ها هو قد وجد مكانا ملائما على سطح السفينة بعدما تحقق هنا وهناك. ولما كان غلاف الدفتر سميكا، فلم يكن بحاجة إلى منضدة. والحبر الدافئ المربوط على صدره كان يتدفق في سلاسة كالدم. ثم كتب ما يلي:
صعدنا على متن السفينة في اليوم الرابع من شهر يونيو، ثم بتنا في الأيام الأربعة التالية في مرسى ليث، نحرك السفينة إلى المكان، حيث نستطيع أن نبدأ الإبحار، وبدأنا الإبحار بالفعل في التاسع من يونيو. عبرنا منعطف فايفشاير دون أي مشكلات، ولم يحدث أي شيء يستحق الذكر حتى صباح يوم الثالث عشر من يونيو، عندما استيقظنا على صرخة من بيت جون أوجروتس. كان باستطاعتنا رؤية البيت بوضوح، وقد كان الإبحار جيدا عبر خليج بنتلاند، وكانت الريح والمد في صالحنا، ولم يبد البيت على أي نحو خطيرا كما كنا نسمع. ومن بين ما سمعناه أن طفلا قد مات هناك، اسمه أورميستون، وقد تم التخلص من جثته بإلقائها في البحر بعد أن لفت في قطعة من قماش الكتان مع وضع قطعة كبيرة من الفحم عند قدميه ...
توقف قليلا عن الكتابة ليفكر في الجوال الثقيل الموضوع فيه الطفل الميت وهو يسقط إلى عرض البحر. المياه كان يزداد لونها دكانة أكثر فأكثر، وكان سطحها يلمع على نحو خافت مثل السماء في الليل. هل كانت قطعة الفحم الكبيرة ستؤدي بالمهمة المطلوبة منها، وهل كان الجوال يسقط إلى قاع البحر مباشرة؟ أو هل كان تيار البحر قويا بالقدر الكافي بحيث يستمر في رفعه على سطح البحر ثم إسقاطه ودفعه جانبيا، آخذا إياه إلى مكان بعيد جدا مثل جرينلاند، أو ناحية الجنوب حيث المياه الاستوائية المليئة بالأعشاب الكثيفة؛ بحر سارجاسو؟ أو ربما عثرت على الجوال سمكة مفترسة وقطعته والتهمت الجثة الموجودة فيه حتى قبل أن يترك سطح البحر والمنطقة المضيئة منه.
لقد رأى رسوما لأسماك لا تقل في حجمها عن حجم الخيول، أسماك لها قرون أيضا، وعدد هائل من الأسنان التي تشبه السكاكين التي يستخدمها تجار الجلود. وبعضها كان أملس ومبتسما، ومشاكسا على نحو شرير، له صدر كصدر المرأة، لكنه لم يكن يشتمل على الأجزاء الأخرى من الصدر التي يذهب فكر الرجل إليها عندما يتخيله. كل هذا كان موجودا في كتاب مليء بالقصص والنقوش، والذي حصل عليه من مكتبة بيبلز .
لم تصبه هذه الأفكار بأي ضيق؛ إذ كان يعد نفسه دائما للتفكير بوضوح في أكثر الأمور بغضا وترويعا، والتخيل الدقيق لها إن أمكن؛ وذلك حتى يقلل من تأثيرها عليه. وكما كان يتخيل الأمر الآن، فالطفل كان يؤكل. لم يبتلع مرة واحدة كما حدث مع النبي يونس، بل يمضغ إربا إربا مثلما يمضغ هو قطعة لذيذة من لحم الأغنام المسلوق. لكن يبقى شأن روح الطفل. الروح تفارق الجسد في لحظة موت الشخص مباشرة، لكن من أي عضو من أعضاء الجسم تخرج؟ أين هو موضعها على وجه التحديد في الجسد؟ أفضل تخمين هو أن الروح - على ما يبدو - تخرج مع آخر نفس، بعد أن كانت مختفية في موضع ما في الصدر في محيط منطقة القلب والرئتين. هذا على الرغم من أن والتر قد سمع مزحة تعودوا أن يسردوها عن رفيق قديم لهم في إتريك، مفادها أنه من شدة قذارته خرجت روحه من مؤخرته عندما مات، وسمعوا أنها خرجت بصوت عال.
