الركن الأول
[مقدمة]
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد.
كتاب "مناسك الحج"، تأليف الشيخ المقدس(1): أبي طاهر إسماعيل بن موسى الجيطالي النفوسي- رضي الله عنه - ، وبالله التوفيق.
الحمد الله الذي شرع المناسك لعباده، وأسس البيت الحرام في أعز بلاده، وفرض حجه على المستطيعين من البرايا، تطهيرا لهم من الذنوب والخطايا، يأتون إليه من الفجاج(2) والثنايا(3)، شعث الرؤوس، من مكابدة السرى(4)، وسموم(5) الهواجر(6)
__________
(1) قول الناسخ: "الشيخ المقدس" في نفوسنا منها شيء، واحترام العلماء وتقديرهم، لا يعني الإتيان بمثل هذه الألقاب، فلو قال: الشيخ العلامة الفقيه المجتهد، لكان أفضل من قوله "المقدس".
(2) الفجاج: قيل: الطريق الواسع بين جبلين، وقيل: في الجبل، وقيل: أو في قبل جبل، وهو أوسع من الشعب، وقال ثعلب: ما انخفض من الطرق، ومفرده: الفج. ينظر: العلامة محمد بن مكرم بن علي الأنصاري، المعروف "بابن منظور"،(لسان العرب)، 10/ 185، مادة "فجج".
(3) الثنايا: والثنية: طريق العقبة، ومنه قولهم: فلان طلاع الثنايا: إذا كان ساميا لمعالي الأمور، كما يقال: طلاع أنجد، والثنية: الطريقة في الجبل كالنقب، وقيل: هي العقبة، وقيل: هي الجبل نفسه، وقال أبو عمرو: الثنايا: العقاب، قال أبو منصور: والعقاب جبال طوال بعرض الطريق، فالطريق تأخذ فيها، وكل عقبة مسلوكة ثنية، وجمعها ثنايا.(المصدر السابق) 2/ 142، مادة "ثنى".
(4) السرى: يقال: سريت سرى مسرى، إذا سرت ليلا بالألف، لغة أهل الحجاز، السرى السير عامة الليل، ويذكر سرى يسري ومسرى وسرية. (المصدر السابق) 6/252، مادة "سرا".
(5) السموم: الريح الحارة تؤنث، وقيل: هي الباردة ليلا كان أو نهارا، والجمع سمائم.(المصدر السابق) 6/373 مادة"سمم".
(6) الهواجر: والهجير: والهجيرة، والهاجرة، نصف النهار عند زوال الشمس إلى العصر.(المصدر السابق) 15/34 مادة "هجر".
صفحه ۱
،رجالا وعلى كل ضامر، فناهيك أقواما، ما صارموا(1) الأهل والعشائر، وهاجروا اللذات والأواطن(2)، وأتعبوا الأبدان والأباعر(3)، حتى صاروا شعثا على شعث، ضوامر عوجا(4) على عوج، مرتدمة(5) الكراكر(6)، أنضاء(7) على أنضاء، غبر(8)، حرائر(9)،خمص(10) البطون، على خوص(11)
__________
(1) صارموا: التصارم، التقاطع، والصرم: اسم للقطيعة، والانصرام الانقطاع.(المصدر السابق) 7/332، مادة "صرم".
(2) لم نجدها بهذا الجمع كما في ابن منظور، (لسان العرب)، 15/338، مادة "وطن".
(3) الأباعر:. البعير: الجمل البازل، وقيل: الجذع، وقد يكون للأنثى، كقول بعضهم: شربت من لبن بعيري؛ أي ناقتي، قال ابن بري: أباعر، جمع أبعرة، وأبعرة جمع بعير، وأباعر جمع الجمع، وليس جمعا لبعير.(المصدر السابق)، 1/444، مادة "بعر".
(4) عوج: الانعطاف في ما كان قائما، فمال.(المصدر السابق)9/455، مادة"عوج".
(5) مرتدمة: تردم الثوب، أي أخلق واسترقع، فهو متردم.(المصدر السابق)، 5/ 193، مادة "ردم".
(6) الكراكر: وعاء قضيب البعير والتيس والثور، والكراكر: الجماعات، واحدتها كركرة.(المصدر السابق)، 12/ 66، مادة "كركر".
