عقيدة الخلود ... في ميزان الثقلين
إعداد : الشريف أبو الحسن الرسي .
(الكاظم الزيدي)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، صادق الوعد والوعيد ، العدل الذي لا يجور ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، محمد بن عبدالله النبي الهادي الأمين ، وعلى آله الطيبين الطاهرين ، نجوم السماء ، وسفن النجا ، وأهل كل مكرمة ومنقبة ، ورضوانه على صحابته المتقين حصون الدين ومعقله ، والتابعين لهم بخير وإحسان إلى يوم الدين .
وبعد :
فإنه كثر الكلام على مسألة خلود أصحاب الكبائر المصرين من أهل القبلة ، وأطنب الباحثون في شرحها وتبيانها ، نقضا وإثباتا ، فأصاب البعض ، وأخطأ البعض الآخر ، هذا ويعلم الله الذي لا إله إلا هو أن لا غرض لنا من كتابة هذه السطور إلا إحقاق الحق الذي أدى إليه بحثنا (ولا أقول اجتهادنا) ، إذ نحن دون مرتبة الاجتهاد ، وإن كنا في الحقيقة مجتهدين في البحث عن طرق السلامة ، إذ هذا واجب التكليف ، وحق العقل الذي أنعم الله به علينا وعلى سائر أهل التكليف من الجن والإنس أجمعين ، نعم! وضروري استنادي على ما صح عن رسول الله (ص) عندما قال : ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبدا كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض)) ، فعلق التمسك بالكتاب والعترة بعدم الضلال ، وأكد هذا بعدم الافتراق إلى يوم القيامة ، نعم ! فلست أعول إلا على ما نطق به الكتاب ، وأجمعت العترة الحسنية والحسينية عليه منه ، فإن كان قارئ هذه السطور ذا لب سوي فلن ينازعني شرطي هذا (أعني التعويل على الكتاب وإجماع أهل البيت) ، لأنه وإن أنكر حق العترة وواجب الإتباع والإقتداء بإجماعاتهم ، فإنه حتما لن يستطيع أن ينكر منطوق الكتاب العزيز الذي : ((لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد)) [فصلت:42] ، ولن ينكر قول الرسول (ص) في حديث العرض : ((ما أتاكم من حديثي فاقرأوا كتاب الله واعتبروه فما وافق كتاب الله فأنا قلته ، وما لم يوافق كتاب الله فلم أقله)) ، فإن أنكر منكر حديث العرض هذا ، فليعمل العاقل عقله وليعلم أنه لو لم يرد أثر كهذا لوجب أن يستنبط مفهوم هذا الحديث بعقله ، إذ أن رسول الله (ص) يستحيل أن يأتي بما يخالف على الكتاب ، نعم ! ليس هذا مقام الإسهاب بل الإشارة والاختصار ، فكتاب الله وإجماع العترة شرطي في هذا البحث ، بقي أمر يجب التنبيه عليه في هذه الديباجة ، وهو أنه نازعنا في أقوال أهل البيت (ع) في مسألة الخلود عدة من الباحثين فذهبوا إلى نفيهم لها عنهم ، إضافة إلى الخلط منهم بين مفهوم الرجاء وإنكار الخلود ، ونسبوا هذا كله إلى سادات بني الحسن والحسين صلوات الله عليهم ، واستدلوا على هذا بأدلة ونقولات سنتعرض لها في المبحث الثاني من رسالتنا هذه بإذن الله تعالى ، وذلك أنا قسمنا الكلام إلى ثلاثة مباحث ، المبحث الأول : عبارة عن تمهيد واستقراء مختصر لعقيدة خلود فساق أهل القبلة في النار . والمبحث الثاني : يتكلم عقيدة الخلود في القرآن الكريم (ثقل الله الأكبر) وما يقوله الكتاب عنها . والمبحث الثالث : يتكلم عن عقيدة وأقوال أهل البيت (ثقل الله الأصغر) وإجماعهم في المسألة ، وكذلك ينقل أقوال شيعتهم الكرام . نعم ! وهذا فأوان الابتداء بعد التوكل على صادق الوعد والوعيد رب العالمين :
المبحث الأول : تمهيد واستقراء لعقيدة خلود فساق أهل القبلة في النار :
أولا : تمهيد :
أجمعت الأمة الإسلامية أن من مات وهو مؤمن ، مقرنا إيمانه بالأعمال الصالحة التي أمر بها الله والرسول (ص) ، فإنه مستحق لدخول الجنة والخلود فيها ، بنص الكتاب العزيز ، وصريح قول الرسول (ص) ، ثم اختلفت بعد ذلك في من مات من أهل الإسلام وهو مصر على ارتكاب كبيرة من الكبائر ، كالخمر ، أو الزنى ، أو أكل مال اليتيم ، اختلفوا في حاله بعد الموت ، ففرقة قالت : أن مرتكب الكبيرة هذا يكون مؤمنا ناقصا إيمانه ، وأنه يستحق دخول النار ، ولكنه لا يستحق الخلود فيها لمكان وجود بعض الإيمان في قلبه ، وقالوا : بأن خروج هذا العاصي من النار إلى الجنة يكون بشفاعة الرسول (ص) له ، وهذا هو قول الفرقة السنية ويشاركهم فيه الجعفرية من الشيعة ، فكلهم رووا عن رسول الله (ص) أنه قال : ((شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)) ، نعم ! وفرقة قالت بأن مرتكب الكبيرة المصر عليها عند الموت يستحق دخول النار ، ويستحق الخلود فيها ، وأنه لن يخرج منها إلى الجنة أبدا ، وأن رسول الله (ص) لن يشفع لهؤلاء العصاة أبدا ، وهذا هو قول الزيدية من الشيعة والإباضية ، واستدلوا بآيات عديدة من القرآن الكريم (سنذكرها بالتفصيل في المبحث الثاني بإذن الله تعالى) ، ومن هذه الآيات قول الله تعالى : ((والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما * يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا * إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما)) [الفرقان:68-70] ، وهذا تصريح من الله تعالى في استحقاق الخلود لمن مات مصرا غير تائب من كبيرته ، ولقي الله عليه ، ومن استحق عليه الخلود لم يشفع له رسول الله (ص)، وإلا كذبت وكذبت الآية ، عياذا بالله وتعالى ، إذ خروج المسلمين العصاة المصرين من النار إلى الجنة ينافي الخلود ، والقرآن مصرح بالخلود في حقهم ، هذا باختصار ، وتفصيله في سرد قول القرآن ومذهب أهل البيت (ع) ، سادات الزيدية ، في مسألة الخلود .
