Manhaj al-Tashri‘ al-Islami wa Hukmatuhu - Within 'Lectures of Al-Shinqiti'
منهج التشريع الإسلامي وحكمته - ضمن «محاضرات الشنقيطي»
پژوهشگر
علي بن محمد العمران
ناشر
دار عطاءات العلم (الرياض)
شماره نسخه
الخامسة
سال انتشار
١٤٤١ هـ - ٢٠١٩ م (الأولى لدار ابن حزم)
محل انتشار
دار ابن حزم (بيروت)
ژانرها
المحَاضرة الثالثة
منهج التشريع الإسلامي وحِكمتُه
_________
قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: قال المحقق في المقدمة: محاضرة ألقاها الشيخ في مفتتح الموسم الثقافي بالجامعة الإسلامية عام ١٣٨٤.
1 / 49
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد؛ فاعلم أولًا أن "المنهج" في اللغة العربية هو الطريق الواضح، كالمنهاج، ومنه قوله تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ [المائدة: ٤٨]. و"الإسلام" في اللغُة العربية: الانقياد والإذعان. تقول العرب: أسْلَمَ لله إذا انقاد وأذعن وأطاع. ومنه قول زيد بن عَمْرو بن نفيل العدوي مؤمن الجاهلية:
وأسلمت وجهي لمن أسلمت ... له الأرض تحمل صخرًا ثقالا
دحاها فلما استوت شدَّها ... سواء وأرْسَى عليها الجبالا
وأسلمتُ وجهي لمن أسلمت ... له المزن تحمل عذبًا زلالا
إذا هي سيقت إلى بلدة ... أطاعت فصبت عليها سجالا
وأسلمتُ وجهي لمن أسلمت ... له الريح تصرف حالا فحالا
والإسلام في الإصطلاح الشرعي هو: الانقياد والإذعان لله تعالى، بامتثال أمره واجتناب نهيه من جميع الجهات الثلاث، أعني: إذعان القلب وانقياده بالاعتقاد والقصد، وإذعان اللسان وانقياده بالإقرار، وإذعان الجوارح وانقيادها بالعمل.
والإسلام في الاصطلاح الشرعي الحقيقي يطلق على ما يطلق عليه الإيمان في اصطلاح الشرع. وقد قال تعالى ﴿فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ
1 / 51
الْمُؤْمِنِينَ (٣٥) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيرَ بَيتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٦)﴾ [الذاريات: ٣٥، ٣٦].
أما الفرق بينهما في قوله تعالى: ﴿قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا﴾ [الحجرات: ١٤]. فلأن الإيمان المنفي في هذه الآية هو الإيمان الشرعي، والإسلام المثبت فيها في الحقيقة هو الإسلام اللغوي، وهو الانقياد بالجوارح للعمل مع أنه غير الإسلام الشرعي الحقيقي الصحيح؛ لأن مصدره القلب، والله يقول في هذه الآية: ﴿وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ [الحجرات: ١٤]. فعدم دخول الإيمان في قلوبهم يدل على أن الإسلام المثبت لهم لغوي فقط؛ لأنه شكلي صوري لا حقيقي؛ لأن القلوب لم تنطو عليه كما ترى.
و"التشريع" هو وضع الشرع، والشرعُ هنا هو النظام الذي وضعه خالق السموات والأرض على لسان سيد ولد آدم ﵊ ليسير عليه خلقه، فيحق لهم به سعادة الدارين على أكمل الوجوه وأحسنها.
وقد فهمت من تفسير الإسلام أنه نوعان وهما: أنه الاعتقاد بالقلب والعمل بالجوارح، ومنها اللسان؛ لأن القول فعل اللسان؛ كما قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ﴾ [الأنعام: ١١٢]. فتراه أطلق الفعل على زخرف القول.
أما الاعتقاد فقد دلَّ استقراء القرآن أنه في حق الله تعالى ثلاثة أنواع:
١ - الأول: اعتقاد أنه واحد في ربوبيته جل وعلا، فهو الخالق
1 / 52
الرازق، المحيي المميت، النافع الضار، المدبر لشئون أهل السموات والأرض، الذي لا يقع شيءٌ كائنًا ما كان إلا بمشيئته جل وعلا.
