بسم الله الرحمان الرحيم والحمد لله على نعمه الصافية
مقالة الإسكندر الأفروديسى فى كيف يكون الإبصار على مذهب أرسطاطاليس ترجمة إسحق بن حنين
قال الإسكندر إن أرسطو يرى أنه كما أن سائر الحواس الأخر تحدث بانفعال آلاتها كذلك الإبصار بانفعال العين، لا بأنها تفعل شيئا أو ينبعث منها شىء اللهم إلا يسمى الإنسان الانفعال فعلا، وليس يريد الانفعال أن العين تقبل شيئا يتحلل من المبصرات لكن بأن يستحيل المشف الذى فيما بين العين والشىء المبصر عن المبصر بضرب من الاستحالة ويؤدى إلى العين صورة المبصر
وذلك أن هذا من شأن كل مشف إذا كان مشفا بالفعل أعنى إذا كان مضيئا لأن الضوء فعل المشف من حيث هو مشف والمشف بالفعل يتغير بضرب من التغير وينفعل من الألوان كما ينفعل ويتغير المشف بالقوة عن كل ما من شأنه أن يفيد الضوء بمنزلة جرم الكواكب والنار وما أشبه ذلك، فإنه قد وجد فى الأجسام المختلفة طبيعة عامية تقوى على هذا، وذلك أن حضور هذه لأجرام فى المشف هو ضوء وهذا هو المشف بالفعل لأن المشف فى ذلك الوقت يقبل كماله أعنى المشف بالقوة إذا صار مضيئا والمضى هو المشف بالحقيقة
صفحه ۱۴۷
فكما أن حضور الأشياء التى من شأنها أن تفيد الضوء يجعل المشف بالقوة مشفا بالفعل كذلك المشف بالفعل يقبل لون المبصرات عند حضورها بمنزلة ضوء ثان إذا قبل فعلا آخر ثانيا أعنى قبول الألوان، وذلك أن اللون يحرك فى المشف بالفعل كما أن الضوء يحرك فى المشف بالقوة، وإنما يفعل اللون ذلك إذا صار الجسم كله الذى يقوى على أن يتغير بحضور الألوان يتغير دفعة إليها ويتلون بضرب من الضروب
والحدقة أيضا هى من الأشياء المشفة وقد تقبل مع الهواء المضىء الذى فيما بينها وبين المبصرات الضوء 〈قبولا〉 ليس بدون قبول الهواء إذ كانت هى أيضا مشفة وتتحرك بالتغير الذى يكون من الألوان، فإذا تغيرت ضربا من التغير خدمت النفس الحساسة الباصرة على مثال خدمة المشف الخارج
واللون فليس يظهر فى الهواء وهو يظهر فى الحدقة لأن الأشياء المشفة منها ما هى مشفة فقط ومنها ما هى مشفة يظهر فيها مع ذلك لملاستها وكثافتها الذى قبلته تجمع المبصر وتمسكه حتى أنه قد يظهر لنا ما فيها، فالصنف الأول من الأشياء المشفة هى الأجسام اللطيفة بمنزلة الهواء، والصنف الثانى وهى التى فيها كثافة ما وصلابة قد ترى فيها وتحفظ صورة المبصر وظله بمنزلة المرايا والزجاج والأحجار المشفة والماء، فإنه أغلظ وأصلب من الهواء فهو لذلك يقوى أكثر من الهواء على أن يجمع صور المبصرات وأظلالها ويمسكها
وقد تبين أن الحدقة أيضا من ماء، والخرم الذى ينفذ من الحدقة إلى الحاس الأول إذا كان الحال التى هو عليها 〈كذلك〉 قد يؤدى الصورة التى من المبصر واللون إلى الحاس 〈والحاس〉 يميز بالمصادقة التى بين المبصرات الجسم الواقع تحت الحس، وذلك أن طبيعة الحس إنما هو تمييز الانفعال الذى تؤديه الآلات
صفحه ۱۴۹
ولهذا نقول إن ما يجرى هذا المجرى من التغير 〈الذى〉 يحدث بضرب من الضروب عن النار والألوان 〈ليس كما يحدث〉 فى الأشياء التى قد استحالت أعنى الهواء والمشف بالقوة، وذلك أن الاستحالة حركة وتغير للأشياء المستحيلة بالانفعال إنما يكون فى زمان، والمشف فليس يقبل الضوء والألوان على أنه يستحيل بها لكن الوجه الذى به يقال إن المشف ينفعل هو مثل لقول قائل فيمن صار يمنة لآخر من غير أن يتحرك أو يقبل انفعالا ما نه قد انفعل