(7) أنضاء: والنضو بالكسر: البعير المهزول، وقيل: هو المهزول من جميع الدواب، وهو أكثر، والجمع أنضاء، وقد يستعمل في الإنسان.(المصدر السابق) 14/ 182، مادة "نضا".
(8) غبر: والغبرة: لون الغبار.(المصدر السابق)، 10/ 18، مادة "غبر".
(9) حرائر: وأحر الرجل، فهو محر، أي صارت إبله حرارا، أي عطاشا.(المصدر السابق)، 3/ 115، مادة"حرر".
(10) خمص: الجائع الضامر البطن.(المصدر السابق) 4/ 219، مادة "خمص".
(11) خوص العيون: ضيق العين، وصغرها، وغورهما، وقيل: أن تكون إحدى العينين أصغر من الأخرى، وقيل: هو ضيق مشقها، خلقة أو داء، قال أبو منصور: كل ما حكي في الخوض صحيح، غير ضيق العين، فإن العرب إذا أرادت ضيقها، جعلوه الحوص، بالحاء، وإذا أرادوا غور العين، فهو الخوص، بالخاء معجمة من فوق.(المصدر السابق) 4/ 244 - 245، مادة "خوص".
صفحه ۲
العيون، قب(1) الخواصر(2)، قد تسعسن(3) من السرى، وحر الظواهر(4)، وجوب(5) الفيافي(6)، حتى أنخن(7) بتلك المشاعر، فأرحلهم (8) الكريم من سعة جوده بالمحل المغبوط، وأنزلهم من كرامته بالمكان المحوط، فانقلبوا على مطاياهم(9)، مغفورة خطاياهم[س/1]، موفورة عطاياهم، - رحمنا الله و
__________
(1) قب: والأقب: الضامر، وجمعه: قب.(المصدر السابق) 11/6، مادة "قبب".
(2) الخواصر: الخصر: وسط الإنسان، وجمعه خصور، ويقال: رجل ضخم الخواصر.(المصدر السابق) 4/ 108، مادة "خصر".
(3) تسعسن: سعسع الشيخ أو غيره: قارب الخطو، واضطرب من الكبر أو غيره.(المصدر السابق) 6/268، مادة "سعسع".
(4) الظواهر: الظهيرة: الهاجرة، وقيل: الهاجرة، وقيل: انتصاف النهار، وقيل: هما واحد، وقيل: إنما ذلك من لقيظ مشتق.(المصدر السابق)، 8/ 279، مادة "ظهر".
(5) جوب: وجاب المفازة، والظلمة جوبا، واجتابها: قطعها.(المصدر السابق) 2/ 406، مادة "جوب".
(6) الفيافي: المفازة لا ماء فيها، قال الليث: الفيف، المفازة التي لا ماء فيها، مع الاستواء والسعة، وإذا أنثت فهي الفيفاة، وجمعها الفيافي.(المصدر السابق)، 10/ 369، مادة "فيف".
(7) أنخن: أنخت البعير فاستناخ، ونوخه، فتنوخ، وأناخ الإبل: أبركها، فبركت.(المصدر السابق) 14/321، مادة "نوخ".
(8) لعلها فأحلهم
(9) مطاياهم: والمطية: الناقة التي يركب مطاها، والمطية: البعير يمتطى ظهره، وجمعه المطايا، يقع على الذكر والأنثى.(المصدر السابق) 13/ 135، مادة "مطا".
صفحه ۳
أحمده حمدا يليق بجلاله، ويقربني التمسك بوصاله، وصلى الله على رسوله المحفوف(1) من بني عدنان، بعناصر بهائها(2)، النازل من قريش في سراة(3) سنائها(4)، المبعوث إلى الأسود والأحمر بالدين الحنفي الأزهر، والكتاب العربي المنور، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين وأصحابه الطاهرين، وعلى جميع أنبيائه المصطفين إلى يوم الدي-ن.أما بعد:
__________
(1) المحفوف: حف القوم بالشيء وحواليه، يحفون حفا، وحفوه، وحففوه: أحدقوا به، وأطاقوا، وعكفوا، واستداروا.(المصدر السابق) 3/ 244، مادة "حفف".
(2) بهائها: .بها: البهو: البيت المقدم أمام البيوت، وقوله في الحديث (تنتقل العرب بأبهائها إلى ذي الخلصة)، أي ببيوتها، وهو جمع البهو: البيت المعروف.(المصدر السابق) 1/ 528، مادة"بها".