وهذا النوع جبلت عليه فطر البشر في الأغلب. قال تعالى في الكفار: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ [الزخرف: ٨٧]. وقال تعالى: ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ﴾ [يونس: ٣١]. والآيات بمثل ذلك كثيرة جدًّا، ولم ينكر هذا النوع من التوحيد الذي هو توحيده جل وعلا في ربوبيته إلّا اثنان:
١ - رجلٌ بالغ من الجهل والغباوة ما يجعل درجته في الفهم والعقل أقل من درجة البهائم، كمن قال الله فيهم: ﴿أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إلا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (٤٤)﴾ [الفرقان: ٤٤]. وقال فيهم: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (١٧٩)﴾ [الأعراف: ١٧٩]. بل كثير من هؤلاء الذين فضل الله عليهم الأنعام يقرون بربوبيته جل وعلا، فظهر أن الذي ينكر ذلك منحطٌّ عن درجة الأنعام بمراتب.
٢ - ورجل مكابر جاحد ما هو عالم بأنه حق كفرعون، فإن قوله فيما ذكر الله عنه: ﴿قَال فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالمِينَ (٢٣)﴾ [الشعراء: ٢٣]. وقوله: ﴿قَال فَمَنْ رَبُّكُمَا يَامُوسَى (٤٩)﴾ [طه: ٤٩]. تجاهلُ عارفٍ بأنه عبد مربوب لرب العالمين، كما دل عليه قوله تعالى: ﴿قَال لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إلا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ ...﴾ الآية [الإسراء: ١٠٢]، وقوله
1 / 53
تعالى: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا﴾ [النمل: ١٤].
النوع الثاني: هو توحيده في عبادته، وهذا النوع هو الذي كانت فيه المعارك بين الرسل صلوات الله وسلامه عليهم وبين أممهم كما هو مفصل في القرآن العظيم في سور كثيرة وقَصَصٍ كثيرة.
وهذا النوع هو معنى لا إله إلا الله، وهي متركبة من نفي وإثبات. فمعنى نفيها: خلع جميع المعبودات غير الله تعالى في جميع أنواع العبادات كائنة ما كانت. ومعنى الإثبات منها: إفراد الله وحده جل وعلا بجميع أنواع العبادات بإخلاص على الوجه الذي شرعه.
النوع الثالث: هو توحيده تعالى في أسمائه وصفاته. وضابط هذا النوع هو تنزيه الله جل وعلا عن مماثلة الخلق في شيء من ذواتهم أو صفاتهم أو أفعالهم. والإيمان بكل ما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله ﷺ على نحو: ﴿لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١١)﴾ [الشورى: ١١] كما بيناه بالآيات القرآنية في محاضرة قبل هذه.
أما النوع الثاني من أنواع الإسلام: الذي هو ما سوى الاعتقاد، وهو العمل فهو شامل لأصناف كثيرة.
أ- منها ما هو من أفعال القلوب، كالإخلاص بالقلب في جميع الأعمال وحسن النية.
ب - ومنها ما هو باليد.
ج - ومنها ما هو باللسان.
1 / 54
د- ومنها ما هو بالفرج .. إلخ.
وكذلك انتهاك الأوامر الإسلامية وعدم امتثالها (أي شامل لأصناف كثيرة).
أ- منها ما هو من أفعال القلب كالكِبْر والعُجْب والحسد والرياء ونحو ذلك.
ب- ومنها ما هو من أفعال اللسان، ككلمة الكفر، وكالغيبة والنميمة ونحو ذلك.
ج- ومنها ما هو من أفعال اليد، وهو جميع أنواع البطش باليد فيما لا يجيزه الشرع الكريم، كالقتل والسرقة ونحو ذلك.
د- ومنها ما هو من أفعال الفروج، كالزنا واللواط .. إلخ، وهو واضح.
