وأخيرا لو سئلت: ما هي انطباعاتك التي ستذكرها بعد عودتك إلى القاهرة مما رأيت في باريس؟ لو سئلت هذا السؤال الصعب لقلت: إنه «الدينصور».
وهذه كلمة قد يغرب لفظها ومعناها. ولذلك أحتاج إلى بعض التفصيلات، ذلك أني عندما قدمت إلى باريس بحثت عن متاحف التاريخ الطبيعي، وزرت المتحف الذي يجاور حديقة النبات، وهناك في قاعته الكبرى وقفت جامدا أولا، متحمسا ثانيا، أمام هذا الكابوس الذي كان يجوس أرضنا قبل ثمانين مليون سنة. هذا الدينصور الذي كان يزيد على أربعة أضعاف الفيل، وكان مع ذلك يبيض ولا يلد، ولم يكن مخه يبلغ، بالمقارنة إلى جسمه، مخ الفأر أو الأرنب.
هذ الدينصور، الذي لم يكن تشريحه يختلف عن تشريح السحلية، قد انقرض، ولم أكن قد رأيته قبل ذلك، ولن أنساه، لن أنسى هذا التاريخ القديم الذي تجمد فيه، والذي عنيت الحكومة الفرنسية بإقامة عظامه وتركيب جسمه كي يستنير المظلم ويتعلم الجاهل.
وقبل أن أدخل المتحف وجدت تمثال «لامارك »، ونزعت قبعتي له وحييته، وبيني وبين هذا العظيم حب قد تجدد؛ لأنه هو الذي قال بأن الصفات المكتسبة في النبات والحيوان تورثت، وأنكر العلماء هذا القول أكثر من مئة وخمسين سنة، ثم عادوا إليه هذه الأيام.
وأرجو أن أعذر في ذكر الدينصور ولامارك، فإني مشغول منذ نصف قرن بنظرية التطور، ولهذين الاسمين رنين يتردد في ذهني كل عام.
أما سائر ما انطبع في ذهني عن باريس بعد إقامة أربعين يوما فكثير، ومن ذلك مثلا هذا الإحساس بأن باريس، المدينة الفنانة، هي عاصمة أوروبا كما هي عاصمة فرنسا، ففي كل شارع أغراب من القارات الخمس، وهم يجدون الترحيب واللطف من الباريسيين، وهنا آلاف من الزنوج والآسيويين الذين يتعلمون ويتجرون في حرية مطلقة، ولا يعرف الباريسيون ذلك الاستغراض اللوني أو العنصري الذي تعرفه أمم أخرى، وليس هنا مطعم أو فندق يمنع الزنجي من دخوله.
والغلاء فادح في فرنسا، ولكن الأجور عالية، ولا تقل أجرة الكناس الشهرية على ثلاثين أو أربعين جنيها، والعامل المتخصص يحصل بسهولة على ستين أو سبعين جنيها، ولكن مع كل هذا الغلاء لا تزال أثمان الخبز والبطاطس منخفضة. •••
وأكثر ما يلفت النظر في باريس هو هذه الحيوية بين الباريسيين، فإن النشاط عام، حتى العجوز التي تبلغ السبعين تثب إلى الترام كأنها في العشرين، والحديث يجري صريحا بكلمات لامعة ونكات متوالية تجعلك في شك من أنها تعلن الحقائق أو تخفي التشأؤم، وكلمات المجاملة كثيرة، وتكاد تكون إجبارية، فإن القبعة ترفع عند السلام بحركة آلية، وكلمة «مرسي» تعقب الإجابة كأنها صوت فنوغرافي.
واحترام الجمهور عادة أصيلة، فإن السائقين للأوتوبيسات والأتومبيلات يقتربون منك وأنت تعبر الشارع في تؤدة وعناية دون أن يطلقوا البوق، واحترام المرأة هو أقرب إلى الشعائر الدينية منه إلى العادات الاجتماعية، فحيثما توجد امرأة يكون كل من حولها من الرجال خدما لها، لا يحدثها أحد إلا وهو يبتسم كأنه يسترضي، ولا تحتاج هي إلى شيء حتى تمتد الأيدي العديدة لمناولتها إياه.
والقهوة في باريس ليست للقهوة فقط؛ إذ هي حانة وناد ومطعم أيضا، وجميع الفرنسيين يشربون الخمور منذ السنة الأولى من العمر إلى يوم يدفنون، ولكن ليس بينهم من ينغمس فيها إلا القليلين، بل القليلين جدا، فإنك حين تسير في شوارع باريس بعد منتصف الليل لا تقع عينك على سكران.
صفحه نامشخص