ثانيا: علاقة الخلود بمسألة الشفاعة :
وفيه اعلم هدانا الله تعالى وإياك ، أن نقاشنا في هذه الرسالة لمسألة خلود فساق أهل القبلة في النار ، يرتبط بنتيجته ، الوقوف على القول الحق في عقيدة الشفاعة ، نعني شفاعة الرسول (ص) لأهل الكبائر ، وإخراجهم من النار إلى الجنة ، لأنا متى أثبتنا أن الخلود في النار لازم لأصحاب الكبائر من المسلمين ، لزم هذا انتفاء أن يشفع لهم رسول الله (ص) ، لأن الرسول (ص) لا يرد على الله قرآنه ، ولا يكذبه في قوله ووعده ووعيده، وهذا معروف بالفطرة السوية .
نعم ! بقي أن نناقش مسألة خلود أهل الكبائر من أهل القبلة بالدليل الذي اشترطناه على أنفسنا في ديباجة هذه الرسالة ، وهو استعراض أدلة الكتاب الثقل الأكبر، وأدلة أهل البيت (ع) ، سادات بني الحسن والحسين (ع) ، ثقل الله الأصغر ، والسنة لن ترد حتما على الكتاب ، وإجماع أهل البيت (ع) لن يرد على السنة ، فاجتماع الكتاب وإجماع أهل البيت (ع) يعني أن قولهم في السنة صحيح ومتين .
المبحث الثاني : إثبات أن عقيدة خلود أهل الكبائر هي منطوق القرآن الكريم:
في هذا المبحث نتناول مسألة الخلود من منظور قرآني بحت ، نستعرض فيه سبعا وثلاثين آية فيها الدلالة على خلود أصحاب الكبائر في النار ، فمن تلك الآيات :
[ الآية الأولى ] :
قال الله تعالى : ((يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير)) [البقرة:20]
الشاهد : هنا استلهم أخي الباحث أن المانعين لخلود أصحاب الكبائر في النار هم المتعذرون بالمشيئة الإلهية من قول الله تعالى : ((إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما)) [النساء:48] ، فقالوا : أن مشيئة الله تعالى هي غفران جميع الذنوب (صغائر أو كبائر) التي دون الشرك ، وبالتالي سيدخلهم الله الجنة ، ونحن نقول أن مشيئة الله تعالى لغفران الذنوب في الآية ليست تنطبق على العصاة المصرين وإنما تنطبق على التائبين من الذنوب منهم ، فإن الله تعالى سيغفر لهم ، إذ لا غفران لكبيرة بدون توبة ، فمشيئة الله تعالى لغفران الذنوب في آية النساء القريبة مشروطة بالتوبة ، وزيادة في البيان لأبعاد ومعاني إطلاق الله للمشيئة في القرآن ، نستحضر آية البقرة السابقة (وننحى فيها منحى آخر في النقاش للمسألة مقرب للفهم) وفيها تأمل مشيئة الله تعالى في إذهاب سمع وأبصار الكفار ، تجده يقول : ((ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم)) ، ولكن في الحقيقة والواقع أنه لم يذهب بسمعهم ولا أبصارهم ، وهذا دليل على أنه (لا يشاء ) أن يذهب سمعهم ولا أبصارهم ، ومثله نقول لمن تعلل بأن الله قادر على أن يدخل مستحق النار الجنة إذا شاء ذلك ، وعليه فدخول أصحاب الكبائر إلى الجنة أمر غير ممتنع على الله تعالى ، وعلى هذا نرد ونقول : تسليما وتسايرا معكم في الجدال كيلا يطول ، أخبرونا هل مشيئة الله تعالى التي أخبر عنها في القرآن قد تخالف مشيئة الله التي قد يشاؤها يوم القيامة ؟! إن قلتم : نعم ، قد تخالف مشيئة الله التي شاءها ونطق بها القرآن مشيئته يوم القيامة . قلنا : فهذا القول منكم يجعل وعود الله ووعيده الذي اشتمل عليه الكتاب وصرحت بها السنة غير مركون إليها ، ولا موثوق فيها ، فعلى قولكم أن الشفاعة لأهل الكبائر نصيب منها ، نقول : قولكم مردود بالمشيئة الأخروية التي آمنتم بها ، إذ قد يشاء الله ألا يشفع لأهل الكبائر ، وقد يشاء الله أن يخلد أصحاب الكبائر في النار كما تقول الزيدية ، وقد يشاء الله ألا يجعل الشفاعة العظمى من نصيب نبينا محمد (ع) فيجعلها لإبراهيم (ع) ، وقد يشاء الله ألا يقيم مهديا في آخر الزمان ، وقد يشاء الله ألا تكون هناك قيامة بل تكون حياة سرمدية أبدية !! . إن قلتم : ما هذا يا رحمكم الله ، كيف بنيتم أصل كلامكم هذا؟! .قلنا : بنيناه على أصلكم الذي يقول : أن الله قد يشاء في الآخرة بما لم يشأه في القرآن أو السنة ، لأن الله على كل شيء قدير .إن قيل : وضحوا ذلك أكثر ودعموه بالأدلة . قلنا : مشيئة الله في القرآن تقول في حق من تعدى حدود الله من المسلمين في المواريث ولم ينصف في القسمة وأجحف فيها مطيعا هوى نفسه ، ومؤثرا طمع الدنيا على الآخرة : ((تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم * ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين)) [النساء13-14] ، فمشيئة الله تعالى تقول في حق المتعدي في قسمة المواريث أنه : ((يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين)) ، وذلك لأنه عصى الله وتعدى حدوده ، وقولك أيها المخالف: أن الله تعالى قد يشاء في الآخرة أن يدخل ذلك العاصي الغير تائب إلى الجنة بدون مرور على النار ، وقد تقول أيضا : أن الله قد يشاء أن يدخل ذلك العاصي الغير تائب إلى النار ولكنه لا يشاء أن يخلده فيها ، بل سيخرجه بعد زمن إلى الجنة !! ، فهل هذا أخي العاقل إلا عين ما ذكرنا لك من الأمثلة القريبة !! ، انظر إلى قول الله تعالى أخي الباحث : ((وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا)) [الكهف:58] ، وهنا تأمل موعد الله تعالى في هذه الآية هل هو حق على قاعدتكم أخي المخالف ؟! نعم ! فإن بان لك أخي المخالف عوار هذا القول من جهة العقل ، فاعلم أن ما بني على باطل فهو باطل ، وقاعدتكم هذه باطلة فما ابتنى عليها لاشك باطل . نعم ! وأما إن قلتم : لا ، إن مشيئة الله في القرآن لن (تفيد النفي والتأبيد) تخالف مشيئة الله في الآخرة ، فقد رجعتم إلى قول أهل البيت (ع) ، ووافقتم الكتاب وصحيح السنة المحمدية ، فالله تعالى يقول في محكم كتابه : ((ومن أصدق من الله حديثا)) [النساء:87] ، ويقول : ((ومن أصدق من الله قيلا)) [النساء:122] ، والحمد لله .
