كنت قد ارتدت من قبل هذا الطريق بضع مرات بمفردي، ولم أر مقلب النفايات هناك ولو لمرة، ولكنني كنت أعرف أشياء أخرى. كنت أعرف أننا حين نجتاز هذا التل، سوف تختفي أشجار البلوط والصنوبر لتحل محلها أشجار التنوب والطمراق والأرز، وكذلك المرعى الوعر، وكل ما نراه، لفترة طويلة، سيكون نباتات سبخية على كلا الجانبين، مع وجود بسيط لأشجار التوت البري الأحمر العالية التي لم يكن يستطيع أحد الوصول إليها، وبعض الزهور القرمزية ذات الشكل الجميل التي لم أكن أدري اسمها؛ أظن أنها كانت تسمى حشيشة الغراب البرتقالية. وعلى فرع من فروع شجرة الأرز علق أحدهم جمجمة حيوان صغير، كان راسل ينتبه إليها، متسائلا في كل مرة نمر عليها إن كانت جمجمة ابن مقرض، أم ابن عرس، أم منك.
كان يقول إن ذلك على أي حال دليل على أن ثمة من ارتاد هذا الطريق قبلهما. وعلى الأرجح أنه كان ماشيا، ومن غير المرجح أنه كان في سيارة؛ فقد كانت أشجار الأرز نامية على مقربة شديدة من بعضها، وكان الجسر الخشبي المار فوق الجدول الصغير عند أدنى مستوى للمستنقع بدائيا؛ إذ كان مرنا أسفل أقدامنا وبلا سور. وفيما وراء ذلك كانت الأرض ترتفع ببطء، واختفت الأرض الموحلة لتظهر في النهاية حقول زراعية على كلا الجانبين يلمحها الناظر عبر أشجار الزان الضخمة. كان ثمة الكثير من تلك الأشجار الثقيلة، حتى إن ضوءها الرمادي الناعم بدا وقد أحدث تغييرا فعليا في الهواء؛ إذ جعله باردا وكأنك قد دخلت قاعة أو كنيسة عالية الجدران.
كان هذا الطريق ينتهي بعد أن امتد لميل وربع، مؤديا إلى طريق مستقيم آخر مفروش بالحصباء. كنا نستدير ونعود أدراجنا من نفس الطريق.
كان بالكاد يسمع صوت أي طيور في حرارة منتصف النهار، ولم يكن يرى أي منها، ولم يكن ثمة الكثير من البعوض؛ نظرا للجفاف الذي طال البرك في الأرض المنخفضة. ولكن كان ثمة يعاسيب أعلى الجدول، وسرب من الفراشات المتناهية الصغر ذات اللون الأخضر الباهت حتى إنك لتظن حين تراها أنها ربما تكون مجرد انعكاس لأوراق الشجر.
كان الشيء الوحيد الذي كان مسموعا في كل مرحلة من جولتنا هو صوت راسل الهادئ المفعم بالسعادة. كان يتحدث عن عائلته؛ كان له أختان يكبرانه تركتا المنزل، وأختان تصغرانه، وأخ أصغر، وكانوا جميعا موسيقيين؛ إذ كان كل منهم يعزف على آلة ما. كان الأخ الأصغر يدعى جاكي، وكان يتعلم العزف على الترومبون ليتسلم الراية من راسل. وكانت الأختان الصغريان اللتان بقيتا بالمنزل تدعيان مايفس وآني، وكانت أيونا وإيزابيل هما الشقيقتان الكبريان. كانت أيونا متزوجة من رجل يعمل في شركة هيدرو لخطوط الكهرباء، فيما كانت إيزابيل عاملة نظافة في أحد الفنادق الكبيرة. وكان له شقيقة أخرى، تدعى إيدنا، توفيت إثر إصابتها بشلل الأطفال داخل رئة حديدية بعد معاناة استمرت ليومين فقط وهي في الثانية عشرة من عمرها. كانت الوحيدة بين أفراد الأسرة التي كان لها شعر أشقر. وكان الأخ الأصغر جاكي على وشك الموت هو الآخر؛ إثر إصابته بتسمم الدم جراء الخطو على لوح به مسمار صدئ. وكان راسل نفسه يعاني من خشونة القدمين بسبب الخروج حافي القدمين في الصيف؛ فكان يستطيع السير على الحصى أو الأشواك أو الجذامة دون أن تصيبه أي جروح من أي نوع.
