة تريد أن تنافسني في الجنون. - قل لي ما الخبر قبل أن أكون مجنونا ثالثا. - سلها يا سيدي.
وكان من بالقصر قد تيقظ للجلبة والصياح، فهرع الجواري والخدم إلى حجرة الوليد، وجاءت أمه ترتعد من الخوف، حتى إذا رأته رمت بنفسها بين ذراعيه وهي تجهش بالبكاء، وقبض الوليد على ذراع الجارية وقال: قولي ماذا كنت تقصدين بهذا الخنجر؟ فأجابت بين الشهيق والعويل: كنت أقصد أن أقتلك. - ولم تقتلينني يا فتاة؟ - ذلك سرا أطويه لنفسي. - هل أغراك أحد بقتلي؟ - لم يغرني أحد، فازداد غيظ الوليد، ولكنه كبح غضبه، وأمر سبرة أن يحبس الفتاة، وألا يمسها بسوء، ثم التفت إلى أمه وهو يقول مشيرا إلى أبي رقية: لقد أنقذني هذا المجنون. - إنه ليس بمجنون يا بني، إنه إذا أراد كان أعقل العقلاء، حياك الله أبا رقية! لقد نجيت ولدي. - لعل من أكبر علامات جنوني أني أهتم دائما بهذا الوليد الذي لا يساوي جناح بعوضة؛ فضحك الوليد وقال: الآن عاد إليك الجنون، قل لي بالله: كيف وصلت إلى حجرتي؟ - لقد ارتبت في أمر الفتاة منذ الصباح، وجال في نفسي أنها تريد بك شرا لا أدري لماذا، فاختبأت تحت سريرك قبل أن تنام، وقد صدق ظني، وتحققت وساوسي، فقالت أم الوليد: هذه مؤامرات من أعدائك حركت ساعد الفتاة بالخنجر يا بني، فإنك تمشي فوق أرض ملئت بالفخاخ!
وانتهت الحادثة، ومرت أيام وأيام، وعرف ابن عنبسة من اختفاء صدوف أن المؤامرة لم تفلح.
وفي أحد الأيام خرج الوليد للصيد مع فريق من ندمائه، وبينما كان يعدو فرسه «السندي» خلف غزال ظهر فارس من عبيد بني أمية كان مختفيا خلف أكمة، فلمحه الوليد وهو يصوب إليه سهما فراغ منه، فرماه بثان وثالث فأخطأه، وعجل الوليد فدار ووثب عليه بالسيف فأطاح رأسه وقال:
ألم تر أني بينما أنا آمن
يخب بي السندي قفرا فيافيا
تطلعت من غور فأبصرت فارسا
فأوجست منه خيفة أن يرانيا
ولما بدا لي أنما هو فارس
صفحه نامشخص