وذلك أن هذه حال تغير المشف بالضوء والألوان فإن المشف أنما يصير مضيئا بحضور الشىء الذى هو من شأنه أن يفيد الضياء أو أن يكون متلونا كما يصير الإنسان يمنة لغيره بإضافة الواقف عن يساره، والدليل على أن ذلك كذلك: كما أن الإنسان الذى هو فى يمنة يزول عنه أن يكون يمنة عند انتقال الإنسان الذى كان يسارا وبذاته هوغير متحرك كذلك أيضا المشف يزول عنه الضوء عند انتقال الذى يفيد الضياء
وعلى ذلك المثال يزول عن الجسم الذى من شأنه أن يرى أن يكون كذلك من غير قبول فى تغيره شيئا من الانفعالات بل إنما يصير كذلك إذا حدثت له الاستحالة التى يظن بها أنها استحالة على طريق الإضافة
ويشبة أن يكون الضوء والألوان تحدث فى المشف كما يحدث الظل بضرب من الضروب، وذلك أن الظل كما أنه يحدث فى الأشياء التى تظلم عند حضور الجسم الذى من شأنه أن يحدث ظلا كذلك الضوء والألوان تحدث دفعة وتنفذ فى الهواء بمقدار البعد الذى بين البصر والمبصرات بمنزلة الظل
صفحه ۱۵۱
وهذا من أعظم الدلائل على أن هذا الحادث فى المشف ليس باستحالة ولا حركة، وذلك أن كل متحرك فإنما يتحرك فى زمان يصير أولا إلى ما قرب منه فى زمان قليل ثم يصير إلى ما هو أبعد فى زمان أكثر، فأما الضوء وصور المبصرات فإنها تحدث دفعة على مثال واحد فى جميع المشف بمنزلة الظل والظلمة، فإن الضوء يفارق المشف كله معا ويحدث فيه كله معا ولذلك يبين أرسطو أن الإبصار يحدث بلا زمان، وذلك أن الزمان الذى فيه يبصر الإنسان شيئا قد يبصره فى أى جزء اتفق منه، والأشياء التى 〈لا〉 تحتاج فى كونها وتمامها إلى زمان تحدث 〈بلا〉 زمان، لأنه ليس ما فى زمان بكونه فى زمان لكن الشىء الذى يحتاج حمله إلى مدة من الزمان ليتكون فيها ويتم، فكذلك السرور ولا يكون فى زمان
والأجسام المشفة فمنها ما هو بالفعل فقط دائما بمنزلة المشف فى الأجسام الشريفة الأبدية، وذلك أن الأبدية لا تقبل ما بالقوة ومنها ما هو مشف بالقوة وهو الذى فى الكون، فإن هذا يخرج مثل سائر ما فى الكون من القوة إلى الفعل، والهواء وجميع ما عندنا من الأجسام المشفة فهى قبل حضور الجسم الذى شأنه أن يفيد الضياء مادة للمشف بالفعل أعنى الضوء، وحضور 〈الجسم〉 الذى يفيد الضياء يجعله مشفا ويلونه ضربا من التلوين، وذلك أن الضوء بمنزلة لون المشف
وليس الهواء من طريق ما هو هواء مشفا ولا الماء مما هو ماء، وذلك أن هاهنا أجسام كثيرة مختلفة بالنوع فيها عارض الاستشفاف مشترك، فإن الجرم الأبدى والهواء والماء والزجاج وبعض الأحجار مشتركة فى هذه الطبيعة غير أن الجرم الأبدى هو مشف أبدا بالفعل كما قلنا والأجسام الباقية فمرة تكون بالقوة ومرة تكون بالاستتمام
صفحه ۱۵۳
وهذه الطبيعة قابلة للضوء وما لم يكن مشاركا لهذه الطبيعة فهو غير قابل للضوء، فإن الضوء لا ينفذ فى الحائط ولا فى شئ آخر مما ليس هو مشفا لأن طبيعة المشف وحدها من شأنها أن تنفعل، وهذا الانفعال بضرب من الضروب كما قلنا أن تقبل الضوء بمنزلة لون يخصها وقد تتلون هذه الأجسام وتستضىء من غير أن ينفذ فيها لون ما ولا هى أيضا عند التغير الذى يحدث فيها إنما تقبل الضوء مع حضور النار وغيرها مما يجرى مجراها فى المشف بأن تستحيل ولكن سببه إنما حضور الضوء، وذلك أنه ليس حضور النار وحدها يفيد المشف الضياء بل قد يفيد أيضا الجسم الأثير وأعضاء ما من أعضاء الحيوان البرى والبحرى والطيور وأجناس بعض الأحجار
