وتجمعها كلها هاتان الآيتان من سورة النساء:
واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا * وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا [الآية: 34، 35]. •••
فالنصيحة الحسنة أول ما يعالج به الرجل خلافه مع زوجته، فإن لم تنجح، فالقطيعة في المنزل دون الانقطاع عنه، فإن لم تنجح فالعقوبة البدنية بغير إيذاء، فإن خيف الشقاق فالتحكيم بين الأقربين من الطرفين.
ومن الضمان للزوجة في جميع هذه الخلافات أنها تملك أن تدفع عنها النشوز من زوجها إذا خشيت إعراضه:
وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير [النساء: 128].
وسبيل الصلح كسبيل الصلح الذي يلجأ إليه الزوج، وهو التحكيم.
ويخطئ بعض المفسرين فيحسب أن العقوبة بالقطيعة والهجر في المضاجع، تروع المرأة بما ينالها من الإيلام الحسي، وفوات المتعة الجسدية؛ إذ كانت حكمة القرآن الكريم أبلغ من ذلك، وأنفع في هذه الخصومة الزوجية، وإنما تردع هذه العقوبة المرأة لأنها تذكرها بالمقدرة التي توجب للرجل الطاعة في أعماق وجدانها، وهي مقدرة العزم والإرادة والغلبة على الدوافع الحسية. وبهذه المقدرة يستحق الرجل من المرأة أن يطاع، فلا تشعر بالغضاضة من تسليمها له بهذه الطاعة.
قال الأستاذ رشيد رضا رحمه الله في كتابه «نداء للجنس اللطيف»:
أما الهجر فهو ضرب من ضروب التأديب لمن تحب زوجها، ويشق عليها هجره إياها، ولا يتحقق هذا بهجر المضجع نفسه، وهو الفراش، ولا بهجر الحجرة التي يكون فيها الاضطجاع، وإنما يتحقق بهجر في الفراش نفسه، وتعمد هجر الفراش أو الحجرة زيادة في العقوبة لم يأذن بها الله تعالى. وربما يكون سببا لزيادة الجفوة، وفي الهجر في المضجع نفسه معنى لا يتحقق بهجر المضجع والبيت الذي هو فيه؛ لأن الاجتماع في المضجع هو الذي يهيج شعور الزوجية، فتسكن نفس كل من الزوجين إلى الآخر، ويزول اضطرابها الذي أثارته الحوادث قبل ذلك. فإذا هجر المرأة وأعرض عنها في هذه الحالة رجا أن يدعوها ذلك الشعور والسكون النفسي إلى سؤاله عن السبب، ويهبط بها من نشز المخالفة إلى صف الموافقة.
والذي نراه - وذكرناه في كتابنا عن عبقرية محمد - أن الأستاذ رحمه الله قد أخطأه المراد الدقيق في هذه العقوبة النفسية، وأن الحكمة في إيثارها أعمق جدا من ظاهر الأمر كما رآه الأستاذ. فأبلغ العقوبات ولا ريب هي العقوبة التي تمس الإنسان في غروره، وتشككه في صميم كيانه في المزية التي يعتز بها ويحسبها مناط وجوده وتكوينه. والمرأة تعلم أنها ضعيفة إلى جانب الرجل، ولكنها لا تأسى لذلك ما علمت أنها فاتنة له، وأنها غالبته بفتنتها، وقادرة على تعويض ضعفها، بما تبعثه فيه من شوق إليها ورغبة فيها. فليكن له ما شاء من قوة فلها ما تشاء من سحر وفتنة، وعزاؤها الأكبر عن ضعفها أن فتنتها لا تقاوم، وحسبها أنها لا تقاوم بديلا من القوة والضلاعة في الأجساد والعقول. فإذا قاربت الرجل مضاجعة له، وهي في أشد حالاتها إغراء بالفتنة ثم لم يبالها، ولم يؤخذ بسحرها، فما الذي يقع في وقرها، وهي تهجس بما تهجس به في صدرها؟ أفوات سرور؟ أحنين إلى السؤال والمعابثة؟ كلا، بل يقع في وقرها أن تشك في صميم أنوثتها، وأن ترى الرجل في أقدر حالاته جديرا بهيبتها وإذعانها، وأن تشعر بالضعف ثم لا تتعزى بالفتنة ولا بغلبة الرغبة. فهو مالك أمره إلى جانبها، وهي إلى جانبه لا تملك شيئا إلا أن تتقرب إلى التسليم، وتفر من هوان سحرها في نظرها قبل فرارها من هوان سحرها في نظر مضاجعها. فهذا تأديب نفس وليس بتأديب جسد. بل هذا هو الصراع الذي تتجرد فيه الأنثى من كل سلاح؛ لأنها جربت أمضى سلاح في يديها، فارتدت بعده إلى الهزيمة التي لا تكابر نفسها فيها، فإنما تكابر ضعفها حين تلوذ بفتنتها، فإذا لاذت بها فخذلتها، فلن يبقى لها ما تلوذ به بعد ذاك . وهنا حكمة العقوبة البالغة التي لا تقاس بفوات متعة، ولا باغتنام فرصة، للحديث والمعابثة، إنما العقوبة إبطال العصيان، ولن يبطل العصيان بشيء كما يبطل بإحساس العاصي غاية ضعفه، وغاية قوة من يعصيه، والهجر في المضاجع هو بمثابة الرجوع إلى هذا الإحساس. •••
صفحه نامشخص