(3) سراة: السرو: المروءة والشرف، ويجمع السراة على سروات.(المصدر السابق) 6/249-250، مادة "سرا".
(4) سنائها: سنا إلى معالي الأمور سناء: ارتفع، والسنا من الرفعة، والسني: الرفيع، وقال ابن السكيت: السنا من لمجد والشرف.(المصدر السابق)، 6/404، مادة"سنا".
صفحه ۴
فإنه لما رأيت الحج وقع في الدين موقعا جليلا، وكتب فرضه على كل من استطاع إليه سبيلا، فاستخف الناس بحق الله فيه، حتى كأنه تطوع عند العوام، وفضيلة مرغوب فيها عند جل(1) من ينتحل(2) الإسلام، ولاسيما اليوم أهل هذه الدعوة الرضية (3) ، دون غيرهم من أهل الأهواء المرجئة(4)، فإنهم أخذوا فيه بالسهم الأخسر، والحظ الأنقص، مع ما خول بعضهم من الاستطاعة عليه، وإمكان السير والسبيل إليه، فإذا أقمت على أحدهم الحجة، وألزمته طريق المحجة، أخذ يروغ يمينا وشمالا، ويتعلل بعليل(5) تورث صاحبها نكالا، وتعقبه خزيا واضمحلالا(6)، يقول: إن الجور اليوم قد استفاض وطريق الأمن عسير(7) الإنهاض[س/2]، وأن الحج قد سقط فرضه في هذا الزمان؛ لتوعر الطريق وقلة الأمان، وعون الرفيق وعدم
__________
(1) جل: جل الشيء وجلاله، معظمه.(المصدر السابق) 2/334.
(2) ينتحل: تقول: فلان ينتحل كذا وكذا، أي يدين به.(المصدر السابق)، 14/ 74.
(3) يشير إلى أهل مذهبه الإباضي.
(4) المرجئة: يحمل معنيين:1- التأخير،2- إعطاء الرجاء، فأما إطلاق اسم المرجئة على الجماعة بالمعنى الأول، فصحيح؛ لأنهم كانوا يؤخرون العمل عن النية، وأما المعنى الثاني فظاهر؛ لأنهم يقولون: لا تضر مع الإيمان معصية، كما لا تنفع مع الكفر طاعة، وقيل: إن المرجئة أصناف: منهم مرجئة قدرية، ومرجئة جبرية، ومرجئة خالصة، ويقال: إن أول من قال بالإرجاء، هو غيلان الدمشقي. ينظر الشيخ أبو يعقوب يوسف بن إبراهيم الورجلاني، (الدليل والبرهان)،وزارة التراث القومي والثقافة، 1403 ه- -1983م،1/ 62- 63، ومحمد بن عبد الكريم الشهرستاني، (الملل والنحل)،دار الفكر، بيروت - لبنان،بدون ت،ط، ص 139.
(5) هكذا رسمت، ولعل الأصوب "بعلل".
(6) اضمحل الشيء: أي: ذهب وانحل.(لسان العرب) 8/ 28، مادة "ضحل".
(7) عسر: ضد اليسر، وهو الضيق والشدة، والصعوبة.(المصدر السابق)، 5/ 207، مادة "عسر".
صفحه ۵
المعوان، بل لو صحت نيته في قصد تلك البنية لوصل إلى المرغوب وأقصر الأمنية؛ لأنه لو قيل لهذا العاجز المتواني: إنك قد ورثت بمكة ألف دينار مثلا، تبلغ به أقصى الأماني؛ لأسرع حينئذ المشي إليها وخلع عن نفسه العجز والتواني.
وهب أن الأمر كما زعم وأن الطرق مشحونة بالآفات، مسدودة بالمخافات، أما كان في طلب الجنة ونعيمها، والهرب من النار وزقومها، ما يكابد به العبد المشقات، وتهون عليه في ذات ربه المصيبات؟ أولا ينظر إلى الناس في كل عام زائرين البيت والمقام، فيرجعون سالمين الأجساد والجوارح، مصروفة عنهم الجوائح؟ فكيف يتعلل المرء بغرور المعاذير، أو كيف يتبهرج(1) بزيفه والناقد بصير؟ فنسأل الله الذي بيده الملك والملكوت، أن يرزقنا حج بيته قبل أن نموت، إنه على ما يشاء قدير.