وقد بين النبي ﷺ في حديث ابن عمر المتفق عليه أن الدعائم العظام والأركان الكبار التي بُني عليها التشريع السماوي خمس وهي:
* شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.
* وإقام الصلاة.
* وإيتاء الزكاة.
* والحج.
* وصوم رمضان.
1 / 55
أ- أما الشهادتان، فهما متضمنتان لكل ما يجب اعتقاده في الله جل وعلا وفي رسوله ﷺ، وما يجب لله جل وعلا من الحقوق الخاصة به وما يجب للرسول ﷺ. كما هو مفصل في كتاب الله وسنة نبيه ﷺ.
ب- وأما الصلاة. فهي أعظم دعائم الإسلام بعد الشهادتين، وقد فرضها الله على نبيه فوق سبع سماوات ليلة الإسراء والمعراج، وقد جعلها دون غيرها من الأركان يتكرر رجوعها في كل يوم وليلة خمس مرات لعظم شأنها؛ لأن المصلي يقوم في اليوم والليلة خمس مرات يناجي خالق السموات والأرض، ومناجاته جل وعلا تستلزم أقوالًا وأفعالًا لائقة بذلك المقام.
ولذلك علمه الله جل وعلا في أعظم سورة من كتابه وهي (الفاتحة) التي هي السبع المثاني والقرآن العظيم علمه فيها كيف يناجي خالق السموات والأرض بما هو لائق به وعلمه كيف يسأل ربه حاجته، فأوجب عليه أن يبتدئَ قراءته بقوله: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالمِينَ (٢) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (٣) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة: ٢ - ٤]. فحمد ربه وأثنى عليه بجميل صفاته، ومجَّدَه ووحَّده في ربوبيته بقوله: ﴿رَبِّ الْعَالمِينَ﴾ [الفاتحة: ٢] وفي أسمائه وصفاته بقوله: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (٣) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ ثم علمه توحيده في عبادته بقوله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ لأن معناه لا نعبد إلا إياك وحدك؛ لأن تقديم المعمول يدل على الحصر كما هو مقرر في الأصول والمعانى. وعلمه الاستعانة بربه وإظهار الضعف والعجز بين يديه بقوله: ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾.
ولما أثنى على ربه بما علمه أحسن ثناء، وخضع له به أكمل
1 / 56
خضوع، وأفرده بالعبادة والقصد وأخلص له في ذلك أكملِ إخلاص= علَّمَه كيف يسأله جل وعلا حاجته بقوله: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيهِمْ﴾.
وهذا الدعاء القرآني شامل لخير الدنيا والآخرة. وقد ثبت في "صحيح مسلم" من حديث أبي هريرة ﵁ ما لفظه:
"فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: قال الله تعالى: قسمتُ الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالمِينَ (٢)﴾ قال الله: حمدني عبدي وإذا قال: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ قال الله تعالى: أثنى علي عبدي. وإذا قال: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾. قال: مجدني عبدِي. وقال مرة: فوَّض إليَّ عبدي. فإذا قال: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥)﴾ قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدِي ما سأل. فإذا قال: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيهِمْ غَيرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (٧)﴾. قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل".
فيكفي المصلي شرفًا وعلوًا ونبلًا لما يرجو من خير الدنيا والآخرة أن الله جل وعلا قسم هذا الركن الأعظم من أركان الإسلام بينه جل وعلا وبين المصلي. فما أعظم شأنها من قسمة! وقد وعَدَه أن له ما سأل، وهو جل وعلا لا يخلف وعده.
ج - وأما الصوم، ففيه رياضة عظيمة للنفوس وإعانة عظيمة على تقوى الله تعالى، كما أشار جل وعلا إلى ذلك في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ
1 / 57
تَتَّقُونَ (١٨٣)﴾ [البقرة: ١٨٣]. فقوله ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٨٣)﴾ بعد قوله: ﴿كُتِبَ عَلَيكُمُ الصِّيَامُ﴾ دليل واضح على ذلك. وقد زاده النبي ﷺ إيضاحًا بقوله: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أحصن للفرج وأغض للبصر. ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وِجَاء".
