وعلى أية حال، فالعلم يستهدف المعرفة؛ إذ يحصي العالم الذرات ويقيس أبعاد النجوم، ويحسب عمر الأرض. أما القائم بالتطبيق الفني، أي المهندس، فيحاول الوصول إلى كشوف تزيد من رخاء الإنسان وقوته، وذلك باستخدام النتائج التي توصل إليها العلماء في معاملهم في أغلب الأحيان. فالتمييز بين الاثنين واضح كل الوضوح.
والذي يهمنا وحده هنا هو العلم بمعنى الكلمة.
حقا أن من العسير أن نفصله عن الأساليب الفنية فصلا تاما؛ إذ إن المصنع يشتغل من أجل المعمل، بمعنى أنه يزوده بأجهزة عديدة (كالآلات الكهربائية والعدسات الفلكية) وهي أجهزة يحتاج صنعها إلى مقدرة صناعية غير ضئيلة. وفضلا عن ذلك فالمصنع هو - بمعنى ما - معمل ضخم للتحقيق التجريبي، وللكشف في كثير من الأحيان. فإذا كنا على يقين من صحة العلم، فإن قدرا كبيرا من ذلك اليقين يرجع إلى أن ذلك العلم قد ثبتت صحته بالتطبيقات الصناعية. فالقوة تثبت العلم؛ ولكن العلم ليس هو القوة. (2) الفلك، وعلم الطبيعة، والكيمياء
سوف نفرق، بناء على المصطلحات التقليدية، بين علم الفلك وعلم الطبيعة والكيمياء، وإن يكن من المحال أن تنسب إلى هذه التفرقة قيمة مطلقة، فنحن نعلم أن هذه العلوم الثلاثة قد أصبحت متداخلة في أيامنا هذه.
ومع ذلك فسوف تصبح نظرتنا إلى علم الطبيعة الرياضي أكثر وضوحا إذا ما عدنا بها إلى الوراء قليلا، أي إلى العهد الذي كان علم الفلك وعلم الطبيعة والكيمياء فيه علوما متميزة. وكما قال ديكارت، «فإننا ندرك طبيعة هذه العلوم على نحو أكثر يسرا إذا تأملناها، وهي تظهر على هذا النحو شيئا فشيئا، مما لو تأملناها وهي تامة كاملة.» (1)
فعلم الفلك الرياضي قد كشفه اليونانيون، وقد أراد أفلاطون نفسه أن يحوله إلى نوع من الميكانيكا السماوية.
2
والواقع أن مشكلة التفسير الفلكي بالنسبة إلى اليونانيين كانت تقتصر على افتراض وجود حركات «حقيقية» أرادوا أن تكون دائرية مطردة، حتى يمكن تفسير المظاهر البادية في السماء، لأن الدائرة التي تعبر بحركة مطردة كانت تبدو في نظرهم الشكل الميكانيكي الوحيد الذي يمكن أن يعقل حقيقة. ولا شك أن ميتافيزيقا (الفرجار) هذه - إذا أجيز لنا هذا التعبير - كانت ضيقة الأفق إلى حد ما، ولكن توجيهها كان صحيحا إلى حد بعيد. ثم أدى تقدم الهندسة إلى تقدم علم الفلك، فعندما أصبح الشكل البيضاوي معقولا تماما، على غرار الدائرة، وعندما أمكن تحويل عدد كاف من الأقواس بعضها إلى بعض، عندئذ حدث ما يسمى بانقلاب «كبرنك» وأمكن الاهتداء إلى قوانين كبلر. وإنا لنعلم أن كبرنك (1473-1543م) قد اقترح في كتابه المسمى بالدورات السماوية
Les révolutions célestes (والذي ظهر في نفس العام الذي توفي فيه) تغيير أساس ملاحظتنا الفلكية، وذلك بأن تصبح الشمس مركزا رياضيا للكون بدلا من الأرض، وقد صاغ كبلر القوانين الثلاثة التي تخضع لها حركة كوكب المريخ حول الشمس، ثم طبقت هذه القوانين خلال القرن السابع عشر على جميع النجوم وتوابعها. كما استغل كبلر الملاحظات الدقيقة التي قام بها أستاذه «تيكوبراهي
Tycho Brahé ». (2)
صفحه نامشخص