[ الآية الثانية ] :
قال الله تعالى : ((فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم)) [البقرة:37]
الشاهد : هنا تأمل آدم صلوات الله عليه عندما عصى الله وأكل من الشجرة التي نهاه عنها، تأمل الفرق بين حاله وحال إبليس ، إبليس عصى الله وأبى أن يسجد لآدم ، وآدم عصى الله تعالى وأكل من الشجرة التي نهاه الله عنها ، فأخرج الله آدم وأودعه الأرض ، الجدير بالذكر هنا أن الله رضي على آدم ولم يرض عن إبليس ، مع أنهما اشتركا في عصيان الله تعالى ، لماذا ؟! لا سبب ، إلا التوبة ، فآدم (ع) قطع غضب الله تعالى عليه بالتوبة والرجوع والإنابه ، ((فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه)) ، وكلمات آدم كانت عبارة عن استغفار ، وأما إبليس فلم يقطع غضب الله تعالى عنه بل زاد في عناده طاغيا في الأرض ، فالتوبة إذا شرط انقطاع غضب الله تعالى ، يقول الله تعالى في حق نبي الله يونس (ع) : ((فلولا أنه كان من المسبحين * للبث في بطنه إلى يوم يبعثون)) [الصافات:143-144] ، فكان تسبيح يونس (ع) سبب في إطفاء غضب الله تعالى عليه، هذا ويونس (ع) لم يفعل إلا صغيرة بغير تعمد ، وذلك أنه استعجل قومه بالتوبة والرجوع إلى الله فخرج من قريتهم غير مأذون له من الله ظانا أن الله لن يغضب عليه ، قال تعالى : ((وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين)) [الأنبياء:87] ، فتوبة آدم ويونس صلوات الله عليهما قطعت عنهما غضب الله تعالى ، وإلا لكانوا ممن غضب الله عليهم إلى يوم الدين ، وذنوبهم صغائر ، فكيف بأصحاب الكبائر المشركين والقتلة والزناة وأصحاب الربا من أصحاب القبلة ممن ماتوا وهم مصرون غير تائبون ؟! هل نتوقع أن ينقطع غضب الله عليهم في الآخرة بدون توبة ، ومعلوم أن التوبة محلها الدنيا ؟! فكيف أخي وآيات الوعيد تخبر بحالهم الخالد الأبدي يوم القيامة ؟! ، اللهم صل على محمد وآل محمد .
[ الآية الثالثة ] :
قال الله تعالى : ((واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون)) [البقرة:48]
الشاهد : هذه الآية من الآيات المحكمات في القرآن الكريم ، إذ أن حال هذه الآية منطبق على جميع الأمم يوم القيامة ، ((واتقوا)) يا بني إسرائل ، ((يوما)) هو يوم القيامة ، ((لا تجزي)) لا تنفع ولا تشفع ولا تدفع ((نفس عن نفس )) بتحمل العذاب عنها ، أو بالشفاعة في إزالته عنها ، ((شيئا)) ولا مثقال ذرة ، ((ولا يقبل منها)) من النفس التي تريد أن تتحمل عذاب غيرها ، أو تشفع لغيرها بما لا تستحق ، ((شفاعة)) أي وساطة ، ((ولا يؤخذ منها)) من النفس الشافعة لمن لا يستحقون ((عدل)) أي فداء أو ما يماثل الشفاعة في طريقته ، ((ولا هم)) أصحاب الأنفس الظالمة ((ينصرون)) بشفاعة الشافعين ، أو فداء المفتدين . نعم ! إن قيل : هذه آية خاصة ببني إسرائيل ، إذ جاءت في سياق آيات تتكلم عنهم . قلنا : بل هي عامة في كل نفس ظالمة يوم القيامة ، فالله سبحانه وتعالى يخاطب بني إسرائيل ويعلمهم بحال جميع الأنفس ، جميع الأمم ، جميع الجماعات ، يوم القيامة ، فتأمل قوله تعالى : ((يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا)) تجده جل ذكره يتكلم عن يوم القيامة ويصف حالة شاملة لجميع الأنفس في ذلك اليوم ، فلو قال الرجل لبني زيد من الناس : يا آل زيد اتقوا يوم تعارك العرب والعجم فإنه يوم لا ينفع فيه شفاعة ولا افتداء ، فهل تفهم من هذا أخي الباحث عن الحق أن عدم قبول الشفاعة والافتداء ليست إلا في بني زيد هؤلاء فقط ، وأن بقية العرب والعجم في ذلك اليوم سيقبل فيهم الشفاعة والافتداء ، وتنبه : أن القائل قال : ((اتقوا يوم تعارك)) ، فمقصده شمول عدم قبول الشفاعة ولا الافتداء لكل من حضر ذلك اليوم ، فإن فهمت هذا وتدبرته ، فأعد تفهم الآية الكريمة وتدبرها ، فلله المثل الأعلى . إن قيل : قد فهمنا قولكم القريب ، ولكنا وجدنا كلامكم في الشفاعة في الآية ينصرف إلى الأنفس الظالمة وأنه لا يقبل فيها شفاعة ولا عدل ، بينما الخطاب جاء عاما في جميع الشفاعات ((ولا يقبل منها شفاعة)) أي ولا يقبل من أي نفس أي شفاعة للنفس الأخرى ، وهذا ينفي الشفاعة من أساسها ، لا الشفاعة للمؤمنين ، ولا الشفاعة لأصحاب الكبائر . قلنا : آخر الآية لا يصرح بهذا ، فالشفاعة المقصودة في الآية (نعني الشفاعة