د- وأما الحج، فقد أشار الله لبعض فوائده بقوله: ﴿لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ ...﴾ [الحج: ٢٨] وضرب بعض العلماء له مثلًا فقال -ولله المثل الأعلى-: إن مَلِك الملوك وهو الله جل وعلا عيَّن بيتَه في مكة المكرمة -حرسها الله تعالى- وبقية مواضع النُّسُك كعرفات ومزدلفة ومنى للوفود، يَفِدُون إليه في تلك الأمكنة، فيرفعون إليه حوائجهم فيقضيها. فالحجيج كأنهم الوافدون إلى الملك الحق لِيُحْسِن وفادتهم ويعطيهم أسنى الجوائز وأعظمها، كما قال تعالى: ﴿لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ﴾. وقال ﷺ: "والحج المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة". وقال: "من حجَّ فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه".
ومن حكمة اجتماع المسلمين من أقطار الدنيا كل سنة؛ ليتعارفوا ويستفيد بعضُهم من بعض، ويتبادلون الرأي في حل مشاكلهم، إلى غير ذلك.
هـ - وأما الزكاة، فهي مواساة كريمة للفقراء والمحاويج، أشار الله تعالى إلى بعض فوائدها بقوله: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾ [التوبة: ١٠٣]. وإنما أشرنا إلى حكم هذه الأركان إشارة خاطفة؛ لأن المقام لا يتسع للبسط فيها، ولا يخفى أن الركن الأكبر الذي هو توحيد الله بأنواعه، المستلزم إفراده بالعبادة وحده= هو
1 / 58
منتهى التحرر من الرق والعبودية للمخلوقين. ومن جملتهم النفس والهوى والشيطان.
كفانا الله وإخواننا المسلمين شر ذلك كله، وسنتكلم الآن إن شاء الله على منهج التشريع وحكمه.
اعلم أن طريق تشريع الله دينه لخلقه فيها من الحِكَم والأسرار من جهات شتى ما لا يحيط بعلمه إلا الله جل وعلا وحده، وسنذكر إن شاء الله من ذلك أمثلة هنا ليستدل بها العاقل على غيرها.
فمن تلك الحكم البالغة في كيفية التشريع أنه جل وعلا يشرع أحكام دينه تدريجيًّا لتسهيل ذلك على النفوس التي ألِفَت ما يضاد ذلك التشريع.
والتدريج المذكور نوعان:
١ - تارة يكن في أحكام مختلفة.
٢ - وتارة يكون في حكم واحد إذا كان التكليف به مما فيه مشقة على من اعتاد خلافه.
أ- فمن أمثلة النوع الأول: التدريج في تشريع الدعائم الخمس التي بُني عليها الإسلام. فإن الله شرع منها أولًا شهادة ألا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. ومكث ﷺ زمنًا في مكة المكرمة -حرسها الله- لا يدعو إلا لعبادة الله وحده، ثم بعد ذلك شرع له الله الصلوات الخمس المكتوبة ليلة الإسراء والمعراج. والتحقيق أنهما في ليلة واحدة. وعن الزهري وعروة: أن الإسراء المذكور كان قبل هجرته بسنة، وعن
1 / 59
السدي أنه كان قبلها بستة عشر شهرًا. قال الحافظ ابن كثير ﵀ في "تاريخه": وعلى قول السدي يكون الإسراء في شهر ذي القعدة. وعلى قول الزهري وعروة يكون في ربيع الأول.
وذكر ﵀ عن جابر وابن عباس أن الإسراء كان في ربيع الأول، وأن الحافظ عبد الغني المقدسي اختار أنه في ربيع الأول. وبذلك تعلم أن ما يفعله العوام في رجب بناءً على أن الإسراء كان ليلة السابع والعشرين منه بدعة مبنية على باطل. وإنما قلنا: إنها بدعة لأن النبي ﷺ لم يفعلها، ولم يأمر بها هو ولا خلفاؤه الراشدون والخير كله والهدى في اتباعه هو وخلفائه الراشدين، مع أنه لم يثبت من طريق صحيح ولا حسن أن الإسراء كان في رجب. والوارد في ذلك لا أصل له.
