رحل النهار
هدير البحر والأشواق
نداء الموت
ربيع الجزائر
خذيني
حامل الخرز الملون
سفر أيوب
منزل الأقنان
وصية من محتضر
الشاهدة
أسمعه يبكي
درم
قصيدة من درم
قالوا لأيوب
الليلة الأخيرة
القصيدة والعنقاء
هرم المغني
قصيدة إلى العراق الثائر
رحل النهار
هدير البحر والأشواق
نداء الموت
ربيع الجزائر
خذيني
حامل الخرز الملون
سفر أيوب
منزل الأقنان
وصية من محتضر
الشاهدة
أسمعه يبكي
درم
قصيدة من درم
قالوا لأيوب
الليلة الأخيرة
القصيدة والعنقاء
هرم المغني
قصيدة إلى العراق الثائر
منزل الأقنان
منزل الأقنان
تأليف
بدر شاكر السياب
رحل النهار
رحل النهار
ها إنه انطفأت ذبالته على أفق توهج دون نار،
وجلست تنتظرين عودة سندباد من السفار،
والبحر يصرخ من ورائك بالعواصف والرعود،
هو لن يعود!
أوما علمت بأنه أسرته آلهة البحار
في قلعة سوداء في جزر من الدم والمحار؟
هو لن يعود،
رحل النهار
فلترحلي، هو لن يعود!
الأفق غابات من السحب الثقيلة والرعود،
الموت من أثمارهن وبعض أرمدة النهار،
الموت من أمطارهن وبعض أرمدة النهار،
الخوف من ألوانهن وبعض أرمدة النهار،
رحل النهار ...
رحل النهار. •••
وكأن معصمك اليسار
وكأن ساعدك اليسار، وراء ساعته، فنار
في شاطئ للموت يحلم بالسفين على انتظار
رحل النهار
هيهات أن يقف الزمان، تمر حتى باللحود
خطا الزمان وبالحجار!
رحل النهار ولن يعود. •••
الأفق غابات من السحب الثقيلة والرعود،
الموت من أثمارهن وبعض أرمدة النهار،
الموت من أمطارهن وبعض أرمدة النهار،
الخوف من ألوانهن وبعض أرمدة النهار،
رحل النهار،
رحل النهار!
خصلات شعرك لم يصنها سندباد من الدمار،
شربت أجاج الماء حتى شاب أشقرها وغار،
ورسائل الحب الكثار
مبتلة بالماء، منطمس بها ألق الوعود،
وجلست تنتظرين هائمة الخواطر في دوار: «سيعود! لا، غرق السفين من المحيط إلى القرار،
سيعود! لا، حجزته صارخة العواصف في إسار
يا سندباد، أما تعود؟
كاد الشباب يزول، تنطفئ الزنابق في الخدود،
فمتى تعود؟
أواه، مد يديك بين القلب عالمه الجديد
بهما ويحطم عالم الدم والأظافر والسعار،
يبني ولو لهنيهة دنياه،
آه متى تعود؟
أترى ستعرف ما سيعرف، كلما انطفأ النهار،
صمت الأصابع من بروق الغيب في ظلم الوجود؟
دعني لآخذ قبضتيك، كماء ثلج في انهمار،
من حيثما وجهت طرفي ... ماء ثلج في انهمار
في راحتي يسيل، في قلبي يصب إلى القرار،
يا طالما بهما حلمت كزهرتين على غدير،
تتفتحان على متاهة عزلتي.»
رحل النهار
والبحر متسع وخاو، لا غناء سوى الهدير،
وما يبين سوى شراع رنحته العاصفات، وما يطير
إلا فؤادك فوق سطح الماء يخفق في انتظار،
رحل النهار
فلترحلي، رحل النهار.
بيروت، 27 / 6 / 1962
هدير البحر والأشواق
هدير البحر يفتل من دمائي، من شراييني
حبال سفينة بيضاء ينعس فوقها القمر،
ويرعش ظلها السحر.
ومن شباكي المفتوح تهمس بي وتأتيني
سماء الصيف خلف طيفه في صحوها المطر
ونحن نسير، والدنيا تسير وتقرع الأبواب
فتوقظ من رؤاه القلب: ذاك عدوك الزمن
تدور رحاه ... كم ستظل تخفق؟ ها هم الأصحاب
تراب منه تمتلئ الدروب وتشرب الدمن! •••
يود القلب لو حطمته، لو حطمت خفقاته شفتيك
والكتفين والصدرا،
ولو ذرتك من زفراتي الحرى
رياح الوجد والحرمان. وا لهفي على عينيك!
ليتهما تمران
بدمع أو بإشفاق على صحراء حرماني،
لينبت في مداها الزهر! ليتهما تمران
بما نسج التأمل من غيوم فيهما حيرى،
بما نسج التفرد من نجوم فيهما سكرى،
على عمري الذي عراه من زهراته الداء
يود القلب لو حطمته، لو حطمت خفقاته شفتيك
والكتفين والصدرا،
ولو عراك، لو ذراك، لو أكلتك أشواقي،
ولو أصبحت خفقا، أو دماء فيه، أو سرا،
فإن أحببتك الحب الذي أقسى من الموت
وأعنف من لظى البركان، والحب الذي يأتي
إلي كأن نفخ الصور فيه، فكل ذر الميتين دم وأحياء،
فذاك لأنك النور الذي عرى دجى الأعمى،
وأنت صباي عاد إلي، أختا عاد أو أما،
وأنت حبيبتي، أفديك، أفدي خفق جفنيك
وما نفضا من السحب،
وأفدي خفق نهديك
على قلبي!
بيروت، 1 / 7 / 1962
نداء الموت
يمدون أعناقهم من ألوف القبور، يصيحون بي:
أن تعال!
نداء يشق العروق، يهز المشاش، يبعثر قلبي رمادا «أصيل هنا مشعل في الظلال
تعال اشتعل فيه حتى الزوال!»
جدودي وآبائي الأولون سراب على حد جفني تهادى،
وبي جذوة من حريق الحياة تريد المحال،
وغيلان يدعو: «أبي سر، فإني على الدرب ماش أريد
الصباح!»