الغير مقبولة) هي الشفاعة للنفس الغير مستحقة ، أي للنفس المستحقة للنار ، أي للنفس التي لا يرتضيها الله تعالى ، والدليل قوله تعالى : ((ولا هم ينصرون)) ، والمعلوم أن الأنفس التي لا تنصر يوم القيامة ليست إلا الأنفس الظالمة ، أما الأنفس الصالحة المؤمنة فإنها منصورة بإذن الله تعالى ، عليه فالخطاب في الآية عام في جميع الأنفس الظالمة ، الغير مرضي حالها عند الله سبحانه وتعالى ، والأنفس الظالمة منها المشركة الكافرة ، ومنها المسلمة الفاسقة ، فارتكاب المسلم للزنا فسق ، والزنا عمل لا يرضي الله تعالى ، ومن ارتكبه فقد ظلم نفسه ، فهو شخص ظالم فاسق غير مرضي عند الله تعالى شملته الآية الكريمة القريبة ، فالأنفس في الآية لفظة يدخل تحتها كل نفس ظالمة حالها غير مرضي عند الله تعالى يوم القيامة ، عليه فقد ثبت إجماعا أن للملائكة شفاعات ، ولرسول الله (ص) وإخوانه من الأنبياء شفاعات لأقوامهم إجماعا ، بل حتى وأئمة أهل البيت (ع) سادات بني الحسن والحسين لهم شفاعات يوم المحشر ، ثم أثبتت هذه الآية أن شفاعة الشافعين لا تقبل في الأنفس التي لا يرتضيها الله تعالى ، والفسقة والعصاة من أهل القبلة ليس الله براض عنهم قطعا ما أصروا على فسقهم ، فلم يبق لشفاعة الملائكة والأنبياء والأئمة إلا الأنفس المؤمنة كي تزيد في الترفل في النعيم ، قال الله تعالى : ((وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى)) [النجم:26] ، تأمل هنا أن شفاعة الملائكة وهم أعظم خلق الله لا تنفع إلا بثلاثة شروط : الشرط الأول : ((إلا من بعد أن يأذن الله)) أن يأذن الله للملائكة بالشفاعة . والشرط الثاني : ((لمن يشاء)) أن تكون شفاعتهم لمن يشاء الله أن يشفع لهم من الناس ، ولكن هذا مبهم إذ قد يقال أن جميع أصحاب المعاصي والكبائر وكذلك المؤمنون داخلون في مشيئة الله تعالى هذه ، فإن قيل هذا ، قلنا : ولكن الله قيد مشيئته بشرط الرضوان ، فقال ((لمن يشاء ويرضى)) ، ومعلوم أن الناس يوم القيامة صنفان اثنان ، صنف مرضي عند الله ، وصنف مغصوب عليه عند الله ، عليه فشفاعة الله تعالى التي أذن بها لملائكته لن تنال إلا الصنف المرضي عنه عند الله تعالى ، وإلا أصبحت زيادة قوله تعالى : ((ويرضى)) خالية من الفائدة لو تعنت المخالف وقال أن المعنى : لمن يشاء الله من الناس ويرضى بالشفاعة له سواء كان من أصحاب الكبائر أو من المؤمنين ، وذلك لو كان صحيحا لاكتفى الله تعالى بقوله : ((إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء)) بدون إضافة ((ويرضى)) ، فتأمل هذا ، فإن تأملته فاشدد عليه ،وما قيل من شروط بحق قبول شفاعة الملائكة المكرمين يقال في سائر شفاعات الأنبياء والأئمة صلوات الله عليهم أجمعين ، وتأمل قوله تعالى لتعرف من يرضى الله ليشفع فيه ممن لا يرضى : ((فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين)) [التوبة:96] ، وقال تعالى : ((إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم ولا تزر وازرة وزر أخرى)) [الزمر:07] ، فشفاعة الله للشاكرين المؤمنين لأنهم مرضيون عند الله تعالى ((تشكروا يرضه لكم)) ، نعم ! فإن قال لكم مشائخكم إخوتي الباحثين عن الحقيقة أن هذه الآيات إنما هي للكافرين والمشركين وليست لأهل القبلة ، فقولوا لهم : فما نصنع إذا بقول الله تعالى العام في جميع أهل المحشر : ((وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى)) ، فإنا إن سلمنا لكم أن آيات عدم الرضا السابقة مخاطبة للمشركين والكافرين ، فإن أصحاب الكبائر والفجور من أهل القبلة ، قتلة ، وزناة ، وأصحاب الربا ، والسحرة ، وآكلوا أموال اليتامى ، والظلمة ، وأمثالهم ، قطعا ليسوا بمرضيين عند الله تعالى ، عقلا وشرعا ، والملائكة والأنبياء لن (تفيد النفي والتأبيد) يشفعوا إلا لمن ارتضى الله تعالى ، فهل هؤلاء عندكم مشائخنا الكرام ممن يستحق رضوان الله تعالى ؟!! ، ومعلوم أنكم مشائخنا لا تنفون استحقاق هؤلاء الغير مرضيين عند الله لوعيده القرآني بالنار لهم ، فإذا كان ذلك كذلك ، وكان أن لا شفاعة إلا للمرضيين عند الله ، فإن هؤلاء الفسقة سيخلدون في النار ، وكذلك لن يدخل أحد منهم الجنة بشفاعة الشافعين وهو لا يستحق ذلك ، بل إلى النار خالد مخلد أبد الآبدين ، اللهم صل على محمد وآل محمد .