ثم بعد ذلك فرضت الزكاة والصوم في سنة واحدة وهي سنة اثنتين من هجرته ﷺ.
وقال بعض أهل العلم: إن الصوم فرض في شعبان منها قبل وقعة بدر.
وقال بعض أهل العلم: إن الزكاة فرضت في مكة قبل الهجرة لذكر الزكاة في سورة مكية معروفة.
ثم فرض الحج، واختلف في وقت فرضه، فجزم الشافعي ﵀ بأنه فرض في عام ست، واستدل لذلك بأن قوله تعالى: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ [البقرة: ١٩٦] نزل
1 / 60
في عمرة الحديبية حين صد المشركون رسول الله ﷺ وأصحابه، وذلك في ذي القعدة من سنة ست بلا خلاف. ومن هنا أخذ الشافعي ﵀ أن وجوب الحجِّ على التراخي. قال: إنه فُرِض سنة ست والنبي ﷺ لم يحج بعد فرض الحج إلا سنة عشر بإجماع المسلمين. وخالفة جمهور العلماء منهم الأئمة الثلاثة فقالوا: بل يجب فورًا ولم يفرض الحج إلَّا في عام تسع، واستدلوا بأن الحجَّ إنما فُرِض بقوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالمِينَ (٩٧)﴾ [آل عمران: ٩٧]. وهو من صدر سورة آل عمران وهو نازل في وفد نجران وهم من القادمين عام الوفود. قالوا: ومما يوضح ذلك أن النبي ﷺ صالحهم على أداء الجزية. والجزية إنما نزلت في سورة براءة عام تسع.
فإن قيل: لم تزل حجة الشافعي قائمة في أن وجوب الحج على التراخي؛ لأنكم وافقتم على أنه فُرِض عام تسع وهو ﷺ لم يحج عام تسع بل أرسل أبا بكر ﵁ حاجًّا بالناس وأتبعه علي بن أبي طالب ﵁ ينادي في موسم الحج بسورة براءة. "وألا يحج بعد العام مشرك وألا يطوف بالبيت عريان".
فالجواب من قبل الجمهور أنهم يقولون: وجوبُ الحجِّ على الفور. وهو عام تسع مفروض إلا أن النبي ﷺ منعه من المبادرة إلى الحج عام تسع عُذر شرعي صحيح، وهو أنه في عام تسع لم يمكن منع المشركين من الحج ولا منع الطائفين عُراة فَكَرِه ﷺ مخالطتهم على ذلك الحال، ولذلك صرَّح الله بمنعهم بعد ذلك العام الذي هو عام
1 / 61
تسع، وذلك في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا﴾ [التوبة: ٢٨]. وأشهر الإمهال الأربعة المذكورة في قوله: ﴿فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ﴾. لم تنقض إلا بعد الحجِّ من تلك السنة، فلهم المُهْلة في ذلك الموسم من تلك السنة التي هي سنة تسع. وأظهر الأقوال أن مبدأ تلك الأشهر من وقت النداء بالبراءة من المشركين، وذلك يوم الحج الأكبر، كما يدل على ذلك قوله تعالى: ﴿وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ﴾ [التوبة: ٣]. فأول عامٍ أمكنه فيه الحج صافيًا لا توجد فيه مناكر من طواف المشركين عراة، هو عام عشر، فبادر فيه إلى الحج.
قالوا: وأما آية ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ النازلة سنة ست فهي إنما تدل على وجوب إتمامه بعد الشروع فيه، ولا تدل على وجوبه ابتداء؛ إذ لو كانت دليلًا صريحًا على وجوبه ابتداء، لما أمكن خلاف أهل العلم في وجوب العمرة؛ لأنها قرينة الحج في آية ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ [البقرة: ١٩٦] المذكورة.