في الصف الثامن حدثت له طفرة مفاجئة في الطول؛ إذ وصل تقريبا إلى نفس الطول الذي أصبح عليه الآن، وحصل على دور علي بابا في الأوبريت المدرسي، وكان ذلك لقدرته على الغناء، ولطول قامته أيضا.
كان قد تعلم قيادة سيارة عمه حين كان عمه يأتي من مدينة بورت هورون. كان عمه يعمل في مجال السباكة، وكان يقايض سيارته بسيارة جديدة كل عامين. وكان يسمح لراسل بقيادة السيارة قبل أن يبلغ السن القانونية للحصول على رخصة القيادة بكثير. ولكن ميريام ماكالبن لم تكن لتدعه يقود شاحنتها إلى أن حصل على الرخصة، فكان يقودها الآن بعربة نقل الخيول ومن دونها، إلى إلميرا، وهاميلتون، وقادها ذات مرة إلى بيتربورو. كانت قيادتها صعبة؛ لأن عربة نقل الخيول كان يمكن أن تنقلب. كانت ميريام تذهب معه في بعض الأحيان، ولكنها كانت تترك له مهمة القيادة.
كان صوته يتغير حين كان يتحدث عن ميريام ماكالبن. فكان يصير متحفظا ونصف هازئ ونصف مستمتع. كان يقول عنها إنها كانت شخصا مخيفا، ولكن لا بأس بها إن كان المرء يعرف كيف يتعامل معها. كانت تحب الخيول أكثر من حبها للناس. وكانت ستصبح متزوجة الآن لو كان لها أن تتزوج بحصان.
لم أكن أتحدث كثيرا عن نفسي ولم أكن أنصت إليه بهذا الحد من الإمعان؛ فقد كان حديثه أشبه بحاجز من المطر السلس الرقيق بيني وبين الأشجار، والضوء والظلال على الطريق، والجدول الذي يتدفق بانسياب، والفراشات، والجزء مني الذي كان يولي انتباهه إلى هذه الأشياء لو كنت بمفردي. كان الجزء الأكبر مني مختفيا، مثلما كان الحال مع صديقاتي في ليالي السبت، ولكن التغيير الآن لم يكن متعمدا وطوعيا إلى هذه الدرجة. لقد كنت شبه منومة مغناطيسيا، ليس فقط بفعل وقع صوته، ولكن بفعل منكبيه العريضين المتألقين في قميص نظيف قصير الأكمام، وعنقه الأسمر وذراعيه الممتلئتين. كان يغتسل بصابون لايفبوي - فقد كنت أعرف رائحته مثلما كان يعرفه الجميع - ولكن كان اغتساله بنفس مستوى اغتسال معظم الرجال في تلك الأيام؛ إذ كانوا لا يعبئون بالعرق الذي سيتراكم في المستقبل القريب. ومن ثم، كان بإمكاني أن أشم تلك الرائحة أيضا، وكذا رائحة الخيول، والألجمة، والحظائر، والتبن بنفس الدرجة المحدودة.
حينما لم أكن معه، كنت أحاول أن أتذكر؛ هل كان وسيما أم لا؟ كان جسده نحيلا نوعا ما، ولكن كان ممتلئ الوجه قليلا، وكانت لشفتيه تقطيبة توحي بالتحكم والسيطرة. وكانت عيناه المتسعتان الزرقاوان الصافيتان تشي بشيء أشبه بسذاجة متعنتة، واحترام بريء للنفس، وكلها أمور ربما لم أكن لأهتم بها كثيرا في شخص آخر.
صفحه نامشخص