[ الآية الرابعة ] :
قال الله تعالى : ((بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون)) [البقرة:81]
الشاهد : الخطاب في هذه الآية جاء بخطاب عام لجميع الأمم والناس ، وسياقه في تكذيب بني إسرائيل عندما قالوا : ((وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون)) [البقرة:80] ، فأجاب الله جل شأنه عليهم بجواب عام شامل ينطبق على بني إسرائيل وعلى جميع الأمم ، فقال : ((بلى)) أي ليس الأمر كما ذهبتم معشر اليهود ، ف ((من كسب سيئة)) أي من ارتكب كبائر المعاصي ، كأن يشرك بي ، أو يقتل الأنفس المؤمنة ، أو يولي يوم الزحف ، أو يزني ..إلخ من الكبائر العظام ، ((وأحاطت به)) ولزمته ولم تنفك عنه ، بمعنى أصر عليها ، ((خطيئته)) والخطيئة هي أقل من السيئة مرتبة في الآية ، فالخطيئة تعني الصغيرة، أما السيئة فهي تعني الكبيرة ، وهي من قول الله تعالى على لسان إبراهيم (ع) : ((والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين)) ، فنسب الخطيئة إلى نفسه ومعلوم أن خطايا الأنبياء ليست إلا صغائر ، فيكون معنى الآية : ومن ارتكب كبيرة وأحاطت به هذه الكبيرة أي أصر عليها ومات عليها ، أو من ارتكب صغيرة وأصر عليها ومات عليها، ((فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون)) ، إن قيل : لم لا يكون المقصود بالسيئة والخطيئة هي الشرك بالله تعالى ، فيكون الخلود مخصص لهم دون أصحاب الكبائر من أهل القبلة ؟! قلنا : يمتنع هذا من سياق الآية ، إذ الآية تخبر عن مستحقي عذاب الله تعالى يوم القيامة ، وكذلك تخبر عن مستحقي ثواب الله تعالى يوم القيامة ، وسياق الآية هو قول الله تعالى : ((بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون * والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون)) ، فجميع أصناف الناس داخلون تحت وعد الله ووعيده في هاتين الآيتين ، وعده بالجنة للذين آمنوا، ووعيده بالخلود في النار لمن أساؤا ، والناس يوم القيامة ثلاثة أصناف ، إما مؤمنون ، وإما فساق أصحاب كبائر وصغائر ، وإما كفار مشركين ، والله قد أخبر عن حال المؤمنين في قوله: ((والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون)) ، فبقي صنفان ، الفساق والكفار ، وقد شملهما الله تعالى بقوله : ((بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون)) ، فأصحاب السيئات هم الكفار وأصحاب الكبائر من أهل القبلة ، وأصحاب الصغائر (الخطيئات) من أهل القبلة هم من أصروا على خطيئاتهم فأحاطت بهم ولزمتهم إلى يوم القيامة ، على أن هناك طائفة من علماء أهل القبلة قالوا بأن هذه الآية شاملة لأهل الكبائر ، منهم : الحسن بن أبي الحسن البصري والسدي ، قالا عن (السيئة) : ((هي الكبيرة من الكبائر))[1] ، وقال الأعمش والسدي وأبي رزين في قول الله تعالى : ((وأحاطت به خطيئته)) : ((الذي يموت على خطاياه من قبل أن يتوب)) [2] ، وقال أبو العالية ومجاهد والحسن بن أبي الحسن البصري والربيع بن أنس أن الخطيئة هي : ((الموجبة الكبيرة))[3] ، والكبائر الموجبات منها ، الشرك بالله ، وقتل النفس المؤمنة والربا والسحر وقذف المحصنات وغيرها ، فأصحاب هذه الكبائر لاشك خالدون مخلدون في النار كما صرحت الآية ، نعم ! إن قيل : إنما مراد هؤلاء العلماء بالكبائر ، أي الشرك بالله تعالى وفقط ؟! قلنا : الكبيرة لفظة يدخل تحتها جميع الموجبات ، ولو سلمنا لكم هذا، فإن بقية آيات القرآن تشهد لقولنا في أن (السيئة) في الآية هي الكبيرة ، وأن الكبيرة تشمل الشرك بالله وبقية الموجبات التي قد يرتكبها فسقة أهل القبلة ، ومعلوم أن خير مفسر للقرآن هو القرآن ، فالله تعالى يقول في حق قاتل النفس المؤمنة : ((ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزآؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما)) ، وقتل النفس من الكبائر الموجبات ، والآية صرحت بخلود صاحبها في النار ، فهي توافق تأويلنا للآية بأن السيئة (هي لفظة يدخل تحتها جميع الكبائر الموجبة) ، بدليل تخليد الله لأصحابها، فقد خلد القرآن أصحاب الربا[4] ، وخلد المتعدين لحدوده في أكل أموال الناس بالباطل وذلك في آية المواريث[5] ، وخلد قاتلي الأنفس المؤمنة بغير وجه حق[6] ، والمنافقين والمنافقات[7] ، والسنة كذلك خلدت أصنافا كثيرة من مرتكبي الكبائر ، كشاربي الخمر[8] ، فهذه الكبائر كلها تشهد لقولنا القريب ، والحمد لله .