فلما كان الأمر على ما وصفت، وتأملت الحج فإذا هو قد اندرست(2) معالمه، وتعطلت مشاعره، سنح لخاطري أن أؤلف كتابا في مناسكه، متضمنا ما مست إليه الحاجة من مسالكه، تذكرة لنفسي، ولمن أراد النظر فيه من أبناء جنسي، وأسلك في[س/3] تأليفه أسلوب الاختصار؛ مخافة التطويل الممل في الإكثار، ورغبة عن التقصير المختل به ما لا بد منه من الأحاديث والآثار، جمعت ذلك، وألفته على قلة معرفتي، وخمود فطنتي، فاختصرت القول فيه على ثلاثة أركان، تحتوي على جمل من مسائل الحج وآدابه وأدعيته، التي هي من الله بمكان، كل ركن من هذه الأركان، يشتمل على فصول مرتبة مبانيها، وفروع مشروحة معانيها:
الركن الأول: في سوابق الحج ومقدماته.
الركن الثاني: في أفعال الحج ومحظوراته.
والركن الثالث: في لواحق الحج ومقترناته.
__________
(1) يتبهرج: الباطل والرديء من الشيء، وبهرج بهم: إذا أخذ بهم في غير المحجة.(المصدر السابق)، 1/518. مادة "بهرج".
(2) اندرست: درس الشيء والرسم، يدرس دروسا؛ أي: عفا.(المصدر السابق) 4/329، مادة "درس".
صفحه ۶
فإذا أتيت هذا الترتيب، فلنبدأ أولا: بالسوابق والمقدمات، حتى نأتي على آخر التقسيمات - إن شاء الله -، وبه الحول والتوفيق.
فنسأل الله العصمة من الخطأ والزلل، والتوفيق في القول والعمل، وهو حسبنا الله، ونعم الوكيل، ولا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم.
الركن الأول
في سوابق الحج ومقدماته
اعلم أن هذا الركن ينقسم قسمين:
الأول: في السابق.
والثاني: في المقدمات.
أما القسم الأول، فيشتمل على ثلاثة فصول:
أحدها:في معنى الحج والعمرة، والأدلة على وجوبهما من الكتاب، والسنة، وإجماع الأمة.
الفصل الثاني: في فضل الحج والعمرة، والوعيد الوارد في تاركهما.
الفصل الثالث[س/4]: في شرائط وجوب الحج، وما يتفرع منها من فصول المسائل.
الفصل الأول: ينقسم قسمين:
أحدهما: في معنى الحج والعمرة.
والثاني: في الأدلة على وجوبهما.
[الفصل الأول]
[في معنى الحج والعمرة]
اعلم أن الحج على ضربين، لغوي واصطلاحي، أما اللغوي، فيطلق على معنيين، أحدهما: القصد(1)، وهو الصحيح، يقال: حججت البيت؛ إذا قصدته؛ لقطع المناسك؛ قال الشاعر:
أما والذي حج المبلون بيته وحل أيام الذبائح والنحر(2).
ويقال: حججت الموضع: إذا قصدته، وحج الطبيب الشجة(3)،إذا قصد قياسها بالمرود(4)؛
قال الشاعر:
__________
(1) لمزيد من التفصيل ارجع ابن منظور (لسان العرب)، 3/ 52، مادة "حجج".
(2) هذا البيت لنصيب بن رباح، أبو محجن، مولى عبد العزيز بن مروان.
(3) الشجة : الشجة: الجراح يكون في الوجه والرأس، ولا يكون في غيرهما من الجسم، وجمعها؛ شجاج. ابن منظور (لسان العرب)، 7/32، مادة "شجج".
(4) المرود: المرود - بكسر الميم -: الذي يكتحل به، والميم زائدة.(المصدر السابق)5/368، مادة "رود".
صفحه ۷
يحج مأمومة(1) في قعرها لجف(2) قاست الطبيب قداها (3) كالمغاريد(4)
فاللجف: التقلع، والمغاريد: صغار الكمأة، واحدها مغرودة، مضموم الميم.
