في ليالي السبت دائما ما كان ثمة تجمع في الشارع الرئيسي. في ذلك الوقت لم يكن يوجد ما يسمى بالمركز التجاري في أي مكان في البلدة، ولم تتحول ليلة التسوق الكبرى إلى يوم الجمعة إلا بعد الحرب بعدة سنوات. أتحدث عن عام 1944، حين كان لا يزال لدينا بطاقات تموين، وكان ثمة الكثير من الأشياء التي لا يمكنك شراؤها - مثل السيارات الجديدة والجوارب الحريرية - ولكن كان المزارعون يأتون إلى البلدة وبحوزتهم بعض المال، وكانت المتاجر قد انتعشت بعد حالة الركود التي أصابتها خلال فترة الكساد العظيم وكان كل شيء يظل مفتوحا حتى العاشرة مساء .
كان معظم أهل البلدة يتسوقون خلال الأسبوع وفي فترة النهار. وما لم يكونوا يعملون في المتاجر أو المطاعم، فإنهم كانوا يقبعون في المنازل في ليالي السبت يلعبون الورق مع جيرانهم أو يستمعون إلى الراديو. أما المتزوجون حديثا، والمخطوبون، والمرتبطون عاطفيا، فكانوا يتعانقون في دار السينما، أو يتوجهون بسياراتهم، حال استطاعوا الحصول على كوبونات الوقود، إلى إحدى صالات الرقص على شاطئ البحيرة. كان أهل الريف هم من كانوا يستولون على الشارع، وكان المتحررون من الرجال والفتيات من قاطني الريف هم من كانوا يذهبون إلى نيديز نايت آول، حيث كانت منصة الرقص منصوبة فوق أرض وحلة، وكانت كل رقصة تتكلف عشرة سنتات.
وقفت بالقرب من المنصة مع بعض الأصدقاء ممن هم في نفس عمري. لم يكن أحد يأتي ليدفع لأي منا عشرة سنتات، ولا عجب في ذلك. كانت ضحكاتنا تتعالى، وننتقد الرقص، وتسريحات الشعر، والملابس. وأحيانا ما كنا ننعت إحدى الفتيات بالداعرة، أو رجلا بالجني، وإن لم يكن لدينا تعريف محدد لأي من الكلمتين.
التفت نيدي، الذي كان يبيع التذاكر، بنفسه إلينا وقال: «ألا تعتقدن يا فتيات أنكن بحاجة إلى بعض الهواء المنعش؟» ابتعدنا في خيلاء وتبختر، وإلا لكنا سنمل وسنبادر بالرحيل من تلقاء أنفسنا. اشترينا آيس كريم وأعطت كل منا لعقة للأخرى لتجربة النكهات المختلفة، وسرنا عبر الشارع في خيلاء وزهو، دائرين حول زمر المتحدثين، وعبر حشود الأطفال الذين يرش بعضهم بعضا بالماء من نافورة الشرب. لم يكن أحد يستحق أن نعيره اهتمامنا.
لم تكن الفتيات المشاركات في تلك المسيرة من المنتميات إلى الطبقة العليا، كما كانت أمي تقول بنبرة حزينة وساخرة قليلا؛ فلم يكن لدى واحدة منهن في منزلها غرفة مشمسة، أو أب يرتدي بذلة في أي يوم سوى يوم الأحد. فالفتيات من تلك النوعية كن في ذلك الوقت قابعات في البيوت، أو في منازل إحداهن يلعبن لعبة مونوبولي، أو يعددن حلوى الفدج، أو يجربن تصفيفات جديدة للشعر. وكانت أمي تشعر بالأسف لكونها لا تراني مقبولة في هذه الزمرة.
ولكن لم يكن الأمر يسبب لي أي ضيق؛ فبهذه الطريقة كان بإمكاني أن أكون زعيمة وأستمتع بالصخب والثرثرة. لو كان ذلك تنكرا، فقد كان تنكرا أجيده بسهولة، أو ربما لم يكن تنكرا، ولكن مجرد واحدة من الشخصيات المفككة والمختلفة بالكامل التي يبدو أنها كانت تشكلني.
في قطعة أرض خاوية في الطرف الشمالي من البلدة وضع بعض أعضاء منظمة جيش الخلاص لافتاتهم. كان ثمة واعظ وجوقة صغيرة من المنشدين لإنشاد الترانيم والتراتيل، وصبي بدين على الطبلة، وكذا صبي طويل القامة للعزف على الترومبون، وفتاة للعزف على الكلارنيت، وبعض الأطفال الذين لم يبلغوا الحلم بعد مزودين بآلات رق.
كان أفراد منظمة جيش الخلاص من طبقة اجتماعية أقل من الفتيات اللاتي كنت بصحبتهن. فالرجل الذي كان يقوم بالوعظ هو سائق العربة الذي يتولى نقل الفحم، لا شك أنه كان قد اغتسل جيدا، ولكن لا يزال على وجهه آثار غبار رمادية. كانت قطرات العرق تتساقط منه من إجهاد الوعظ، وبدا عرقه وكأنه رمادي أيضا. كانت بعض السيارات تطلق نفيرها لكي تشوش عليه أثناء مرورها. (فعلى الرغم من تبديد الوقود، كان ثمة بعض السيارات التي تقاد، بواسطة بعض الشباب، من بداية الشارع حتى الطرف الشمالي، ومن نهاية الشارع حتى الطرف الجنوبي، مرارا وتكرارا.) كان معظم الناس يمرون به وعلى وجوههم الضيق ولكن مع التزام الاحترام، ولكن البعض كان يتوقف للمشاهدة، مثلما كنا نفعل نحن؛ انتظارا لشيء كي نضحك عليه.
كانت الآلات الموسيقية تستعد لعزف إحدى الترانيم، ورأيت أن الصبي الذي كان يرفع الترومبون هو نفسه عامل الإسطبل الذي كان واقفا في الفناء بينما كانت ميريام ماكالبن تصب علي وابل التوبيخ. ابتسم لي بعينيه حين بدأ في العزف، وبدا أن ابتسامته لم تكن لتذكره إهانتي، ولكن كانت نابعة من سعادة تعذر كبحها، وكأن رؤيتي قد أيقظت لديه ذكرى شيء مختلف كثيرا عن ذلك المشهد؛ سعادة طبيعية.
أخذت الجوقة تغني: «هناك قوة، قوة، قوة، قوة، قوة في الدم.» كانت آلات الرق يلوح بها فوق رءوس العازفين، وانتقلت عدوى البهجة والحيوية إلى المتفرجين، حتى إن معظم الناس قد شرعوا في الغناء معهم بسخرية مرحة. وتركنا أنفسنا لمشاركة الآخرين الغناء.
صفحه نامشخص