ومثال النوع الثاني: وهو ما كان التدريج فيه في حكم واحد إذا كان التكليف به فيه مشقة بتشريع القتال والصوم وتحريم الخمر، فإن القتال فيه مشقة على النفوس لما يستلزمه من إنفاق الأموال وتعريض المُهَج للتلف. فالمجاهد عند التقاء الصفوف والتحام القتال لا يخفى أن حياته في أعظم الخطر.
ولذا كان الحاضر صف القتال عند المالكية ومن وافقهم محجورًا
1 / 62
عليه، كالحَجْر على المريض مرضًا مَخُوْفًا، ولأجل هذا لم يُفرض الجهاد مرةً واحدة، بل إنما فُرِضَ تدريجًا على ثلاث مراحل. فأذن فيه أولًا من غير إيجاب بقوله تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩)﴾ [الحج: ٣٩] ثم لما استأنست النفوس به بعد الإذن فيه أُمِروا بقتال من قاتلهم دون من لم يقاتلهم بقوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (١٩٠)﴾ [البقرة: ١٩٠] فلما استأنست النفوس بالقتال ومارسته وهان عليها فرض فرضًا جازمًا باتًا بقوله: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ﴾ [التوبة: ٥] وقوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً﴾ [التوبة: ٣٦].
ومعلوم أن بعض أهل العلم يقول في آية: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ غير ما ذكرنا، ولكن ما ذكرنا اختاره غير واحد من العلماء.
وأما الصوم، فلا يخفى أنَّ كفَّ النفس عن شهوة البطن والفرج فيه مشقة على من لم يَعْتَدْه ولذلك شرع الصوم أيضًا تدريجًا. فكانوا في أول الأمر مخيرين بين الصوم وبين الفطر والإطعام، كما دلَّ عليه قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ [البقرة: ١٨٤] على أظهر التفسيرات وأظهر الأقوال في ذلك.
ثم لما استأنستِ النفوسُ بالصوم وأَلفَتْه أوجب إيجابًا جازمًا باتًّا بقوله تعالى: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ [البقرة: ١٨٥].
1 / 63
وبعض أهل العلم يقول: إن مراتب تدريج الصوم ثلاث:
١ - كان أولًا يجب صوم يوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر، ثم أوجب صوم رمضان سنة اثنين ثم وقع فيه التدرج الذي ذكرنا.
وأما الخمر، فإن من اعتادها يصعب عليه تركها -قبحها الله- ولذلك لما أراد الله أن يشرع تحريمها شرعه تدريجًا على ثلاث مراحل؛ أنزل فيها أولًا آية البقرة المنبهة على بعض معايبها وما فيها من الإثم وهي قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ [البقرة: ٢١٩]، ثم استأنست النفوس بأن فيها إثمًا كبرًا وأن إثمها أكبر من نفعها= شرع الله تحريمها في بعض الأوقات دون بعض، فحُرِّمت عليهم في أوقات الصلاة، ومعنى ذلك أنهم حُرِّم عليهم شربها في وقت يَقْرُب من وقت الصلاة بحيث يدخل وقت الصلاة والشارب لم يصحُ. فصاروا لا يشربونها إلا في وقتين، لأن الشارب فيهما يصحو قبل وقت الصلاة وهما بعد صلاة الصبح وبعد صلاة العشاء. وذلك بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾ [النساء: ٤٣].
فلما استأنست النفوس بتحريمها حُرِّمت تحريمًا جازمًا باتًّا في غزوة بني النضير بقوله تعالى في سورة المائدة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٩٠) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَينَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (٩١)﴾ [المائدة: ٩٠، ٩١]
1 / 64
وفي هذه الآية الكريمة تحريم الخمر على أكمل الوجوه وأبلغها كما أوضحناه في غير هذه المحاضرة، فهذه أمثلة من حكم الله البالغة في كيفية التشريع.
ثم إنَّا نريد الآن أن نذكر الحكم التي يشتمل عليها تشريع خالق السموات والأرض.