وهذه كلها فليس يسهل علينا أن نحصرها باسم واحد من جهة ما هى بهذه الحال، ولذلك ينبغى أن نقول إن الضوء حضور النار أو ما يجرى مجراها فى المشف، وأيضا إن كانت الظلمة إنما هى عدم الضياء وغيبة هذه الأجسام وإنما تحدث من قبل غيبتها فالواجب 〈أن〉 نقول إن الضياء حضور هذه، وذلك أنه إما أن يكون هذا هو الضياء والظلمة وإما أن يكون سببا لهما، فإنه ليس من شأن كل شىء أن ينفعل من كل شىء لكن أشياء من شأنها أن تنفعل عن أشياء غيرها كما ينفعل المشف عن الأجسام التى قدمنا ذكرها
وإن كان الضوء استتمام المشف فهو غير جسم، وقد يسمى الجسم المضىء على طريق العموم ضوءا، وإذ قد تبين أن الضوء ليس بانفعال المشف ولا اللون أيضا لكنه حضور هذه الأجسام فى المشف بإضافة ما فليس الجسم الأبدى منفعلا من قبل أن 〈ترى〉 كواكبه
صفحه ۱۵۵
وذلك أن المشف ليس ينفعل 〈من المبصرات كما ليس ينفعل〉 من الضوء فإنا نحن أيضا ليس وجودنا فى الضوء انفعالا، ولكن يشبه أن يكون ضياء للأجسام المشفة وتلونها يحدث على مثال حدوث النظر العقلى، فإن الذى ينظر معا يجد الشىء الذى يطلبه ويقربه عالما عند لقاء العقل إياه، وكذلك المشف بالقوة يضىء دفعة عند حضور النار أو ما يجرى مجراها، والمضىء أيضا والمشف بالفعل يحدث فيه عن 〈حضور الألوان من〉 الايتثار مثل ما يحدث عن | الضوء، وكذلك القمر الذى يستضىء من الشمس ليس يقال إنه ينفعل، وذلك أنه كما أن المستور من الضياء ليس ينفعل كذلك ولا المضىء ينفعل
فأما ما يظن به أنه يبقى فى أعين الناظرين بعد تمحى المبصرات فليس هو دليلا على استحالة لأن هذا ليس يعرض للعين من جهة ما هى مشفة لكن لما هى متنفسة ويمكن فيها التخيل، ولهذا السبب أمكن أن تحفظ الحركات الحادثه فى آلات الحواس من خارج إلى مدة، وذلك أن المتنفس قد يمكنه بعد مفارقة الأشياء المحسوسة أن يضع ما تخيل منها نصب عينيه، فاما المرايا والأجسام الملس والنيرة فليس تحفظ فى أنفسها شيئا مما يظهر فيها من الألوان عند تمحى الضوء والأجسام التى تفيد الضوء أو المبصرات لأنها ليست تنفعل ولا هى متنفسة
والدليل على أن البصر والحدقة لما كانت مشفة صار ما ينالها من الألوان المحركة للمشف المضىء بالفعل مثل الذى ينالها من الضوء وصار النظر يكون على استقامة من غير أن يكون شىء يخرج من العين إلى المبصرات 〈أن〉 أعين الناظرين تكل من النظر إلى الأجسام النيرة جدا كما تكل الأسماع من الأصوات العظيمة، وذلك أن رأى من يرى أن إدراك المبصر إنما يكون هو فى البعد منا فى المواضع التى نحسه 〈فيها〉 باطل، فإن الحواس الباقية وإن كانت تدرك محسوساتها بانفعال فإنها على ذلك تدركها وهى بالبعد منها
صفحه ۱۵۷
وقد يظهر أيضا ألوان ما فى المشف الذى فيما بين المبصرات والبصر من قبل أنه يقبل الصور ويخدمها، من ذلك أنه ربما يتلون بألوان الأجسام القريبة منه 〈فهو قمرى وأرجوانى〉 إن كانت ألوانها قمرية وأرجوانية من قبل أن الألوان تنفذ فى الهواء إلا ما ترى فى مواضعها
