فلذلك لا يتطرق إليها الفساد مع أن الحق المفيض لها فياض على الإطلاق لا ينقطع فيضه عما هو مستعد له. ألا ترى أن مواد أجسام هذه النشأة كلما كانت أقرب إلى الكثافة كانت أقرب إلى قبول التغير والفساد ، وأشد استعدادا لقبول الصور المتبدلة المتبددة الكائنة الفاسدة ، كما في العنصريات. وكلما كانت أقرب إلى الصفاء واللطافة كانت أبعد من الفساد وأكثر استعدادا للصور الكاملة التامة [الآبية] (1) عن التغير والزوال ، كما في الفلكيات وموجودات عالم البرزخ والمثال ، وكذلك صورها كلما كانت أتم وأوفر حظا من الوجود وأكمل آثارا ، كانت أحفظ وأبعد من الفساد ومن طروء (2) الضد عليها ، كما في هذه أيضا ، وكلما كانت أقل قسطا من الوجود وأنقص آثارا كانت أقرب إليه ، كما في الحوادث الكائنة الفاسدة أيضا ، وهذا هو القول في الجسمانيات من موجودات النشأة الاخروية ، على أن كثيرا منها مما ليست لها مادة بل هي روحانيات مجردة عن المواد كالسعادات الروحانية العقلية ، وكذا الشقاوة الروحانية ، فإنها إدراكات روحانية ، مدركاتها مجردات عن المواد ، كذا المدرك لها. والمجردات لا يطرأ عليها الفساد ، حيث إن الفساد تابع لوجود مادة تقبله كما هو المقرر عندهم والمفروض هنا عدم المادة وأن صورها ذواتها ولا ضد لها. ألا ترى أن المعاني الكلية حيث كانت مجردة عنها ، كانت دائمة أبدا غير هالكة مطلقا ، وكذا الأعيان المجردة كالعقول لو قلنا بها كذلك أيضا ، إذ لا مادة لها وصورها ذواتها ولا ضد لها وسيأتي تمام تحقيق ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى.
وكذلك كثير منها مخلوقة بلا مادة وحادثة من غير مدة ، بل بمحض التصور ومجرد التخيل ، كما شهدت به الآيات والأخبار ، قال تعالى :
( لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون ). (3)
( لهم ما يشاؤن عند ربهم ذلك جزاء المحسنين ). (4)
وهذا والله أعلم إما مبني على ما ذكره بعض الحكماء من أن الله تعالى خلق النفس الإنسانية مجردة عن المادة وجعل لها اقتدارا على إبداع الصور الغائبة عن الحواس بلا مشاركة المواد ، وأن ليس ذلك بممتنع كما في إنشاء الإبداعيات عندهم ، فعلى هذا
صفحه ۱۲۵