وتدعو من القبر أمي: «بني احتضني، فبرد الردى في عروقي،
فدفئ عظامي بما قد كسوت ذراعيك والصدر، واحم الجراح
جراحي بقلبك أو مقلتيك، ولا تحرفن الخطا عن طريقي!»
ولا شيء إلا إلى الموت يدعو ويصرخ، فيما يزول،
خريف، شتاء، أصيل، أفول،
وباق هو الليل بعد انطفاء البروق،
وباق هو الموت، أبقى وأخلد من كل ما في الحياه
فيا قبرها افتح ذراعيك ...
إني لآت بلا ضجة، دون آه!
بيروت، 3 / 5 / 1962
ربيع الجزائر
سلاما بلاد اللظى والخراب
ومأوى اليتامى وأرض القبور،
أتى الغيث وانحل عقد السحاب
فروى ثرى جائعا للبذور
وذاب الجناح الحديد
على حمرة الفجر تغسل في كل ركن بقايا شهيد،
وتبحث عن ظامئات الجذور
وما عاد صبحك نارا تقعقع غضبى وتزرع ليلا
وأشلاء قتلى
وتنفث قابيل في كل نار يسف الصديد،
وأصبحت في هدأة تسمعين نافورة من هتاف
لديك، يبشر أن الدجى قد تولى،
وأصبحت تستقبلين الصباح المطلا
بتكبيرة من ألوف المآذن كانت تخاف،
فتأوي إلى عاريات الجبال
تبرقع أصداءها بالرمال. •••
بماذا ستستقبلين الربيع؟
ببقيا من الأعظم الباليه
لها شعلة رشت الداليه،
تعير العناقيد لون النجيع
وفي جانبي كل درب حزين
عيون تحدق تحت الثرى،
تحدق في عورة العاجزين!
لو تستطيع الكلام
لصبت على الظالمين
حميما من اللعنات، من العار، من كل غيظ دفين!
ربيعك يمضغ قيح السلام. •••
بيوتك تبقى طوال المساء
مفتحة فيك أبوابها،
لعل المجاهد بعد انطفاء اللهيب وبعد النوى والعناء
يعود إلى الدار يدفن تحت الغطاء
جراحا، يفر إليه الصغار، ترفرف أثوابها
يصيحون: «بابا»، فيفطر قلب السماء - «وماذا حملت لنا من هدية؟» - «غدا ضاحكا أطلعته الدماء.»
وكم دارة في أقاصي الدروب القصية
مفتحة الباب، تقرعه الريح في آخر الليل قرعا
فتخرج أم الصغار
ومصباحها في يد أرعش الوجد منها،
يرود الدجى، ما أنار
سوى الدرب قفر المدى، وهي تصغي وترهف سمعا
وما تحمل الريح إلا نباح الكلاب البعيد،
فتخفت مصباحها من جديد. ••• «ولما استرحنا بكينا الرفاق!»
هماس لأنييس عبر القرون
وها أنت تدمع فيك العيون
وتبكين قتلاك
نامت وغى فاستفاق
بك الحزن عاد اليتامى يتامى،
ردى عاد ما ظن يوما فراق!
سلاما بلاد الثكالى، بلاد الأيامى
سلاما ...
سلاما.
بيروت، 7 / 6 / 1962
خذيني
خذيني أطر في أعالي السماء،
صدى غنوة، كركرات، سحابه!
خذيني، فإن صخور الكآبه
تشد بروحي إلى قاع بحر بعيد القرار
خذيني أكن في دجاك الضياء،
ولا تتركيني لليل القفار!
إذا شئت ألا تكوني لناري
وقودا، فكوني حريقا!
إذا شئت أن تخلصي من إساري،
فلا تتركيني طليقا!
خذيني إلى صدرك المثقل
بهم السنين
خذيني فإني حزين،
ولا تتركيني على الدرب وحدي أسير إلى المجهل
وكانت دروبي خيوط اشتياق
ووجد وحب
إلى منزل في العراق
تضيء نوافذه ليل قلبي،
إلى زوجة كان فيها هنائي
وكانت سمائي
كواكبها ترسم الدرب، دربي
وهبت عليها رياح سموم
تبعثر خيطان تلك الدروب البعيده،
فعادت جذى كل تلك النجوم،
صلبت عليها وعادت مسامير نعش،
وعادت دروبي دربا، إذا جئت أمشي
رماني إليك، كوزن يقود القصيده
فوا لهف قلبي عليك!
ودرب رماني إليك!
أما تعلمين بأني تشهيتك البارحه؟
أشم رداءك حتى كأني
سجين يعود إلى داره يتنشق جدرانها؛
هنا صدرها، قلبها كان يخفق، كان التمني
يدغدغه، يشعل الشوق فيه إلى غيمة رائحه
لأرض الحبيب، ستنضح أركانها
بذوب نداها
تشهيتك البارحه
فقبلت ردن الرداء؛ هنا ساعداها،
هنا إبطها، يا لكهف الخيال!
ومرفأ ثغري إذا جرفته رياح ابتهال
ودحرجه مد شوق ملح، وقد حار فيه السؤال: «تحبينني أنت؟ هل تخجلين؟
أم استنزفت شوقك الكبرياء،
فلم يبق إلا ابتسام الرثاء؟
أترثين لي، أم ترى تشفقين
على قلبك انهد تحت الصليب المعلق في صخرة الكبرياء؟»
نباح الكلاب المبعثر في وشوشات النخيل
ينبه في قلبي الذكريات العتاق،
ويربط دقات قلبي بأرض العراق،
لأسمع: «بابا»؛ فيطفأ حبي وتبرد نار الغليل،
وأعدو على الدرب سدت خطاي عليه
نوافذ بيتي تجمد فيها الضياء،
تغربت عنه وعدت إليه.
بيروت، 3 / 7 / 1962
حامل الخرز الملون
ماذا حملت لها سوى الخرز الملون والضباب؟
ما خضت في ظلمات بحر أو فتحت كوى الصخور
والريح ما خطفت قلوعك، والسحاب
ما بل ثوبك! ما حملت لها سوى الدم والعذاب!
