توزع هذه العلوم توزيعا متسلسلا، أعني تبعا لنظام يقضي بأن يؤدي كل منها إلى الإتيان بشيء جديد بالنسبة إلى ما سبقه، وبحيث يكون هذا الشيء أسمى وذا قيمة أكبر. فموضوع الرياضة مجرد تماما، وهو ليس متصلا بالواقع بالمعنى الصحيح؛ فالرياضة تدرس الأفكار لا الأشياء. أما العلوم التالية فتدرس أشياء تزداد قيمتها بالتدريج: كالمادة الجامدة أولا، ثم المادة الحية، وأخيرا العقل الإنساني. فإذا ما تتبعنا ترتيب العلوم التي صنفت على هذا النحو، سرنا من الأدنى إلى الأعلى.
ويمكن القول بلغة بعض الفلاسفة المعاصرين إن كلا من موضوعات هذه العلوم المتعاقبة هو «نوع من الارتقاء» بالنسبة إلى سابقه، والمقصود بكلمة «الارتقاء» ظهور حقيقة لها قيمة أكبر، من داخل حقيقة لها قيمة أقل.
ومن المهم أن نلاحظ أن هذا الارتقاء يتوقف على ما يسبقه؛ أي أن الأدنى يتحكم في الأعلى. فالحياة مثلا، تتحكم فيها قوانين المادة الجامدة، والجسم الحي يخضع لقوانين الثقل أو الجاذبية. ولكي يكون في حالة توازن يجب أن يكون الخط العمودي النازل من مركز ثقله داخل الشكل الهندسي الذي يكونه وهو واقف، وإلا سقط، وذلك لأن صفة الحياة لا تكفل له أية ميزة في هذا الصدد.
وهذا يؤدي بنا إلى القول بأن الكائن الحي مثلا يخضع لنوعين من القوانين: هي قوانين الحياة، وقوانين المادة الجامدة. وإذن، فإذا تأملنا مفهومه وجدناه أوسع من مفهوم المادة الجامدة، وبالتالي يكون «ماصدقه» أقل.
9
ولقد عبر «أوجست كونت» - الذي كان يجهل مصطلح المناطقة، وقانون التناسب العكسي الذي عرضناه - عن الفكرة ذاتها بطريقة أخرى فقال «إن أبسط الظواهر، أعني تلك التي تعد أقل تعقيدا من الظواهر الأخرى، هي أعمها بالضرورة.» فلنقل نحن إذن، مستخدمين مصطلح المناطقة: إن العلوم توضع في ترتيب يتناقص فيه ماصدق موضوعاتها ويزداد مفهومها. أما بلغة كونت، فلنقل أنها ترتب ترتيبا تنازليا من حيث البساطة والعموم.
ولقد تأملنا، منذ قليل، حالة خاصة، هي حالة علوم المادة الجامدة بالنسبة إلى علوم الحياة. ولكن نفس الفكرة تنطبق على الصلة بين الرياضة وبقية العلوم، كما تنطبق على الصلة بين علم الفلك وعلم الطبيعة الأرضية؛ إذ إن الأرض نجم، ثم إنها مقر الظواهر الحرارية والكهربائية والضوئية التي تدرس في علم الطبيعة. كذلك الحال في علاقة علم الطبيعة بالكيمياء؛ فالظاهرة الكيميائية تخضع لقوانين علم الطبيعة، وتزيد عليها من جهة أن فيها تفاعلات لها قوانينها الخاصة. وأخيرا، فالطبيعة البشرية إذا اتخذت موضوعا، تشذ على كل قوانين الفلك، وعلم الطبيعة، والكيمياء، وعلم الحياة؛ إذ إن الإنسان كائن أرضي، وجسم جامد، وموصل جيد أو رديء للحرارة والكهرباء، ويمكن أن يتفحم وأن يحترق، وأن تؤذيه الأحماض، وهو كائن حي يهضم ويفرز، وهو فضلا عن ذلك إنسان له مصيره الروحي.
كل حقيقة لها نوعها الخاص بها أي لا يمكن إرجاعها إلى الحقائق السابقة
ومن هذه الملاحظة الأخيرة تتضح لنا الفكرة الفلسفية العميقة التي أوحت بهذا التصنيف: ألا وهي أن الحقائق تتمثل في سلسلة يكون لكل واحدة منها نوعها الخاص بها، أعني لا يمكن إرجاعها إلى الحقائق السابقة عليها.
والواقع أن لدى العلماء ميلا إلى «المذهب المادي» وهو - على حد التعبير الرائع الذي عرفه به «كونت»: «تفسير الأعلى بالأدنى.» على أن العالم ذاته يرى أن كل مرحلة من مراحل الواقع، كالعالم الرياضي (وهو ليس في حقيقة الأمر عالما واقعيا) والعالم الطبيعي، والعالم الكيميائي، وعالم الأحياء، وعالم البشر. كل مرحلة من هذه تعد جديدة كل الجدة بالنسبة إلى المرحلة السابقة عليها. فالمذهب المادي إذن في رأي «كونت»، مضاد للعلم في أساسه.
صفحه نامشخص