اعلم أولًا أن الحكمة "فِعْلة" من الحكم، وهو في اللغة المنع. وأظهر معاني الحكمة لغة أنها العلم النافع الصحيح؛ لأن العلم الصحيح النافع يمنع الأقوال والأفعال أن يعتريها الخلل والنقص فكل نقص أو خلل منشأه في الحقيقة من الجهل الذي هو عدم العلم بما يقصد.
والحكمة في الاصطلاح: هي وضع الأمور في مواضعها وإيقاعها في مواقعها. وهي في الاصطلاح الخاص بأهل الأصول: المصلحة التي من أجلها صار الوصف علة للحكم. فالحكم -مثلًا- تحريم شرب الخمر، وعلة هذا الحكم هي الإسكار، والحكمة هي حفظ العقل. فمصلحة حفظ العقل هي التي من أجلها صار الإسكار علة لتحريم شرب الخمر وهي حكمة التشريع.
والحكم -مثلًا أيضًا- القطع، وعلة هذا الحكم هي السرقة، والحكمة هي حفظ المال. فمصلحة حفظ المال من السرقة هي التي من أجلها صارت السرقة علة لقطع يد السارق. وهكذا.
وبعض أهل الأصول يقول: الحكمة عبارة عن دفع مفسدة أو
1 / 65
تقليلها. أو جلب مصلحة أو تكميلها وهو راجع إلى ما ذكرنا. فإذا علمت ذلك فاعلم أن الحِكَم التي يدور حولها التشريع السماوي ثلاث.
١ - الأولى: درأ المفسدة وهو المعبر عنه في الأصول بالضروريات.
٢ - الثانية: جلب المصلحة وهو المعبر عنه عند الأصوليين بالحاجيات.
٣ - الثالثة: الجري على مكارم الأخلاق واتباع أحسن المناهج في العادات والمعاملات وهي المعبر عنه في الأصول بالتحسينات والتتميميات.
أما الضروريات وهي أصول المصالح العالمية في الدنيا فهي درء المفسدة عن ستة أشياء عليها مدار المصالح الكبرى في الدين والدنيا وهي:
١ - الدين.
٢ - النفس.
٣ - العقل.
٤ - النسب.
٥ - العرض.
٦ - المال.
أ- أما الدين: فقد اقتضى التشريع الإسلامي بما اشتمل عليه من الحكم البالغة صيانته والمحافظة عليه بأحكم الطرق وأقومها وأعدلها كقوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ﴾ [البقرة: ١٩٣].
وفي آية الأنفال: ﴿وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ﴾ [الأنفال: ٣٩] فهذا دفاع عن حمى الدين بالنفس والنفيس تحت ظلال السيوف حتى لا تبقى فيم الأرض فتنة (أي شرك) كما يدل عليه قوله تعالى: ﴿تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ﴾ [الفتح: ١٦] وقوله ﷺ: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا
1 / 66
أن لا إله إلا الله". الحديث.
وقد بين ﷺ أنهم لا يقاتلون حتى يدعوا إلى الإسلام فيمتنعوا وقد أشار تعالى إلى ذلك في قوله: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ [الحديد: ٢٥]. لأن قوله: ﴿وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ﴾ بعد قوله تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ﴾ يدل على أنه إن لم تنفع فيهم البينات والكتب جرد عليهم السيف كما قال القائل:
يهدي الكتاب هدى فمن لم يرتدع ... بهدى الكتاب فبالكتائب يردع
ب- وأما النفس: فقد اقتضى التشريع الإسلامي -أيضًا بما اشتمل عليه من الحكم البالغة والمحافظة على المصالح العامة- صيانتها ودرأ المفسدة عنها بأحكم الطرق وأقومها. ولذا جاء فيه تشريع القصاص، وهو أعظم وسيلة لسلامة الأنفس من القتل، كما قال تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧٩)﴾ [البقرة: ١٧٩]. فصرح تعالى في هذه الآية الكريمة بأن لهم في تشريع القصاص حياة؛ لأن من همَّ بالقتل تذكَّر أنه إن قَتَل قُتِل، فلاحظ تقديمه للقتل قصاصًا، فأشفق على نفسه من الموت، فتَرَكَ القتلَ، فسَلِمَ صاحبُه من القتل، وسَلِمَ هو من القَوَد، وهذه حياة نفسين كانت بسبب هذا التشريع السماوي الذي وضعه الله الحكيم الخبير.