في سجنها هي، خلف سور،
في سجنها هي، وهو من ألم وفقر واغتراب
عشر من السنوات مرت وهي تجلس في ارتقاب،
أطفالها المتوثبون مع الصباح
صمتوا وكفوا عن مراح،
زجرتهم لتحس وقع خطاك، برعمت الزهور
وأتى الربيع وما أتيت، وجاء صيف ثم راح
ماذا يعيقك في سواحل نائيات؟ في قصور
قفر يعيش الغول فيها، كلما رمت الرياح
بحطام صارية تحفز؟ ما يعيقك عن رجوع؟
لم تبق للغد من دموع
في مقلتيها، لا ولم يبق ابتسام للقاء
ستعود - حين تعود - بالخرز الملون والهباء،
ستضم منها طيف أمس، فلا يجيبك في الضلوع
منها سوى دمك المفجع والخواء.
بيروت، 9 / 5 / 1962
سفر أيوب
1
لك الحمد مهما استطال البلاء
ومهما استبد الألم،
لك الحمد، إن الرزايا عطاء
وإن المصيبات بعض الكرم
ألم تعطني أنت هذا الظلام
وأعطيتني أنت هذا السحر؟
فهل تشكر الأرض قطر المطر
وتغضب إن لم يجدها الغمام؟
شهور طوال وهذي الجراح
تمزق جنبي مثل المدى،
ولا يهدأ الداء عند الصباح،
ولا يمسح الليل أوجاعه بالردى
ولكن أيوب إن صاح صاح: «لك الحمد، إن الرزايا ندى،
وإن الجراح هدايا الحبيب،
أضم إلى الصدر باقاتها،
هداياك في خافقي لا تغيب،
هداياك مقبولة، هاتها!»
أشد جراحي وأهتف بالعائدين: «ألا فانظروا واحسدوني، فهذي هدايا حبيبي!»
وإن مست النار حر الجبين
توهمتها قبلة منك مجبولة من لهيب
جميل هو السهد أرعى سماك
بعيني حتى تغيب النجوم،
ويلمس شباك داري سناك
جميل هو الليل: أصداء بوم،
وأبواق سيارة من بعيد،
وآهات مرضى، وأم تعيد
أساطير آبائها للوليد
وغابات ليل السهاد؛ الغيوم
تحجب وجه السماء،
وتجلوه تحت القمر
وإن صاح أيوب كان النداء: «لك الحمد يا راميا بالقدر،
ويا كاتبا - بعد ذاك - الشفاء!»
لندن، 26 / 12 / 1962
2
من خلل الثلج الذي تنثه السماء،
من خلل الضباب والمطر،
ألمح عينيك تشعان بلا انتهاء
شعاع كوكب يغيب ساعة السحر
وتقطران الدمع في سكون
كأن أهدابهما غصون
تنطف بالندى مع الصباح في شتاء
من خلل الدخان والمداخن الضخام،
تمج من مغار قابيل على الدروب والشجر،
ذرا من النجيع والضرام،
أسمع غيلان يناديك من الظلام،
من نومه اليتيم في خرائب الضجر
سمعت كيف دق بابنا القدر
فارتعشت على ارتجاف قرعه ضلوع،
ورقرقت دموع،
فاختلس المسافر الوداع وانحدر؟ •••
وقبلة بين فمي وخافقي تحار
كأنها التائه في القفار
كأنها الطائر إذ خرب عشه الرياح والمطر،
لم يحوها خد لغيلان ولا جبين،
ووجه غيلان الذي غاب عن المطار،
وأنت إذ وقفت في المدى تلوحين. •••
إقبال ... إن في دمي لوجهك انتظار،
وفي يدي دم، إليك شده الحنين،
ليتك تقبلين
من خلل الثلج الذي تنثه السماء،
من خلل الضباب والمطر!
لندن، 27 / 12 / 1962
3
بعيدا عنك، في جيكور، عن بيتي وأطفالي
تشد مخالب الصوان والأسفلت والضجر
على قلبي، تمزق ما تبقى فيه من وتر
يدندن: «يا سكون الليل، يا أنشودة المطر!»
تشد مخالب المال
على بطني الذي ما مر فيه الزاد من دهر
عيون الجوع والوحده،
نجومي في دجى صارعت بين وحوشه برده،
وإن البرد أفظع، لا، كأن الجوع أفظع، لا، فإن الداء
يشل خطاي، يربطها إلى دوامة القدر
ولولا الداء صارعت الطوى والبرد والظلماء
بعيدا عنك أشعر أنني قد ضعت في الزحمه،
وبين نواجذ الفولاذ تمضغ أضلعي لقمه
يمر بي الورى متراكضين كأن على سفر،
فهل أستوقف الخطوات، أصرخ: «أيها الإنسان
أخي، يا أنت، يا قابيل ... خذ بيدي على الغمه!
أعني، خفف الآلام عني واطرد الأحزان»؟
وأين سواك من أدعوه بين مقابر الحجر؟ •••
ولولا الداء ما فارقت داري، يا سنا داري،
وأحلى ما لقيت على خريف العمر من ثمر!
هنا لا طير في الأغصان تشدو غير أطيار،
من الفولاذ تهدر، أو تحمحم دونما خوف من المطر،
ولا أزهار إلا خلف واجهة زجاجيه،
يراح إلى المقابر والسجون بهن والمستشفيات
ألا ... ألا يا بائع الزهر
أعندك زهرة حيه؟
أعندك زهرة مما يرب القلب من حب وأهواء؟
أعندك وردة حمراء سقتها شموس إستوائيه؟ •••
أأصرخ في شوارع لندن الصماء: «هاتوا لي أحبائي»؟
ولو أني صرخت فمن يجيب صراخ منتحر،
تمر عليه طول الليل آلاف من القطر؟!
لندن، 28 / 12 / 1962
4
يا رب أيوب قد أعيا به الداء
في غربة دونما مال ولا سكن،
يدعوك في الدجن،
يدعوك في ظلموت الموت: أعباء
ناء الفؤاد بها، فارحمه إن هتفا!