وأيضا من الألوان ما هى أقل إشراقا ومنها ما هى أكثر إشراقا وتحرك البصر تحريكا أشد، وأيضا فإن المبصرات يختلف منظرها بحسب اختلافها فى أنوارها واختلاف الضوء وبحسب وضعها عند الناظر إليها وجميع الضوء، واللون الواحد بعينه يرى من قرب ومن بعد مختلفا، وذلك أن الأبيض الذى هو من قرب ليس يرى على مثال ما يرى الأبيض من بعد، فبحسب هذه الاختلافات يدرك البصر الأشكال المبصر، وذلك أنه يميز الإحاطة الخارجة بالمبصرات بحسب اختلاف لون المبصر عند المحيط، ولذلك صارت الأشياء الشبيهة فى اللون بالمحيط يصعب إدراكها بالبصر أو تكون لا تبصر بذاتها
فأما البسيط الذى فيما بين الإحاطة الخارجة إذا كان شبيها فى اللون بالمحيط مسطحا فإن البصر إذا تحرك عن اللون يراه على مثال واحد، فإن لم يكن الذى فيما بين الإحاطة مسطحا بل مختلفا أو غير متشابه فى اللون فإن إدراك البصر له يكون بحسب اختلاف ألوانه، وذلك أن الضوء ليس يقع على جميع أجزاء الجسم المختلف على مثال واحد لأن بعضها مقعر وبعضها محدودب، ومنها ما يقع عليه الضياء على جانب ومنها على المحاذاة
صفحه ۱۵۹
فإنه بحسب هذه الأصناف من الاختلاف وإن كان المبصر متشابه اللون قد يرى بعض أجزائه كدرة اللون وبعضها أبين لونا وأصفى، وكذلك يرى بعضها ناتئا وبعضها منخفضا، ولهذا اقتدوا المزوقون فصاروا إذا أرادوا أن يزوقوا فى مسطح واحد غير مساو جعلوا بعضها مضيئا وبعضها مظلا، وذلك أن بهذه الحال يظهر بعضه ناتئا وبعضه منخفضا، فالناتئة هى الكثيرة الضياء والمنخفضة المظللة
فلما كان الإبصار بهذه الحال يكون لا بالانفعال واستحالة الجسم الذى فيما بين البصر والمبصر انحل الشك الذى شك فيه فقالوا كيف يكون المتواجهان والمتقابلان على القطر أن ينظر أحدهما إلى صاحبه، وذلك أن الهواء فيما بينهما يظن به أنه يقبل الألوان المتضادة عند تلاقى الألوان أعنى عند تقاطع شعاعات مبصرى المتقابلين، وليس إنما ينحل هذا الشك بأن الهواء يتلون لكن بأن لون المبصر يظهر على استقامة من المبصر بإضافته إلى الهواء، وذلك أنه ليس يمنع مانع من أن يكون شىء واحد بعينه لا يحفظ نسبة واحدة بعينها إلى أشياء مختلفة كما ليس يمنع مانع من أن يكون نصفا لشىء وضعفا لغيره
صفحه ۱۶۱
والعين تحس الحركة بإحساسها البعد والمسافة 〈فإنه إن ير شىء إلى شىء محدود والمسافة〉 بينهما ليست واحدة بعينها 〈أو البعد〉 بينه وبين العين ليس واحدا بعينه 〈و〉كان الباصر 〈لا〉 يتحرك أو لا 〈يحس بأن〉 يتحرك فإنا نرى حينئذ المبصر كأنه يتحرك، وبالجملة فإن البصر يحس المتحرك بإضافته إياه إلى شىء محدود، ولذلك صار يكاد ألا يدرك الأشياء التى تتحرك فى مواضع واسعة بعيدة الأقطار على أنها متحركة ، وصار إدراكه للأشياء التى تتحرك فى مواضع ضيقة وعند أشياء تقرب منها أبين، وذلك أنه يراها سريعة المنتقل والبصر يدرك الوقوف والعدد، أما الوقوف فبفقد الحركة، وأما العدد فبعدم الاتصال لأن الأجسام المفصلة بعضها من بعض وأبعاد بينها يراها كثيرة الصور
صفحه ۱۶۳
تمت المقالة للإسكندر فى كيف يكون الإبصار هو على رأى أرسطو ترجمة إسحق بن حنين
صفحه نامشخص