والملاهي - ولا سيما ملاهي الرقص والغناء - من ضروب التسلية التي يتسع لها وقت المرأة في الخدور، وفي البيوت التي لا تحسب من الخدور، وقد شجعها الرجال عليها وجعلوها من فنون التربية النسوية التي تروقهم منها، ولكن الأستاذية في الرقص المفرد وفي رقص الجنسين لم تكن من حظ المرأة في العصر الحديث، ولا في العصور القديمة، ولم يزل عمل المرأة في الرقص أقرب إلى التنفيذ منه إلى الابتكار والابتداء.
ومن اللهو الذي كان خليقا بالمرأة أن تحذقه وتتفوق فيه على الرجال، لهو الفكاهة والنكتة المضحكة؛ لأنها تحب أن تمرح وتلعب، ولأنها تشعر بالضغط وبالحاجة إلى التنفيس عن الشعور المكبوح. وقد عرف من طبائع النفس البشرية أن ضحايا الضغط والاستبداد يلجئون إلى السخر لرد غوائل الظلم التي لا يقدرون على ردها بالقوة، وإن المتعرضين لضرورات الخضوع والإذعان يقضون حق «التمرد» بالمزاح؛ حيث لا يتاح لهم أن يقضوه بالجد والمقاومة، ولكن المعهود في المرأة أنها قليلة الفطنة للنكتة، إلا في الندرة التي تحسب من الفلتات العارضة، وأنها لا تحسن أن تقابل نكات الرجال بمثلها مع كثرة النكات التي تصيبها في أنوثتها، فضلا عن سبقها لهم وامتيازها في هذا الباب عليهم؛ لأنها خليقة أن تحس من ضغط الاستبداد ما لا يحسه جمهرة الرجال. •••
وليس بالمجهول أن النساء قد نبغن من قبل، وينبغن الآن في طائفة من الأعمال التي يضطلع بها الرجال، وقد اشتهر منهن الملكات وقائدات العسكر، واشتهر منهن الباحثات والخطيبات، كما اشتهر منهن الصالحات الممتازات في شئون الدين والدنيا، وشمائل الفضائل والأخلاق، وقد تكون منهن من تفوق جمهرة الرجال في بعض هذه الأعمال. ولكن فضائل الأجناس لا تقاس بالنصيب المشترك، بل تقاس بالغاية التي لا تدرك، ولا تؤخذ بالاستثناء الذي يأتي من حين إلى حين، بل بالقاعدة التي تعمم وتشيع بين جملة الآحاد. وقد يوجد بين الصبيان من هو أقدر على أعمال الرجال، بل قد توجد في أثناء الليل ساعة أضوأ من بعض ساعات النهار، وإنما تجرى الموازنة على الغايات القصوى، وعلى الأغلب الأعم في جميع الأحوال، وما عدا ذلك فهو الاستثناء الذي لا بد منه في كل تعميم.
وعلى هذا يمكن أن يقال: إن «الاستثناء» يحمل في أطوائه دلائل القاعدة التي يخالفها، ولا يخلو من ناحية تعزز القاعدة الغالبة ولا تنفيها.
إن اسم السيدة «ماري كوري» أول الأسماء التي يذكرها القائلون بالمساواة التامة بين الجنسين، ولو صح أن هذه السيدة تضارع علماء الطبقة الأولى من الرجال لما كان في هذا الاستثناء النادر ما ينفي أنه استثناء نادر، وأن القاعدة العامة باقية لم تنقض ولا ينقضها تكرار مثله من حين إلى حين.
إلا أن الواقع أن حالة هذه السيدة خاصة بعيدة من أن تحسب بين حالات الاستثناء في مباحث العلم أو في المباحث العقلية على الإجمال؛ لأنها لم تعمل مستقلة عن زوجها، ولم يكن عملها من قبيل الاختراع والابتداع، وإنما كان كله من قبيل الكشف والتنقيب. قالت بنتها «إيف» في ترجمتها: «إن نصيحة بيير كان لها في هذه المرحلة الدقيقة شأن لا يغضى عنه، فإنما كانت الفتاة تنظر إلى زوجها نظرة التلميذ إلى معلمه؛ إذ كان أقدم منها دراسة للعلوم الطبيعية، وأطول منها خبرة ودراية، وقد كان عدا ذلك رئيسها بل مستخدمها. غير أنها بمزاجها وطبيعتها قد كان لها ولا شك فضلها في هذا الاختيار، فإن البنت البولونية قد انطوت منذ طفولتها على ملكة التطلع والجرأة التي ينطبع عليها المستكشف، وكانت هذه الملكة هي التي حفزتها إلى الشخوص من وارسو إلى باريس والسوربون.» •••
والواضح أن ملكة المستكشف على أرقاها وأتمها لا ترتقي في القدرة العقلية إلى منزلة الاختراع والافتتاح، فإنما هي امتداد لعمل الحس والبحث بالعينين، ينتهي بطول المراقبة إلى رؤية الشيء الذي لا يرى بالعين لأول وهلة، وقصاراه أنه صبر على النظر، ثم إدمان النظر، إلى أن ينكشف الشيء الذي لا بد أن ينظر بعد طول المراقبة في وقت من الأوقات. وقد كان العالم بيكريل
Bequerel
يبحث في إشعاع عنصر «الأورانوم» قبل أن تبحث فيه السيدة كوري مع زوجها وأستاذها، وبنى كلاهما بحثه على تقرير بيكريل، فوصلا إلى الوجهة التي اتجه إليها من قبل فأحسنا الاتجاه، وإن لم يكن لهما فضل التوجيه.
والحق أنه لمما يؤسف له من آفات العصر الحديث زيغ التفكير الاجتماعي في مسائل الإنسان الجلي كهذه المسألة الخالدة: مسألة التفرقة بين الجنسين في الكفاية والوظيفة، وعلاماتها البينة أشد البيان في الحاضر وفي سوابق التاريخ. فإن هذه المسألة الخالدة لتجمع بين الشمول المستفيض وبين العمق المتأصل ؛ بحيث لا تقبل اللبس، ولا تدع للناظر أن يطيل التردد حول مقطع الرأي فيها، لولا فتنة العصر بمخالفة القديم على هدى وعلى غير هدى في كثير من جلائل الأمور. •••
صفحه نامشخص