يا منجيا فلك نوح مزق السدفا
عني، أعدني إلى داري، إلى وطني! •••
أطفال أيوب من يرعاهم الآنا؟
ضاعوا ضياع اليتامى في دجى شات
يا رب أرجع على أيوب ما كانا:
جيكور والشمس والأطفال راكضة بين النخيلات،
وزوجه تتمرى وهي تبتسم،
أو ترقب الباب، تعدو كلما قرعا: «لعله رجعا!»
مشاءة دون عكاز به القدم! •••
في لندن الليل موت نزعه السهر،
والبرد والضجر،
وغربة في سواد القلب سوداء
يا رب يا ليت أني لي إلى وطني
عود لتلثمني بالشمس أجواء
منها تنفست روحي طينها بدني،
وماؤها الدم في الأعراق ينحدر
يا ليتني بين من في تربها قبروا! •••
لأنه منك، حلو عندي المرض،
حاشا، فلست على ما شئت أعترض
والمال؟ رزق سيأتي منه موفور،
هيهات أن يذكر الموت وقد نهضوا
من رقدة الموت، كم مص الدماء بها دود ومد بساط
الثلج ديجور!
إني سأشفى، سأنسى كل ما جرحا
قلبي، وعرى عظامي فهي راعشة والليل مقرور،
وسوف أمشي إلى جيكور ذات ضحى.
لندن، 29 / 12 / 62
5
نازلا نازلا من صحاري السماء،
من عصور جليدية، من قبور
نام فيها الهواء
أيها الثلج، يا حشرجات الدهور،
وانتحاب المساكين في كل كهف يغور،
في جبال السنين!
كن لهيبا على أوجه العابرين،
قنع الخوف فيها بلون الرجاء! •••
أيها الثلج، رحماك! إني غريب
في بلاد من البرد والجوع سكرى،
إن لي منزلا في العراق الحبيب،
صبيتي فيه تعلك صخرا
آه، لولاك يا داء ما عفت داري،
ما تركت الزهور التي فتحت في جداري،
والعصافير في ركن بيتي لهن اختصام
مر يوم، فشهر، فشهر، فعام. •••
والزمان ارتماء بدون انتهاء،
تزفر الأرض عنه وتبكي السماء،
رب هل لي إلى منزلي من رجوع؟
كم أمد الذراع وأهدم سقف الضلوع؟
لا أمس المدى أو أصيب الزمانا،
فهو شيء على الروح يسعى؛ هباء وظلمه
ليت عصر النبوات لم يطو حلمه!
وشت المعجزات الحواشي فكانت وكنا. •••
ليتني العازر انفض عنه الحمام،
يسلك الدرب عند الغروب،
يتمهل لا يقرع الباب: من ذا يئوب
من سراديب للموت عبر الظلام؟
لن تصدق أني ... ستهوي يداها
عن رتاج، وتصفر لي وجنتاها
ثم تركض مذعورة، تشد بخيط الدروب
نحو قبري، وتطويه حتى تمس الضريح الحطام. •••
إيه إقبال! لا تيأسي من رجوعي
هاتفا قبل أن أقرع الباب: عادا
عازر من بلاد الدجى والدموع،
سورها كان ملحا، نجيعا، رمادا
قبليني على جبهة صكها الموت صكا أليما،
حدقي في عيون شهدن الردى والمعادا
عدت، لن أبرح الدار حتى لو ان النجوما
دحرجت سلما من ضياء وقالت:
تخط السديما!
لندن، 31 / 12 / 1962
6
خيال الجسد العاري
يطل علي محمولا على موج من النار،
من المدفأة الحمراء، ذاك الرحم الضاري. •••
لكل تقلب من موجها خفق من القلب،
تدحرج عري النهدان، بان الجيد والساق،
تدحرج لي على الجنب،
تدحرج ثم صك أضالعي، وتثار أعراق
ويطفر للجبين دم، ويعروني
دوار منه تصطك النواجذ؛ خوف بحار
يطل فيبصر التيار يزفر مثل تنين،
ويصرخ آدم المدفون في: رضيت بالعار،
بطردي من جنان الخلد أركض إثر حواء!
أريدك، يا سرابا في خيالي ليس يسقيني،
أريدك. ثم تطوى موجة وتطير أشلاء
فقاعات من النيران، من شوق وتذكار. •••
وجاء الجسد العاري،
خيالا جاء محمولا على موج من النار
من المدفأة الحمراء، ذاك الرحم الضاري. •••
يميل علي كيف أشاء، أعصره كما أهوى،
ولا يقوى
على رفضي، على تهديم عرش من لظى وار،
أتوج فوقه الآمال راعشة القوى شهوى
بحار بيننا؛ ليلان من مدن وأمطار،
وإنك منك أقرب، أنت بعض دمي،
خيالي أنت، أمنيات عمري ... كل أمنيه
بعاطفتي تحرك لا عواطفك الأنانيه
علام مددت بحرا بيننا، دنيا جليديه
أعانق في دجاها جسمك العاري
يطل علي محمولا على موج من النار
من المدفأة الحمراء، من وهمي وأفكاري؟
لندن، 31 / 12 / 1962
7
البرد وهسهسة النار
ورماد المدفأة الرمل
تطويه قوافل أفكاري
أنا وحدي يأكلني الليل •••
ويخب المركب إلى داري
برق يتلامح في الآفاق، يعريها
ويذريها
كرماد المبخرة الثكلى
في مقبرة تهب الليلا
ألوان الموت وآهات الموتى فيها. •••
يا ليل، لكم طال الدرب
تعب الركب
وعراقي شط، وسماري
ناموا، وبقيت ولا زاد
عندي، وظمئت ولا ماء، ظمئ القلب
لا سقيا غير شظيات البرق الواري
يا أغصان الليل انهمري ثمرا إذ يؤكل يزداد
السلة منه سأملأها حتى إن عدت إلى داري
فرح الأطفال به، هتفوا: «بابا ...»
يا برق، أما تخبو؟
فيغيب الدرب، ولا يبدو
كم منه على الساري بعد. •••
البرد وهسهسة النار
ورماد المدفأة الرمل
تطويه قوافل أفكاري
أنا وحدي يأكلني الليل.