[ الآية الخامسة ] :
قال الله تعالى : ((واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضآرين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون)) [البقرة:102]
الشاهد : هنا تأمل أخي الباحث أن الله تعالى في هذه الآية يحكي حالا عاما لكل من يتعاطى السحر ، يحكي جل شأنه حالهم في الآخرة ، وأنه لا خلاق لهم ولا قبول ، والمنع من السحر شريعة موسى ومحمد وغيرهما من الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم أجمعين، فأما في شريعة محمد (ص) فظاهر إجماعا ، وأما في شريعة موسى (ع) فيدل عليه قول الله تعالى : ((ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق)) ، وليس من مصدر لعلمهم إلا تعاليم التوراة ، فإن تفهمت هذا ، فاعلم أن القول بالشفاعة للسحرة من أهل القبلة ، يعني أنه أصبح لهم خلاق وقبول عند الله تعالى في الآخرة ، وهذا تكذيب لقول الله جل شأنه : ((ما له في الآخرة من خلاق)) ، إذ الظاهر اللازم من الآية استمرارية عدم القبول من الله لهم في الآخرة أبدا ، والكلام هنا على المصرين غير التائبين ، عليه فالخلود ثابت في حق مرتكبي كبيرة السحر ، وعليها يقاس سائر الكبائر الموبقة .
[ الآية السادسة ] :
قال الله تعالى : ((وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين * بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون )) [البقرة:111-112]
الشاهد : هنا تأمل أخي الباحث كيف أنكر الله تعالى على اليهود والنصارى قولهم : ((لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى)) ، فقال جل شأنه : ((قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين)) ، ثم أخبر الله تعالى عن المستحق للجنة منهم ومن غيرهم ، فقال جل شأنه : ((بلى من أسلم وجهه لله)) ، أي من آمن بالله وبرسوله ودخل في الإسلام ، ثم اشترط الله شرطا ضمنيا بعد الإسلام العام ، فقال جل شأنه : ((وهو محسن)) ، أي وهو مؤمن خالص إيمانه لله تعالى ، فلا يرتكب ما نهى الله ورسوله عنه من الكبائر والفواحش ، ولا يصر على صغائر الظنون والأوهام ، ثم أخبر الله تعالى عن جزاء هذا المسلم المؤمن المحسن فقال جل شأنه : ((فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون)) ، وهذا أخي الباحث دليل على أن الإخلاص مع الإسلام شرط دخول الجنة ، وأن أهل الكبائر لن يدخلوا الجنة أبدا ، لأنهم ليسوا من أهلها ، إذ ليسوا بمخلصين ، وإن كانوا مسلمين ، فشرط الإسلام وإن تحقق فيهم ، فإن شرط الله الضمني لم يتحقق فيهم ، وهو قوله : ((وهو محسن)) ، وهذا ظاهر لمن تدبر الآية ، ولم تعم العصبية قلبه .
[ الآية السابعة ] :
قال الله تعالى : ((يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين *واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون)) [البقرة:122-123]
الشاهد : في هذه الآية يحكي الله لبني إسرائيل حال جميع الناس يوم القيامة ، فقال جل شأنه : ((واتقوا)) يا بني إسرائيل ، ((يوما)) هو يوم القيامة ، ويوم القيامة أخي الباحث ليس يوما خاصا ببني إسرائيل في أحكامه ، بل هو يوم عام شامل لجميع الأمم ، فالخطاب الإلهي في الآية عام لجميع من حضر ذلك اليوم من الناس ، نعم ! ثم قال الله تعالى عن ذلك اليوم : ((لا تجزي نفس عن نفس شيئا)) ، أي لا تدفع ولا تتحمل نفس عن نفس عذابها ، ولا آثامها ، فالأم لا تغني عن ابنها ، والولد لا يغني عن والده ، ((ولا يقبل منها عدل)) أي فداء أو عطاء لإسقاط العذاب ، ((ولا تنفعها شفاعة)) أي لن تنفع النفس الظالمة أي شفاعة ، سواء من محمد (ص) أو من غيره ، فهو نفي قاطع عن نفع أي شفاعة لمن لا يستحقها ، وزاد تأكيدها الله تعالى بقوله : ((ولا هم ينصرون)) ، وهذا خطاب عام شامل لجميع الأمم يخبر فيه الله سبحانه وتعالى أن ما ستقدموه من عمل ستجدونه أمامكم ، فإن قدمتم معشر المكلفين كبائرا وأصررتم عليها ، عوقبتم بجزائها ، ولن ينفعكم شفاعة الشافعين ، فالنار مثواكم خالدين مخلدين أبدا ، وإنما قلنا خالدين مخلدين لانتفاء الشفاعة عنهم ، فهم بهذا لن يخرجوا من النار أبدا .
