و«الترجمة الذاتية» مألوفة لهذا السبب في أوروبا وأمريكا، بل إن دراسات برنارد شو، وكذلك قصص ولز، وجميع مؤلفات أندريه جيد، هي جميعها تراجم ذاتية موزعة.
ولكن هناك المئات من المؤلفين الغربيين الذين كتبوا قصص حياتهم كي يبرزوا للقراء عبرتها، كتبوها في غير مداورة دون أن يتحملوا صيغة القصة الخيالية لإبرازها، وأحسوا أنهم يؤدون بهذا واجبا روحيا.
ولكن لا تزال «الترجمة الذاتية» بعيدة عن الوجدان الأدبي في مصر، ولم يحاولها غير طه حسين وأحمد أمين، والإقدام على الترجمة الذاتية برهان على أن الكاتب على وجدان بعصره، وعلى تفطن لمشكلاته، وعلى تبصر بالمستقبل في ضوء الحاضر، وعلى احترام للفن الذي يعالجه، وأخيرا هي برهان على أنه يجد ارتباطا وثيقا وتفاعلا حيا بين فنه وحياته وبين شخصه ومجتمعه، وعلى أنه ينظر إليهما نظرة الجد والخطورة وليس نظرة المجانة والاستهتار.
وإننا لنحس حين نعرض لحياة طه حسين، منذ نشأته طفلا ضريرا في قرية في الصعيد إلى أن صار وزيرا، أن حياته هي خير مؤلفاته، كما نحس حين نقرأ عن كفاح فولتير لإنقاذ المضطهدين ، وحرصه على أن يدخر حياته لهذا الكفاح باختيار بقعة تمكنه من الفرار بين فرنسا وسويسرا، وزيارته لإنجلترا ودراسته الدستور البريطاني ونظرية نيوتن، نحس أن هذه الحياة هي الكتاب الأول، كتاب الشرف والشهامة والتعقل، الذي كتبه فولتير.
وهذا هو الشأن في برنارد شو الذي عاش أربعا وتسعين سنة، يعالج فيها حياته، ويعيد تأليفها من وقت إلى آخر، كي يتجدد وينمو.
حياة الكاتب العظيم هي خير مؤلفاته، ومن حق الجمهور أن يطالبه بوصفها وشرحها وتعليلها؛ لأنها تزيده استنارة وتفطنا لموضوعاته وأسلوبه، ومن واجب الكاتب أن يلبي هذا الطلب. •••
كثيرا ما نستدل على أسلوب الكاتب بحياته، فإنه إذا كان اشتراكيا مثلا، فإنه يتجه نحو الوضوح والصراحة والمجابهة، لا يوارب ولا يداور؛ لأنه يحس حبا للجمهور الذي يكتب له كما يحس حقا في الاهتمامات التي يهتم بها، وهو سوائي النزعة، إخائي الهدف، إنساني الدين، ولذلك كله تجده يجانب التبختر، ولا يحاول التفوق، حتى ليبدو أسلوبه ساذجا، ولكنها سذاجة الكوب أو الكأس من الذهب لا تحتاج لأي زخرف.
ولكن الكاتب الذي يهدف إلى الامتياز الاجتماعي، وينشد التفوق المالي، ويعيش فوق الجماهير وينفصل عنها في حي بعيد عن حي بولاق أو السيدة أو السبتية، هذا الكاتب يختار أسلوبا يتفق وأسلوب حياته، فهو لا يخاطب الجماهير بلغتهم؛ إذ هو لا يفكر فيهم إذا فكر، إلا وهو ناء بارد، ومن هنا نزوعه إلى التقاليد الكتابية؛ لأن مركزه الاجتماعي تؤيده التقاليد، ولقد تعالى عليهم في أسلوب العيش فتعالى عليهم في أسلوب الأدب.
ونستطيع أن نقيس الأدب العربي القديم ونقده بهذا المقياس، فإن فيه كما في الأدب الحديث عيبا أصيلا، هو أن الأدباء كانوا يكتبون للأدباء وليس للشعب، وهذا واضح لمن يقرأ صفحة أو صفحات من المتنبي أو ابن الرومي أو المعري، فإن جمهور الشعب لم يكن على دراية باللغة العربية تجعله قادرا على فهم ما كان يكتبه هؤلاء.
وذلك لأن الوجدان الشعبي، أي الإحساس بأن هناك شعبا عربيا له آمال وأهداف، هذا الوجدان لم يكن قط ميزة هؤلاء الأدباء .
صفحه نامشخص