لندن، 1 / 2 / 1963
8
ذكرتك يا لميعة والدجى ثلج وأمطار،
ولندن مات فيها الليل، مات تنفس النور
رأيت شبيهة لك شعرها ظلم وأنهار،
وعيناها كينبوعين في غاب من الحور
مريضا كنت تثقل كاهلي والظهر أحجار
أحن لريف جيكور
وأحلم بالعراق وراء باب سدت الظلماء
بابا منه، والبحر المزمجر قام كالسور
على دربي
وفي قلبي
وساوس مظلمات غابت الأشياء
وراء حجابهن وجف فيها منبع النور
ذكرت الطلعة السمراء،
ذكرت يديك ترتجفان من فرق ومن برد
تنز به صحارى للفراق تسوطها الأنواء
ذكرت شحوب وجهك حين زمر بوق سياره
ليؤذن بالوداع. ذكرت لذع الدمع في خدي
ورعشة خافقي وأنين روحي يملأ الحاره
بأصداء المقابر، والدجى ثلج وأمطار.
لندن، 2 / 1 / 1963
9
بالعضل المفتول والسواعد المجدوله
هرقل صارع الردى في غاره المحجب
بظلمة من طحلب
وقام تموز بجرح فاغر مخضب
يصك «موت» صكة، محجبا ذيوله
وخطوه الجليد بالشقيق والزنابق. •••
وانخطف الموت علي كانخطاف الباشق
على العصافير، أحال ظهري
عمود ملح أو عمود جمر،
أحرك الأطراف لا تطيعني، مشلوله،
مات الدم الفوار فيها، أطفئ الشباب،
وامتد نحو القبر درب، باب
من خشب الصليب، فالمسيح
مات، وفي الطوفان ضل نوح
وأغضيت نواظري الذليله
لعلها تعتاد من دجاها
على دجى غطاؤها الضريح ! •••
أي سلاح، آه، أي ساعد؟
أية أزهار تمد فاها
لتأكل الموت؟ وأي ناصر مساعد؟
سللت من قصائدي
سيفا كأن البرق حداد رمى أصوله
وصب مقبضا له وشفره
بالشعر، بالمبرق، بالمجلجل المدوي
رميت وجه يهوي نحوي
كأنه الستار في رواية هزيله،
رميت وجه الموت ألف مره
إذا أطل وجهه البغيض
كأنه السيرين، يسعى جسمي المريض
نحو ذراعيه بلا تردد،
فأنتضي من سيفي المجرد،
ويقطر الشعر ولا يغيض،
لأنني مريض
أودع الحياة أو أشد بالحياة
بخيطه الموروث عن أموات
لم يدفع الشعر مناياهم وقد
جاءت إليهم غيله!
2 / 1 / 1963
10
يا غيمة في أول الصباح،
تعربد الرياح
من حولها، تنتف من خيوطها، تطير
بها إلى سماوة تجوع للحرير،
سينطوي الجناح،
ستنتف الرياح ريشه مع الغروب،
يا غيمة ما أمطرت، تذوب! •••
فأبرقي وأرعدي وأرسلي المطر
ومزقي ذوائب الشجر
وأغرقي السهوب،
وأحرقي الثمر!
سترجحن بعدك السنابل الثقال بالحبوب،
وتقطف الورود والأقاح
صبية يؤج في وجنتها الجنوب،
وأنت ذرة من الدماء والجراح. •••
وأنت يا شاعر واديك، أما تئوب
من سفر يطول في البطاح،
تراقص النهر
وتلثم المطر؟
أما سمعت هاتف الرواح: «خام وزنبيل من التراب
وآخر العمر ردى»، ويطلع القمر؟
فأبرق، ارعد، أرسل المطر
قصائد احتوى مداها دارة العمر،
يا غيمة في أول الصباح،
يا شاعرا يهم بالرواح،
وودع القمر.
لندن، 2 / 1 / 1963
منزل الأقنان
في جيكور
خرائب فانزع الأبواب عنها تغد أطلالا،
خوال قد تصك الريح نافذة فتشرعها إلى الصبح،
تطل عليك منها عين بوم دائب النوح
وسلمها المحطم، مثل برج داثر، مالا
يئن إذا أتته الريح تصعده إلى السطح،
سفين تعرك الأمواج ألواحه. •••
وتملأ رحبة الباحه
ذوائب سدرة غبراء تزحمها العصافير،
تعد خطى الزمان بسقسقات، والمناقير
كأفواه من الديدان تأكل جثة الصمت،
وتملأ عالم الموت
بهسهسة الرثاء، فتفزع الأشباح تحسب أنه النور
سيشرق، فهي تمسك بالظلال وتهجر الساحه
إلى الغرف الدجية وهي توقظ ربة البيت: «لقد طلع الصباح»، وحين يبكي طفلها الشبح
تهدهده وتنشد: «يا خيول الموت في الواحه
تعالي واحمليني، هذه الصحراء لا فرح
يرف بها ولا أمن ولا حب ولا راحه!»
ألا يا منزل الأقنان، كم من ساعد مفتول
رأيت، ومن خطى يهتز منها صخرك الهاري!
وكم أغنية خضراء طارت في الضحى المغسول
بالشمس الخريفيه،
تحدث عن هوى عاري
كماء الجدول الرقراق! كم شوق وأمنيه!
وكم ألم طويت، وكم سقيت بمدمع جاري؟
وكم مهد تهزهز فيك؟ كم موت وميلاد
ونار أوقدت في ليلة القر الشتائيه!
يدندن حولها القصاص: «يحكى أن جنيه ...»
فيرتجف الشيوخ ويصمت الأطفال في دهش وإخلاد
كأن زئير آلاف الأسود يرن في واد
وقد ضلوا حيارى فيه، ثم ترن أغنيه: «أتى قمر الزمان ...» ودندن القصاص: «جنيه ...»
وبؤسهم المرير؛ الجوع والأحزان والسقم،
وطفل مات لما جف در، ماتت المعزى
وجاعت أمه، فالثدي لا لبن ولا لحم،
سمعت صراخها والليل ينظر نجمه غمزا،
وولولة الأب المفجوع يخنق صوته الألم. •••
ولو خيرت أبدلت الذي ألقى بما ذاقوا،
ممض ما أعاني؛ شل ظهر وانحنت ساق
على العكاز أسعى حين أسعى، عاثر الخطوات مرتجفا،
غريب غير نار الليل ما واساه من أحد
بلا مال، بلا أمل، يقطع قلبه أسفا
ألست الراكض العداء في الأمس الذي سلفا؟!
