فقياس الشيء هو في ذاته معرفة له، والتعبير عن الواقعة التي نقيسها بصيغ رياضية، هو في ذاته فهم لها.
فالواقعة العلمية إذن واقعة حورتها الرياضيات فلنوضح باختصار العمليات التي تمر بها: (1) إن الواقعة، كما قلنا، تقاس أولا. ولا جدال في أن العلم قد أحرز تقدما كبيرا باختراع الآلات التي تزيد من قوة الإدراك الحسي، كالمنظار الفلكي والمجهر، أو تلك التي تسجل هذا الإدراك، كجهاز التصوير الفوتوغرافي والسينما، أو تلك التي تحلله، كجهاز تحليل الطيف، وهو الذي خلف، وكمل المنشور (
prisme ) الذي حلل به نيوتن ضوء الشمس. ولكن ليس هذا هو الأمر الأساسي. إذ إن هذه الآلات إذا كانت تزيد من قدرة حواسنا، فإنها لا تغيرها، والمهم هو اختراع الطرق الفنية للقياس، الذي تطور فأصبح علما للقياس
métrologie . فعلم الحرارة يقتضي استخدام ميزان الحرارة (الترمومتر)، وقد ظهر علم الكهرباء عندما حل محل علم الطبيعة المسلي الخاص بالآلات التي تداعب الجسم بهزات كهربائية، علم صارم مبني على استخدام الكشاف الكهربائي ومشتقاته. (أ) تصحيح الواقعة (2) كذلك تصحح الوقائع. والحق أن محال الحديث عن وسائل التصحيح التجريبي واسع جدا. فمن المعروف أن أية قراءة لأي جهاز، مهما كانت أمينة، لا تقبل أبدا على علاتها؛ بل يجب أن تمر بعمليات حذف متعددة، تعدلها على نحو لا يظل فيه سوى باق
residu
واحد. ذلك لأن الإدراك الحسي المعتاد محدد بطريقة غير شعورية، وهو يزودنا بمعلومات عن جسمنا، وعن شخصيتنا المعنوية، وعن المؤثرات التي نخضع لها من جميع المصادر، مثلما ينبئنا تماما بمعلومات عن الموضوع. ولنضرب لذلك مثلا: فإذا أرجعنا ملاحظة فلكية إلى أبسط مظاهرها، وأردنا فقط أن نحدد الساعة التي عبر فيها نجم بمحور المنظار المكبر، وجدناها تتوقف على سرعة استجابتنا، ثم إنها تنصب على شعاع من الضوء يصل إلينا من النجم، ويستغرق وقتا حتى يصل إلينا، ويتعرض لكل أنواع التحوير والانكسار. ولكي يكون لنا الحق في تشبيهه بخط هندسي مستقيم يربط فورا بين عيننا وبين الموقع الحقيقي للنجم في اللحظة المطلوبة، يجب أن نقوم بسلسلة من الحسابات هي في حقيقة الأمر استدلالات، تبدأ من الواقعة وتنتهي إلى الفكرة. فتصحيح الملاحظة يعني استبدال فكرة معينة عن الواقعة بالواقعة نفسها. (ب) تفسير الواقعة (3) كذلك تفسر الواقعة. وقد بين بوانكاريه في تحليل رائع ذاعت شهرته، كيف يمكن القول في التجربة الكهربائية إن «التيار يمر».
16
فذلك لا يكون إلا بالاستعانة بكل المعلومات المكتسبة، بحيث تقف هذه المعلومات حول الملاحظ مؤيدة له، وتقرر هذه الملاحظة معه، إن جاز هذا التعبير. ففي المثال الذي أورد «بوانكاريه» يكون الشيء الذي يراه الملاحظ، هو تغير موضوع النقطة المضيئة، وهذا التغير يعني أن الجلفانومتر ذا المرآة يؤدي عمله، وبالتالي أن المغناطيس والملف الكهربائي قد أثر كل منهما في الآخر ... إلخ. فتفسير ملاحظة هو بدوره، وعلى نحو آخر، الاستعاضة عن الواقعة بفكرة. (ج) اختيار الواقعة (4) ثم إن الواقعة تختار: إذ إن عددا ضئيلا من الوقائع التي تحدث حولنا بلا انقطاع هو وحده الذي يدخل في مجال العلم. وليس ذلك راجعا إلى أن عدد هذه الوقائع أكبر من اللازم؛ بل يرجع أيضا إلى أنه يندر أن تكون لهذه الوقائع أهمية في الموضوع. فالواقعة هي واقعة معملية أو واقعة ملاحظة، أي أنها واقعة منتقاة، فما شروط استبقائنا لها؟ إننا نستبقيها إذا كانت تتم عن فكرة، وعندئذ توصف بأنها «بسيطة»، والحق أنه إذا كان علم الطبيعة الرياضي قد بدأ بالفلك، فذلك لأن النجوم - لحسن الحظ - قد بسطها بعدها عنا، فلا ندرك منها في بداية الأمر إلا نوعا من العلاقات الهندسية.
17
والكثيرون يدهشون عندما يجدون العلماء يرفضون معظم الوقائع التي تعرض عليهم، فالمؤمنون بتحضير الأرواح مثلا يكدسون وقائع الاتصال الروحي عن بعد
صفحه نامشخص