ولكن هذه الحِكَم إنما يفهمها أهل العقول السليمة من شوائب الاختلال؛ ولذا قال تعالى بعد ذكره القصاص المذكور والتنبيه على ما
1 / 67
في تشريعه من الحياة ﴿يَاأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [البقرة: ١٧٩]. فنادى المخاطبين نداء يختص بأصحاب العقول السليمة لأنهم هم الذين يفهمون ذلك وينتفعون به.
ج- وأما العقل: فقد اقتضى تشريع الحكيم الخبير المحافظة عليه بأحكم الطرق وأقومها، فمنع من شرب الخمر؛ لأنها تذهب العقل صيانة للعقل ومحافظة عليه، وأوجب الحد في شرب الخمر محافظةً عليه وصيانةً له قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٩٠)﴾ إلى قوله: ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (٩١)﴾ [المائدة: ٩٠ - ٩١]. وفي الحديث: "كل مُسْكِر حرام" وفيه: "ما أسكر كثيره فقليله حرام". وقد أوجب ﷺ حد الشارب درأ للمفسدة عن العقل كما هو معلوم.
د- وأما النسب: فقد اقتضى التشريع الإسلامي -الذي هو تشريع خالق السموات والأرض على لسان سيد ولد آدم صلوات الله وسلامه عليه- صيانته والمحافظة عليه بأحكم الطرق وأعْدَلها، فحرَّم الزنا، ومن حكمة تحريمه أنه حُرِّم لئلا يبقى الولد من الزنا ضائعًا بلا نسب، قال تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا﴾ [الإسراء: ٣٢] ونحوها في الآيات. ولأجل المحافظة على النسب أوجب الحد على من زنا -أعاذنا الله وإخواننا المسلمين من ذلك- فصرح تعالى بوجوب جلده مائة جلدة في قوله تعالى: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ﴾ [النور: ٢] وصرح في الآية الأخرى التي هي منسوخة التلاوة باقية الحكم وهي قوله تعالى: "الشيخ والشيخة .. إلى قوله
1 / 68
عزيز حكيم"، وهذه الآية باقية الحكم إجماعًا وإن نُسِخ لفظها. وقد رجم النبي ﷺ ورجَمَ الخلفاء الراشدون بعده، واستقر على ذلك إجماع المسلمين كما هو معلوم لا نزاع فيه.
ومن حِكَم ذلك الردع البالغ عن الزنا بالجلد والرجم حِفْظ الأنساب وعدم ضياعها واختلاطها.
وعن ابن عباس ﵄ أن الرجم المذكور دلت عليه آية محكمة التلاوة والحُكْم وهي قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَينَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣)﴾ [آل عمران: ٢٣] قال: لأنها نزلت في اليهوديين اللذين زنيا وهما محصنان، وحكم النبي ﷺ برجمهما، وأعرض اليهود عن قبول ذلك الحكم بالرجم. فذمهم الله بسبب ذلك الإعراض في قوله: ﴿ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣)﴾. وذمه المعرض عن حكم الرجم في هذه الآية يدل على أنه مشروع في شريعة نبينا ﷺ، إذ لو كان غير مشروع فيها ما ذم الله المعرض عنه كما ترى.
ولأجل صيانة النسب والمحافظة عليه أوجب الله العِدَّة على النساء عند المفارقة بطلاق أو موت لئلا يختلط ماء رجل برحم امرأة بماء رجل آخر قال تعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ [البقرة: ٢٢٨]. وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ [البقرة: ٢٣٤]. ولا يخفى أن عدة الوفاة لا تخلو من شبه تعبد لوجوبها مع عدم الدخول بالمتوفى عنها.
1 / 69