أأمكث في ديار الثلج ثم أموت من كمد،
ومن جوع ومن داء وأرزاء؟
أأمكث أم أعود إلى بلادي؟ آه يا بلدي!
وما أمل العليل لديك، شح المال، ثم رمته بالداء
سهام في يد الأقدار ترمي كل من عطفا
على المرضى، وشد ضلوع الجائعين بصدره الواهي،
وكفكف أدمع الباكين يغسلها بما وكفا
من العبرات في عينيه؛ إلا رحمة الله؟! •••
ألا يا منزل الأقنان، سقتك الحيا سحب
تروي قبري الظمآن،
تلثمه وتنتحب.
لندن، 3 / 1 / 1963
وصية من محتضر
يا صمت، يا صمت المقابر في شوارعها الحزينه،
أعوي، أصيح، أصيح في لهف فأسمع في السكينه
ما تنثر الظلماء من ثلج وقار،
تصدي عليه خطى وحيدات، وتبتلع المدينه
أصداءهن، كأن وحشا من حديد، من حجار
سف الحياة فلا حياة من المساء إلى النهار
أين العراق؟ وأين شمس ضحاه تحملها سفينه
في ماء دجلة أو بويب؟ وأين أصداء الغناء
خفقت كأجنحة الحمام على السنابل والنخيل
من كل بيت في العراء،
من كل رابية تدثرها أزاهير السهول؟
إن مت يا وطني فقبر في مقابرك الكئيبه
أقصى مناي، وإن سلمت فإن كوخا في الحقول
هو ما أريد من الحياة. فدى صحاراك الرحيبه
أرباض لندن والدروب، ولا أصابتك المصيبه! •••
أنا قد أموت غدا، فإن الداء يقرض - غير وان -
حبلا يشد إلى الحياة حطام جسم مثل دار
نخرت جوانبها الرياح وسقفها سيل القطار.
يا إخوتي المتناثرين من الجنوب إلى الشمال،
بين المعابر والسهول وبين عالية الجبال،
أبناء شعبي في قراه وفي مدائنه الحبيبه!
لا تكفروا نعم العراق ...
خير البلاد سكنتموها بين خضراء وماء،
الشمس، نور الله، تغمرها بصيف أو شتاء،
لا تبتغوا عنها سواها
هي جنة فحذار من أفعى تدب على ثراها
أنا ميت، لا يكذب الموتى، وأكفر بالمعاني
إن كان غير القلب منبعها
فيا ألق النهار،
اغمر بعسجدك العراق، فإن من طين العراق
جسدي، ومن ماء العراق ...
2 / 1 / 1963
الشاهدة
«يا قارئا كتابي
ابك على شبابي»
شاهدة بين القبور تبكي
تستوقف العابر، يا صحابي
غضوا الخطا ولتصمتوا، إن القرون تحكي
في جملة خطت على التراب
من نام في القبر ودود القبر
يسأل لا ينطق بالجواب؟!
سيان عنده اتئلاق الفجر
وظلمة الليل بلا ثياب،
بلا طعام، لا هوى، لا حقد
أفقر أهل الفقر
فيه وأغنى الأغنياء، تعدو
في قبره الجرذان، وهو غاف
نام من الديدان في لحاف. •••
لي نومة مع التراب في غد
صباحها أول ليل الأبد،
يمر بي الشيوخ والشبان
يثرثرون: «يدها فوق يدي
وعينها ...» وينفث الدخان
رب فتى مورد
يقرأ من شعري على الصحاب،
يقرأ في كتابي
قصيدة خضراء عن جيكور،
غافية تحت غصون النور
تحلم بالسحاب،
مر على قبري فقال: «قبر،
وأين من هذا الرميم الشعر
يدفق بالعواطف
كهبة العواصف القواصف؟!»
مر على قبري فكاد الصخر
يصرخ: «تحتي نام هذا الشاعر
صاحب هذه القوافي، يسمع
ما قلتموه، فالعيون تدمع
في عالم لا يرجع المسافر
منه ولا للنوم فيه آخر
رفقا به، دعوه في رقدته
تؤنسه الديوان في وحدته،
كان له قلب وكان أمس،
حتى إذا استنزف من مدته
توسد الترابا،
لا تقرءوا الكتابا!» •••
ثم تغيب الشمس.
درم، 6 / 1 / 1963
أسمعه يبكي
أسمعه يبكي، يناديني
في ليلي المستوحد القارس
يدعو: «أبي كيف تخليني
وحدي بلا حارس؟»
غيلان، لم أهجرك عن قصد ...
الداء يا غيلان أقصاني،
إني لأبكي - مثلما أنت تبكي - في الدجى وحدي
ويستثير الليل أحزاني،
فكلما مر نهار وجاء
ليل من البرد
ألفيتني أحسب ما ظل في جيبي من النقد،
أيشتري هذا القليل الشفاء؟
سأطرق الباب على الموت في دهليز مستشفى
في البرد والظلماء والصمت،
سأطرق الباب على الموت
في برهة طال انتظاري بها، في معبر من دماء،
وأرسل الطرفا
فلا أرى إلا الدجى والخواء
يا ويلتي إن يفتح الباب
فأبصر الأموات من فرجته
يدعونني: «مالك ترتاب
بالموت؟ في هجعته
ما يعدل الدنيا وما فيها؛
دفء، نعاس، خدر وارتخاء»
أوشك أن أعبر في برزخ من جامدات الدماء
تمتد نحوي كفها، كف أمي بين أهليها: «لا مال في الموت، ولا فيه داء.»
ثم تسد الباب كف الطبيب
تجرح في جسمي،
وهاتفا باسمي
أسمع صوتا ناعسا، قد أجيب
فيهزم الموت على صوتي،
وربما استسلمت للموت.
درم، 9 / 1 / 1963
درم
درم ...