[ الآية الثامنة ] :
قال الله تعالى : ((إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون * إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم)) [البقرة:159-160]
الشاهد : تأمل أخي الباحث على ضوء الآيتين السابقتين ، حال من كتم علما أعطاه الله إياه ، أو دلس فيه على الناس ، ما سيكون مآله ؟! يقول الله تعالى عن حاله ومآله : ((أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون)) ، في الدنيا وبعد الممات إن مات غير تائب ، دعك من أعظم اللعنات وأكبرها ، نعني لعنة الله لمن هذا حاله من الناس ، وتأمل قول الله تعالى : ((ويلعنهم اللاعنون)) ، أليس الرسول (ص) سيكون أول اللاعنين لمن يلعنهم الله تعالى ؟! فمن مات وهو مصر على كتم العلم ، أو التدليس فيه على طالبيه ، فقد ارتكب كبيرة من الكبائر ، واستحق لعنة الرسول (ص) في الدنيا والآخرة ، وإنما قلنا أنه مستحق للعنة الرسول (ص) في الآخرة لمكان الموت مع الإصرار على هذه الكبيرة ، والله تعالى لم يستثن من استحقاقية اللعن لمن هذا حاله : ((إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم)) ، ومعلوم أن كاتم العلم ، والمدلس على الناس ، مستحق لعن الله والرسول وسائر المؤمنين في الدنيا ، فمتى مات مصرا غير تائب ، فإنه يظل مستحقا للعنة الإلهية والمحمدية ، ((ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا)) ، نعم ! وهذا الكاتم للعلم المصر عليه ، المستحق للعنة الرسول (ص) في الدنيا والآخرة ، كيف يظن المخالف أنه سيشفع له يوم القيامة ، ويخرجه من النار إلى الجنة والنعيم ؟! ، والله سبحانه وتعالى لم يستثن من اللعنة إلا التائبين ، قال جل شأنه : ((إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم)) ، وهذا ظاهر ، إذ لو شفع رسول الله (ص) يوم القيامة لصاحب الكبيرة الكاتم للعلم لأكذب الله في قوله : ((ولا يشفعون إلا لمن ارتضى)) ، ولشفع لشخص غير مرضي عند الله تعالى ، إذ الملعون من قبل الله غير مرضي عنده قطعا ، فإن فهمت مرادنا هنا ، فاعلم أن جزاء من لم يتب من الكاتمين والمدلسين للعلوم هو اللعنة الخالدة الأبدية من الله تعالى . سلمنا أن الله سيخرج كاتمي العلم من أهل الإسلام من النار (على حد قول المخالف) ، فأخبرونا لماذا اشترط الله للرحمة بهذا العبد لزوم التوبة منه والإقلاع عن هذه المعصية ؟! ، فزيادة قول الله تعالى : ((إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم)) ، زيادة لا فائدة منها ، فالتوبة ليست شرط لرحمة الله تعالى بهذا العاصي المرتكب للكبيرة ، إذ أن الله تعالى قد يتوب عليهم بدون توبة على شرط المخالفين ، فيتوب عليهم بشفاعة الرسول (ص) ويدخلهم الجنان ، ويبدلهم مكان اللعنة الرحمة ؟! ، وهذا وهم ماحق ساحق ، وإسقاط من شأن وعيد الله تعالى ، ومن شأن رسول الله (ص) ، ومن شأن كتاب الله تعالى ، ولو تأمل المتجرأ على هذا القول ، قول الله تعالى مخاطبا المؤمنين : ((إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم * أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فمآ أصبرهم على النار))[البقرة:174-175] ، وزاد في تدبر قوله : ((ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم)) ، وزاد في التدبر وقرأ قوله تعالى : ((فمآ أصبرهم على النار)) مع ما سبق من الآية القريبة ، لعلم حقا صدق مذهب أهل البيت (ع) في المسألة .
[ الآية التاسعة ] :
قال الله تعالى : ((زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة والله يرزق من يشاء بغير حساب)) [البقرة:212]
الشاهد : الكلام هنا حول المشيئة الإلهية ، أهل البيت سادات الزيدية يقولون أن مشيئة الله تعالى في قول الله جل شأنه : ((والله يرزق من يشاء بغير حساب)) لا تحمل إلا المتقين الذين يرضاهم الله تعالى دون الظالمين غير مرضيي الطريقة عند الله تعالى ، والمخالف على مقتضى فهمه للمشيئة في قول الله تعالى : ((إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء)) ، سيقول : أن الله قد يشاء أن يرزق المتقين أو الظالمين ، من يرضى عنهم ، ومن لا يرضى عنهم ، كما قالوا سابقا أن الله سيشاء أن يغفر لأصحاب الكبائر الظالمين من أهل القبلة ، ويرحمهم ، ويخرجهم من النار ، عليه فلننظر أخي الباحث لكتاب الله تعالى ، مشيئة الله تعالى فيمن تحققت ؟! هل فيمن هو متق فقط ؟! أم في المتقين والظالمين؟! قال تعالى : ((زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة والله يرزق من يشاء بغير حساب)) ، فأخبر الله تعالى أنه رزق الذين اتقوا ورفعهم فوق الذين كفروا ، ومعلوم أن صفة التقوى ليست تنطبق على كل المسلمين ، إذ كل متق مسلم ، وليس كل مسلم متقي ، فمشيئة الله تعال هي أن يرزق المتقين لا الظالمين ، فصح قول ثقل الله الأصغر ، وشهد له الثقل الأكبر ، فكان هو الحجة .
[ الآية العاشرة ] :
قال الله تعالى : ((الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون * يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم * إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون * يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين* فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون)) [البقرة:275-278] .
الشاهد : هنا يخاطب الله المؤمنين ، ويحذرهم من الوقوع في الربا ، والربا من الكبائر الموبقة ، فيسأل المخالف : عن المسلم الذي مات وهو مصر على التعامل بالربا ، هل تجوز له شفاعة رسول الله (ص) ؟! هل سيخرجه رسول الله (ص) من النار إلى الجنة ؟! . إن قال: نعم !. قلنا : فكيف إذا ؟! أنتهم ربنا ، أم نتهمك؟! ، والله يقول عن هذا وأمثاله : ((فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون)) ، والله المستعان . نعم! وبمعنى آخر سلوا أصحاب الشفاعة لأهل الكبائر من أهل القبلة وقولوا لهم : من مات من أهل القبلة وهو مصر على المتاجرة بالربا ، هل سيشفع لهم الرسول (ص) ؟! إن قالوا : نعم ! وهو قولهم ، فقولوا : إن الرسول (ص) ذلك اليوم سيكون حربا عليهم لا عونا لهم ، سيكون عليهم أقسى من كل قاس ، لا أرحم من كل رحيم : ((فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله)) ، فكيف توفقون بين هذا وبين معتقدكم ؟! . نعم ! فإن وقفت أخي الباحث على الخلل ، فاعلم أن كتاب الله تعالى لا يرد بعضه على بعض ، بل يصدق بعضه البعض ، فمن استحق حرب الله ورسوله من أهل الكبائر (كالربا) ، فقد استحق الخلود في النار ، وعدم الشفاعة ، وهذا صريح قول الله تعالى : ((فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون)) ، فحقق الله عليهم الخلود . نعم! ثم تأمل ثانية قول الله تعالى : ((فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله)) ، تجد أن الإيذان بالحرب من الله والرسول لن ينقطع إلا بالتوبة النصوح ، فما حال من مات وهو مصر غير تائب؟! الله تعالى يقول : ((واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون)) ، فإن كان كسب النفس ذلك اليوم هو الإصرار على الكبائر والفواحش (كالربا) فماذا ستوفى؟! لاشك لن توفى إلا بذات الإيذان بالحرب من الله والرسول (ص) ، الخلود في النار ، والعياذ بالله.
