كان «جيمس» والبرجماتيون يفخرون «باتساع أفقهم». ولكن الحق أن هذه الروح الفضفاضة تبلغ حدا يؤدي إلى القضاء على كل معنى لكلمة «النافع» عندما كانوا يعرفون الحقيقة عن طريق المنفعة. فالنافع في اللغة المتداولة هو ما يفي بحاجة «حيوية» غير أن البرجماتيين قد أضفوا على كلمة «الحاجة» معاني بلغت من الكثرة حدا لم تعد معه تدل على شيء، حتى ولا كلمة «النافع» ذاتها. فهناك حاجات ترمي إلى حفظ الحياة والعمل على استمرارها. ولكن من الممكن أن نطلق اسم «الحاجة» على ما يعبر عن أكثر الميول الوجدانية تنوعا. فالمرء في حاجة إلى أن يكون محترما، محبوبا، كما أنه في حاجة إلى أن يحب، وإلى أن يرى من يحبهم سعداء، والغيورون والحقودون في حاجة إلى أن يروا الآخرين تعساء وأقل سعادة منهم، والمرء في حاجة إلى الإيمان بوجود الله وخلود النفس وهلم جرا ... وينبغي أن نضيف إلى الحاجات العاطفية الحاجات العقلية: كالحاجة إلى المعرفة وإلى الفهم، أو بمعنى أدق، إلى التعبير عن الظواهر مجتمعة بصيغة بسيطة، ولا شك أن «بوانكاريه» إنما كان يشير إلى ضرورة بساطة الصيغة العقلية عندما كان يتحدث عن «اليسر » باعتبار أنه خليفة الحقيقة أو بديل عنها.
إن «حاجات» الإنسان و«المنافع» التي تناظرها تبلغ من التنوع حدا يجعل كل تعريف للحقيقة بالمنفعة ينتهي آخر الأمر إلى ألا يوضح من طبيعتها أي شيء.
لقد آمن «كبرنك» بحركة الأرض لأنه من الأكثر يسرا أن نفترض أن الأرض تتحرك، ولكن إذا لم يعرف معنى كلمة اليسر على نحو أدق، فعلا يسوغ للمرء أن يقول بمعنى آخر أنه كان «أكثر يسرا له» أن يعترف بأنها لا تتحرك تجنبا لكل عناء؟ (2)
لا جدال في أن الحقيقي نافع على نحو ما، ولكن هذا لا يستتبع القول بأن المنفعة هي أساس لتعريف الحقيقة؛ فالحقيقي نافع لأنه حقيقي، قبل أي اعتبار للمنفعة، ولقد قال تشترتن
Chesterton
ما يشبه الكلمات الآتية تقريبا: «إن المذهب البرجماتي يعرف الحقيقة بأنها ما يفي غير أن أول ما نحتاج إليه عندما نبحث عن الحقيقة هو ألا نكون برجماتيين.» وكان يعني بذلك أن القاعدة الأساسية التي نضعها عندما نشغل أنفسنا بالكشف عن الحقيقة، هي أن نصرف عن كل اعتبار للمنفعة، ولو تطرق الشك إلى نفوسنا، وآمنا بشيء لأننا في حاجة إلى هذا الإيمان، لفقد الإيمان إذن كل قيمة له، ومرة ثانية نقول إن الحقيقي نافع لأنه حقيقي، وليس حقيقيا لأنه نافع.
ولنتصور الحالة العقلية لمريض يقول لطبيبه «لا تقل لي سوى ما أحتاج إلى تصديقه.» ألن يكون قوله هذا توسلا إليه أن يكذب؟ وهكذا ينتهي الأمر بالمذهب البرجماتي إلى أن يكون «نظرية الأكذوبة الحيوية، التي تقوم على أساس من نزعة الشك.»
نقد النزعة الإنسانية:
تزهو النزعة الإنسانية بأنها تأتي بسيكولوجية للعقل، غير أن هذه السيكولوجية باطلة، حقا إنها تجيد وصف «العمليات» التي نكون بها أحكامنا، وتقول بحق إن الأحكام لا يمكن فصلها عن السياق العقلي وعن الجو الداخلي، وعن المقاصد التي توجهها، ولكن عندما يحكم المرء بحق، ألا يكون ثمة قصد يسيطر على كل شيء، ويوجه النفس بأسرها، وأعني به قصد إجادة الحكم، والتفكير طبقا للحقيقة؟ هذا القصد هو الذي تتجاهله النزعة الإنسانية، لأنها تخلط بينه وبين قصد آخر أيا كان، كقصد اللهو أو الكذب، أو الإيذاء.
إن سيكولوجية العقل تدرس قصدا واحدا بالذات وهو «قصد الموضوعية» فإن أبى مذهب أن يميز هذا القصد عن كل ما عداه، كان معنى ذلك أنه يأبى أن يضفي على الحقيقة قيمة فريدة كبرى، وعندئذ فلا وجود للحقيقة ولا وجود لشيء ما، بل لا وجود لعلم النفس، ما دام علم النفس الصحيح لا ينطوي عندئذ على شيء أكثر مما ينطوي عليه علم النفس الباطل.
صفحه نامشخص