بنفسي مما عراني برم
فمدي ذراعيك ولتحضنيني
إلى هوة من ظلام العدم،
فما قيمة العمر أقضيه أمشي
بعكازة في دروب الهرم؟
أهذا شبابي؟ وأين الشباب؟
ألا حب، لا زهو، لا عنفوان؟
أهذا مشيبي؟ حصدت السراب
إذا كان معنى المشيب الهوان!
أعقبى المشيب الأسى والندم؟
أما من شبابي الذي مر ذكرى؟
أما منه مال وبقيا شمم؟
أكان الذي منه خلفت شعرا
وبيتا وراء الرياح انهدم؟
درم ...
تمنيت لو مت بين الثلوج
على جدول جمدته النسم،
فروحي تجوب المروج
وتأوي إلى رمة في الظلم،
ومن أين للروح هذا البقاء؟
فناء، فناء
سوى قصة قد تثير السأم
يرددها سامر في الشتاء: «لقد خط شعرا له من هباء،
وكانت له زوجة وابن عم
وطفلان، لا، لا، نسيت ... ابنتان
وطفل»، ويخبو لديه الضرم،
فيغفو على المسند السامر
وتفتح بوابة من دخان،
عليها الدجى حائر
يبعثر أنجمه من خلال الضباب
أهذا هو الشاعر؟
حديث ينيم الصحاب
إذا مات، أو عاش فهو الألم
درم،
بنفسي مما عراني برم.
بيروت، 5 / 1 / 1963
قصيدة من درم
من درم أكتبها قصيده
كالنجم في آفاقه البعيده
لا يبعث الدفء ولا ينير،
يلمحه الصغير
فيبسط الكف له، يشير
يقطر في أحلامه السعيده
يعلق بالضباب
كنغفة السراب
تضلل القوافل الشريده. •••
اليأس يوحيها أو الملال
كأنها في الظلمة الظلال
تعمق الظلمة حين تنشر
أظل ما يقال
في نفس شاعر يموت عمره، يبعثر
ويقبر؟
يمشي على عكازة ويعثر،
أيامه إلى رداه سفر،
وعيشه انسلال
عبر جدار الموت ما يزال
شاء الردى، حاول أن يريده
لكن وحشا ضاريا يزمجر
في كهفه، وحية من بابل التليده،
يطير نحو الموت منه شرر،
تفح في وجه الردى وتصفر،
فيكتب القصيده
يريد أن يجدد البقاء، أن يعيده،
أن يهدي القوافل الشريده،
فلا تتيه في صحاري العدم
بقبره في درم. •••
من درم أكتبها قصيده
كالنجم ضل في سديم العدم.
درم، 5 / 1 / 1963
قالوا لأيوب
قالوا لأيوب: «جفاك الإله!»
فقال: «لا يجفو
من شد بالإيمان، لا قبضتاه
ترخى، ولا أجفانه تغفو.»
قالوا له: «والداء من ذا رماه
في جسمك الواهي ومن ثبته؟»
قال: «هو التكفير عما جناه
قابيل والشاري سدى جنته
سيهزم الداء، غدا أغفو
ثم تفيق العين من غفوه
فأسحب الساق إلى خلوه،
أسأل فيها الله أن يعفو
عكازتي في الماء أرميها
وأطرق الباب على أهلي،
إن فتحوا الباب فيا ويلي
من صرخة، من فرحة مست حوافيها
دوامة الحزن ... وأأيوب ذاك؟
أم أن أمنيه
يقذفها قلبي، فألفيها
ماثلة في ناظري حيه؟
غيلان، يا غيلان، عانق أباك!» •••
يا رب لا شكوى ولا من عتاب،
ألست أنت الصانع الجسما؟
فمن يلوم الزارع التما
من حوله الزرع، فشاء الخراب
لزهرة والماء للثانيه؟
هيهات تشكو نفسي الراضيه!
إني لأدري أن يوم الشفاء
يلمح في الغيب،
سينزع الأحزان من قلبي
وينزع الداء، فأرمي الدواء،
أرمي العصا، أعدو إلى دارنا وأقطف الأزهار في دربي،
ألم منها باقة ناضره
أرفعها للزوجة الصابره
وبينها ما ظل من قلبي.
درم، 6 / 1 / 1963
الليلة الأخيرة
وفي الصباح يا مدينة الضباب
والشمس أمنية مصدور تدير رأسها الثقيل
من خلل السحاب،
سيحمل المسافر العليل
ما ترك الداء له من جسمه المذاب،
ويهجر الدخان والحديد
ويهجر الأسفلت والحجر،
لعله يلمح في درام من نهر،
يلمح وجه الله فيها، وجهه الجديد
في عالم النقود والخمور والسهر. •••
رب صباح بعد شهر، بعدما الطبيب
يراه - من يعلم ماذا خبأ القدر؟ -
سيحمل الحقيبة المليئه
بألف ألف رائع عجيب،
بالحلي والحجر،
باللعب الخبيئه،
يفجأ غيلان بها، يا طول ما انتظر!
يا طول ما بكى ونام تملأ الدموع
برنة الأجراس، أو بصيحة الذئاب
عوالم الحلم له، وتنشر القلوع
يجوب فيها سندباد عالم الخطر،
هناك فارس النحاس يرقب العباب
ويشرع السهم ليرمي كل من عبر. •••
إن يكتب الله لي العود إلى العراق
فسوف ألثم الثرى، أعانق الشجر،
أصيح بالبشر: «يا أرج الجنة، يا إخوة، يا رفاق،
ألحسن البصري جاب أرض واق واق،
ولندن الحديد والصخر،
فما رأى أحسن عيشا منه في العراق.»
ما أطول الليل وأقسى مدية السهر،
صديئة تحز عيني إلى السحر! •••
وزوجتي لا تطفئ السراج: «قد يعود
في ظلمة الليل من السفر.»
وتشعل النيران في موقدنا: «برود
هو المساء، وهو يهوى الدفء والسمر.» •••
وتنطفئ مدفأتي، فأضرم اللهيب،
وأذكر العراق: ليت القمر الحبيب
من أفق العراق يرتمي علي: آه يا قمر!
