فلم يجيزوا وقوع التعذيب إذا اجتنبت الكبائر للأدلة عن السمعية قوله تعالى: ﴿إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾، ثم أجابوا عن ذلك بأن الكبيرة مطلقة حتى الكفر: لأنه الكامل، وجمع الاسم بالنظر إلى أنواع الكفر، وإن كان الكل ملّة واحدة في الحكم، وإلى أفراده القائمة بأفراد المخاطبين على ما تمهد من القواعد أن مقابلة الجمع بالجمع انقسام الآحاد كقولنا: ركب القوم دوابهم. قالوا: ويدل على أن المراد بالكبائر الكفر.
قراءة: كبائر ما تنهون عنه، ثم أوردوا على أنفسهم أن مقتضى الآية السابقة أن
من اجتنب الكفر كفرت ذنوبه كلها، لوجوب تحقق الجزاء عند تحقق الشرط، وهذا أبلغ مما قاله الخصم؛ لأنه يخصه بالصغائر لإبقائه لفظ الكفر على ظاهره من العموم. ثم أجابوا بأن المراد إن تجتنبوا الكفر يجعلكم محلًا لتكفير سيئاتكم صالحًا؛ لأنه علق في الآية السابقة مغفرة ما دون الشرط على المشيئة، فلو قلنا: إن ذنوب من اجتنب الشرك تكفر من غير تعليق بمشيئة الله تعالى لزم التناقض فوجب التأويل. ويحتمل أن يكون الخطاب في قوله تعالى: ﴿إِن تَجْتَنِبُواْ﴾ للكفار. وإن كان ما قبله في المؤمنين، والمراد: ﴿سَيِّئَاتِكُمْ﴾، التي اكتسبها في خلال الكفر تكفر بالإسلام. انتهى كلامهم، وهو موافق لمن اشترط في التكفير التوبة مطلقًا، ولكنه ضعيف على ما تقدم. والجواب كما ذكروه أنه كمال التوبة تجب ما قبلها مع أن ما قبله داخل تحت قوله تعالى: ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ. . . .﴾، وقوله أيضًا: ﴿لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا. . . .﴾، ولم يلزم منه تناقض لقيام الدليل عليه بمقتضى وعده تعالى بذلك، فكذلك الصغائر تكفر باجتناب الكبائر، وإن كانت داخله، فما ذكر لقيام الدليل عليه بمقتضى وعده أيضًا، ويكون المراد من قوله تعالى: ﴿يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ﴾ الذنوب المستمرة التي لم تسقطها التوبة، ولم يكفرها فعل شيء من المكفرات في الدنيا جمعًا بين الأدلّة. أو تقول من اجتنب الكبائر فهو ممن شاء الله أن يغفر له بعض ذنوبه التي هي مما دون الشرك بمقتضى الوعد الكريم؛ لأنها إذا كفرت فقد غفرت، ولا يضر كون هذه المشيئة قد شرط لوجودها أمر آخر مقدور لله تعالى، وهو الاجتناب، لأنه لا يكون إلا بخلفه تعالى والله أعلم.
وأما حمل الكبائر على الكفر، فهو خلاف الظاهر، والذي يحمل على الكامل إنما هو المطلق، وأما العام فيشمل جميع أفراده على أنه إذا كان الحمل على الكامل يقتضي تعارض الأدلة المؤدي إلى إخراج لفظ أحدهما عن ظاهره، فيتعيّن عدم
المصير إليه. وأيضًا فالقاعدة في كلام الله تعالى ورسوله ﷺ على ما صرح به الفخر الرازي أنه متى تردد بين حملة على ما هو أقل فائدة، وما هو أكثر فائدة، فحمله على ما هو أكثر فائدة أولى وأما جعل الخطاب في الآية للمشركين مع كونه خلاف الظاهر مردود بالأحاديث الواردة في ذاك والله أعلم.
وقد اقتضى ما قدمناه عنهم أن المخالف لهم في ذلك إنما هم المعتزلة وبه صرح صاحب الانتصاف من الكشاف، فقال في الرد على الزمخشري: إن القول بأن اجتناب الكبائر يوجب تمحيص الذنوب
1 / 180