[ الآية الحادية عشر ] :
قال الله تعالى : ((قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم )) [آل عمران:31] .
الشاهد : تأمل أخي الباحث متى يغفر الله الذنوب للعباد ، ((فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم)) ، الله لا يغفر لعباده ذنوبهم وكبائرهم إلا إذا اتبعوا الرسول (ص) ، وائتمروا بأمره ، وانتهوا بنهيه ، عندها يغفر الله لهم ذنوبهم ، فكيف تقول أيها المخالف : أن الله سيغفر ذنوب أصحاب الكبائر الموبقة المصرين عليها بدون تحقق شرط غفران الذنوب ، وهو التوبة في الدنيا ، والالتزام بمنهج الله ومنهج الرسول (ص)؟! .
[ الآية الثانية عشر ] :
قال الله تعالى : ((إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم)) [آل عمران:77] .
الشاهد : هنا سلوا معشر من قال بأن الله قد يرحم ويغفر لمن ((يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا)) من أهل القبلة ويدخلهم جنات النعيم ، ألا يرد عليكم قول الله تعالى : ((أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم)) ، أليس في هذا دلالة على أنه جل شأنه سيهملهم ولا يلتفت إليهم ، ولا إلى نداءاتهم وتضرعاتهم ؟! ألا يدل هذا على خلودهم في النار أبد الآبدين؟!.
[ الآية الثالثة عشر ] :
قال الله تعالى : ((وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون * وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين * الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين * والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون * أولئك جزآؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين)) [آل عمران:132-136] .
الشاهد : تأمل أخي الباحث في هذه الآيات العظيمة ، تجد بغية الناشد فيها ، خصوصا متى استحضرت التمعن والإنصاف ، فالله سبحانه وتعالى أخبر أن أسباب الرحمة في إطاعة الله وإطاعة الرسول (ص) ، ((وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون)) ، فمن لم يطعهما وارتكب كبائر ما نهي عنه فليست الرحمة له بمرجوة ، ثم تأمل قول الله تعالى ، وهو يحث الناس على المسارعة إلى المغفرة وتكفير الذنوب والقبول ، فقال : ((وسارعوا إلى مغفرة من ربكم)) ، ثم أخبر جل شأنه أن هذه المغفرة أعدت للمتقين ، ((أعدت للمتقين)) ، فلا حظ للفساق من المسلمين بهذه المغفرة الإلهية ، ثم أخبر الله تعالى أن مغفرته تشمل : ((الذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون)) ، وهذه صفة اصحاب الكبائر أو الصغائر التائبين الغير مصرين ، فرحمة الله ومغفرته تنالهم ، قال الله تعالى عنهم : ((أولئك جزآؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين)) ، فهؤلاء أخي الباحث الذين صرح الله باستحقاقهم للرحمة والمغفرة العظيمة ، هؤلاء هم الذين يشاء الله أن يغفر لهم في قوله : ((إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء)) ، فالذين يشاء الله أن يغفر لهم من أهل القبلة هم المرجوة لهم الرحمة، والرحمة ليست مرجوة إلا لمن يطيع الله ورسوله ، ويأتمر بأمرهما ، وينتهي بنهيهما ، ويجتهدون في ذلك ، وإن حصل وارتكبوا الكبائر والصغائر تابوا إلى الله منها ، ولم يصروا عليها ، فهؤلاء يتوب الله عليهم ، والمشيئة فيهم متحققة ، ولو كان كلام المخالف صامدا لذكر الله أصحاب الكبائر المصرين غير التائبين في موضع الرحمة والغفران في الآيات ، بل على العكس من ذلك تماما ، فإن الله خصص رحمته ومغفرته للتائبين الغير مصرين ، فأما المصرين فلا رحمة لهم ولا مغفرة ، عليه فالخلود في نيران الجحيم لاشك مآلهم ، والله المستعان .
[ الآية الرابعة عشر ] :
قال الله تعالى : ((ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع ....* تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم * ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين )) [النساء:12-14]
الشاهد : هنا يخاطب الله أهل القبلة معلما إياهم قسمة المواريث ، وبعد أن بين الله تعالى أحكام الموريث ، حذر المسلمين الذين يتعدون حدوده التي حدها وبينها لهم في كيفية قسم المواريث ، فأخبر جل شأنه أن من لم يلتزم بها فإن مأواه نار جهنم خالدا فيها أبدا ، وهو قول أهل البيت (ع) ، سادات الزيدية ، وهنا يسأل المخالف عن تعدي حدود الله وقسمة المواريث بغير ما أنزل الله وبين ، هل هي من الكبائر ؟!. إن قال : نعم ، وهو قوله. فقولوا له : ومذهبك أن صاحب الكبيرة سيشفع له الرسول (ص) يوم القيامة فيغفر الله له ويخرج من النار ؟! إن قال : نعم ، وهو قوله . فقولوا له : قد رددت على الله آيته ، فالله يقول في مآل ذلك المتعدي : ((ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين)) ، وأنت تقول بأنه لن يخلد في النار ، وأن سيفوز بالنعيم!!.
صفحه ۱۵