أما لثمت وجه غيلان؟ أنا الغريب
يكفيه لو لثمت غيلان، أن انتثر
منك ضياء عبر شباك الأب الكئيب،
ومس منه الثغر والشعر:
أحس منه أن غيلان - شذى وطيب
من كفه اللينة انتشر -
عابث شعري، صاح: «آه جاء
أبي، وعاد من مدينة الحجر!»
وشد بالرداء.
ما أطول الليل وأقسى مدية السهر
ومدية النوم بلا قمر.
لندن، 4 / 1 / 1963
القصيدة والعنقاء
جنازتي في الغرفة الجديده
تهتف بي أن أكتب القصيده،
فأكتب
ما في دمي وأشطب
حتى تلين الفكرة العنيده.
وغرفتي الجديده
واسعة، أوسع لي من قبري
إذا اعتراني تعب
من يقظة فالنوم منها أعذب،
ينبع حتى من عيون الصخر،
حتى من المدفأة الوحيده
تقوم في الزاوية البعيده. •••
وترفع الجنازة اليابسة المهدمه
من رأسها، ترنو إلى الجدران
والسقف والمرآة والقناني،
ما للزوايا مظلمه
كأنهن الأرض للإنسان،
تريد أن تحطمه
بالمال والخمور والغواني،
والكذب في القلب وفي اللسان!
تريد أن تعيده
للغابة البليده!
وصفحة المرآة ما لها تطل خاويه
ما أثمرت بغانيه،
بالشفة المرجان
تنيرها، كالشفق، العينان،
وبالنهود العاريه؟
كهذه المرآة
ستصبح الأرض بلا حياة
وفي الليالي الداجيه،
في ذلك السكون ليس فيه
إلا الرياح العاويه،
سيفزع الله من الأموات
ويسحب الموت ويغفو فيه
مثل دثار في الليالي الشاتيه. •••
وهكذا الشاعر حين يكتب القصيده
فلا يراها بالخلود تنبض،
سيهدم الذي بنى، يقوض
أحجارها ثم يمل الصمت والسكونا
وحين تأتي فكرة جديده،
يسحبها مثل دثار يحجب العيونا،
فلا ترى، إن شاء أن يكونا
فليهدم الماضي، فالأشياء ليس تنهض
إلا على رمادها المحترق
منتثرا في الأفق،
وتولد القصيده.
درم، 10 / 1 / 1963
هرم المغني
بالأمس كنت إذا كتبت قصيدة فرح الدم
فأغمغم
وأهيم ما بين الجداول والأزاهر والنخيل
أشدو بها، أترنم،
زاد لروحي منذ سقسقة الصباح إلى الأصيل
زاد، ولكن عنه قد صدفت، تجوع ولا تريد
ما ينعش الآمال فيها،
هي حشرجات الروح أكتبها قصائد لا أفيد
منها سوى الهزء المرير على ملامح قارئيها
هرم المغني، هد منه الداء فارتبك الغناء
بالأمس كان إذا ترنم يمسك الليل الطروب
بنجومه المترنحات فلا تخر على الدروب،
واليوم يهتف ألف آه لا يهز مع المساء
سعف النخيل، ولا يرجح زورق العرس المحلى
بعيون آرام ودفلى،
ودرابك ارتعدت حناجرها فأرعدت الهواء. •••
هرم المغني فاسمعوه - برغم ذلك - تسعدوه،
ولتوهموه بأن من أبد شباب من لحون،
وهوى ترقرق مقلتاه له وينفح منه فوه
هو مائت أفتبخلون
عليه حتى بالحطام من الأزاهر والغصون؟
أصغوا إليه لتسمعوه
يرثي الشباب ولا كلام سوى نشيج: «بالعيون
سلم علي إذا مررت!»
أتى وسلم ... صدقوه!
هرم المغني فارحموه.
درم، 5 / 1 / 1963
قصيدة إلى العراق الثائر
عملاء «قاسم» يطلقون النار ، آه على الربيع
سيذوب ما جمعوه من مال حرام كالجليد،
ليعود ماء منه تطفح كل ساقية، يعيد
ألق الحياة إلى الغصون اليابسات فتستعيد
ما لص منها في الشتاء القاسمي، فلا يضيع
يا للعراق!
يا للعراق! أكاد ألمح عبر زاخرة البحار،
في كل منعطف، ودرب، أو طريق، أو زقاق،
عبر الموانئ والدروب،
فيه الوجوه الضاحكات تقول: «قد هرب التتار
والله عاد إلى الجوامع بعد أن طلع النهار،
طلع النهار فلا غروب.»
يا حفصة ابتسمي فثغرك زهرة بين السهوب،
أخذت من العملاء ثأرك كف شعبي حين ثار،
فهوى إلى سقر عدو الشعب، فانطلقت قلوب
كانت تخاف فلا تحن إلى أخ عبر الحدود،
كانت على مهل تذوب،
كانت إذا مال الغروب
رفعت إلى الله الدعاء: «ألا أغثنا من ثمود،
من ذلك المجنون يعشق كل أحمر، فالدماء
تجري وألسنة اللهيب تمد، يعجبه الدمار
أحرقه بالنيران تهبط كالجحيم من السماء،
واصرعه صرعا بالرصاص، فإنه شبح الوباء!» •••
هرع الطبيب إلي، آه، لعله عرف الدواء
للداء في جسدي فجاء؟
هرع الطبيب إلي وهو يقول: «ماذا في العراق؟
الجيش ثار ومات «قاسم» ...» أي بشرى بالشفاء!
ولكدت من فرحي أقوم، أسير، أعدو دون داء!
مرحى له، أي انطلاق!
مرحى لجيش الأمة العربية انتزع الوثاق!
يا إخوتي بالله، بالدم، بالعروبة، بالرجاء،
هبوا فقد صرع الطغاة وبدد الليل الضياء،
فلتحرسوها ثورة عربية صعق «الرفاق»
منها وخر الظالمون،
لأن «تموز» استفاق
من بعد ما سرق العميل سناه، فانبعث العراق.
لندن، مستشفى سان ماري
8 / 2 / 1963
صفحه نامشخص