هذه هي نوعية المعلومات التي قد يتوقع الناس أن يعطيها لهم الوعاظ؛ هم لا يذكرون بالطبع شيئا من قبيل خروج الروح من المؤخرة، لكنهم يخبرونك بشيء عن المكان الصحيح لوجود الروح وخروجها. غير أنهم يتحاشون الحديث عنها. كما أنهم لا يسعهم توضيح - أو ربما لم يسمعهم أحد أبدا يوضحون - كيفية بقاء الأرواح خارج الأجساد حتى يأتي يوم الحساب، وكيف تجد كل روح في ذلك اليوم جسد صاحبها وتميزه، وكيف يتحد الروح والجسد من جديد، وإن كان الجسد لا يشبه الهيكل العظمي كثيرا عندئذ، «وإن كان ترابا». لا بد أن ثمة أشخاصا قد درسوا من المواد ما يكفي لأن يعرفوا كيفية حدوث تلك الأمور كلها، لكن ثمة أناس آخرون أيضا - وهو ما علم به منذ وقت قريب - ممن درسوا وقرءوا وفكروا حتى وصلوا إلى نتيجة مفادها عدم وجود أرواح على الإطلاق. لا يعبأ أي أحد بالحديث عن هؤلاء أيضا، بل إن مجرد التفكير فيهم أمر مخيف ومفزع. كيف يمكنهم العيش في ظل الخوف من جهنم وكذلك اليقين من وجودها؟
كان ثمة رجل من هؤلاء، جاء من بيرويك، وكان يدعى ديفي البدين؛ لأنه كان يجد صعوبة في الجلوس أمام الطاولة لتناول الطعام لفرط بدانته. وعندما مات في إدنبرة، حيث كان يعمل باحثا في مجال ما، وقف الناس في الشارع خارج منزله ينتظرون ليروا إن كان الشيطان سيأتي لحصد روحه أم لا. فقد ألقيت عظة في إتريك عن هذا الموضوع، زعمت - حسبما فهم والتر - أن الشيطان لا يقوم بمثل هذه الأمور، وأنه لا يؤمن بذلك سوى الدهماء من الناس ومن يؤمنون بالخرافات والرومان الكاثوليك، وأن أخذه للروح كان أكثر رهبة بكثير على الرغم من ذلك، وألوان العذاب التي تصاحبه كانت أكثر دهاء وبراعة مما قد يخطر على بال أي من هؤلاء. •••
وفي اليوم الثالث على متن السفينة، استيقظ جيمس الأب، وبدأ يسير في أرجاء المكان. أصبح الآن يقضي كل وقته في المشي. كان يتوقف ويتحدث مع أي شخص يبدو له أنه على استعداد لأن يسمعه. كان يخبره باسمه ويقول له إنه من إتريك، من وادي وغابة إتريك؛ حيث اعتاد ملوك اسكتلندا الأوائل أن يمارسوا الصيد.
وكان يقول: «يقال إنه في أرض فلودن، بعد انتهاء المعركة، كان بإمكان المرء أن يتحرك هنا وهناك بين الجثث ويتعرف على مقاتلي إتريك وجنودها؛ لأنهم كانوا أكثر المقاتلين طولا وقوة ووسامة. لدي خمسة من الأولاد وكلهم أقوياء ومؤدبون، لكن لا يوجد معي الآن سوى اثنين منهم. ذهب أحدهم إلى نوفا سكوشا، وكان اسمه كاسمي وآخر ما سمعت عنه أنه كان في مكان اسمه إيكونومي، لكن لم نعرف عنه شيئا منذ ذلك الوقت، ولا أعرف إن كان حيا أو ميتا. أما أكبر أولادي، فقد هاجر ليعمل في منطقة الأراضي المرتفعة الاسكتلندية، وأما الابن قبل الأخير، فقد قرر الرحيل إلى هناك هو الآخر، ولن أرى أيا منهما مرة أخرى. خمسة أبناء، كلهم - بفضل الرب - صاروا رجالا، غير أن الرب لم يشأ أن يظلوا معي. ماتت أمهم بعدما وضعت آخرهم؛ إذ أصابتها حمى ، ولم تقو على النهوض أبدا من فراشها بعدما ولدته. إن حياة المرة مليئة بالأحزان. لدي أيضا بنت واحدة، وهي أكبرهم، غير أنها أقرب ما يكون إلى الأقزام. طارد أمها كبش عندما كانت تحملها. وعندي ثلاث أخوات كبيرات كلهن نفس الشيء، قزمات.»
ارتفع صوته فوق كل الضجيج الذي تعج به الحياة على سطح السفينة، وكان أولاده كلما سمعوا صوته يذهبون في إحراج شديد في غير الاتجاه الذي كان يأتي منه صوته.
صفحه نامشخص