والمعنى الثاني: أن الحج، يطلق على معنى العودة، والتكرار مرة بعد أخرى، تقول الع-رب: بنو فلان يحجون فلانا؛ إذا أكثروا الاختلاف إليه؛ قال الشاعر:
وأشهد من عوف حلولا كثيرة يحجون سب (5)الزبرقان(6) المزعفرا(7)
__________
(1) المأمومة: هي الشجة التي بلغت أم الرأس ينظر: العلامة الشيخ خلفان بن جميل السيابي، (جلاء العمى شرح ميمة الدما)، صححه وعلق عليه: عز الدين التنوخي، معهد القضاء، ط 2،(1411ه - 1991م)، ص 66 - 67،. وابن منظور، (لسان العرب)، 1/219- 220.
(2) لجف: لجفت البئر لجفا، وهي لجفاء، وتلجفت، كلاهما تحفرت، وأكلت من أعلاها وأسفلها، وقد استعير ذلك في الجرح.(المصدر السابق) 12/ 241، مادة "لجف".
(3) قداها: القطع المستأصل، والشق طولا، والقد: قطع الجلد، وشق الثوب.(المصدر السابق)، 11/52، مادة "قدد".
(4) نسب هذا البيت إلى عذار بن درة الطائي، كما في ابن منظور، (لسان العرب)، 12/241.
(5) والسب: العمامة.(المصدر السابق)، 6/137، مادة " سب".
(6) الزبرقان بن بدر التميمي السعدي، صحابي من رؤوس قومه، قيل: اسمه الحصين، ولقب "بالزبرقان"، وهو من أسماء القمر؛ لحسن وجه، وفد إلى رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - في وفد بني تميم، وكان في الوفد: قيس بن عاصم المنقري، وعمرو بن الأهتم وغيرهم، ومدحه عمرو بن الأهتم، ثم ذمه. ينظر: ابن الأثير، (أسد الغابة في معرفة الصحابة)، 2/99-100، وابن حجر العسقلاني، (الإصابة في تمييز الصحابة)، 2/454-455.
(7) المزعفرا: زعفر: الزعفران: هذا الصنع المعروف، وهو من الطيب، وزعفرت الثوب: صبغته. ابن منظور، (لسان العرب)، 6/ 45، مادة "زعفر"، ونسب هذا البيت إلى المخبل السعدي، كما في ابن منظور (لسان العرب) 3/52.
صفحه ۸
فسمي الحج إلى بيت الله الحرام حجا؛ لهذا المعنى؛ لأن الناس يكثرون الاختلاف إليه، والتردد حوله لرئاسته، وسؤدده، وسمي الحاج حاجا؛ لأنه يأتي التعريف(1)، ثم يعود إليه، لطواف الإفاضة، ثم ينصرف إلى منى، ثم يعود إليه لطواف الصدر(2)
__________
(1) لعله يقصد يوم عرفة، كما هو الظاهر من السياق.
(2) طواف الصدر: نستطيع القول أنه يتحقق في أمرين:
1. المرة الأولى: يوم التروية عند الإحرام للحج من مكة والطواف بالبيت توديعا؛ لأجل الخروج إلى منى.
2. المرة الثانية: بعد الفراغ من المناسك، وقصد الرجوع إلى الوطن، وهذا يلحظ لمتتبع كتب الفقه، فمرة يراد به الطواف قبل الذهاب إلى منى، ومرة يراد بها طواف الوداع، والقرينة، هي الفيصل. ينظر: حارث بن محمد بن شامس البطاشي، (عقد الجواهر شرح إرشاد الحائر في أحكام الحاج والزائر)، 2/352.
صفحه ۹
، فلتكرار العودة إليه مرة بعد أخرى[س/5]، قيل له: حاج، وهذا القول الآخر حكاه الماوردي(1) في كتابه(2)، وبه قال أبو عبد الله محمد بن بركة العماني(3)
__________
(1) الإمام العلامة أقضى القضاة، أبو الحسن، علي بن محمد بن حبيب البصري، الماوردي، الشافعي، صاحب التصانيف، ولي القضاء في بلدان شتى، له مصنفات كثيرة في الفقه، والتفسير، وأصول الفقه، والأدب، وكان حافظا لمذهب الإمام الشافعي، له من الكتب: "الحاوي"، و"أدب الدنيا والدين"، و"الأحكام السلطانية"، و"الإقناع"، وغيرها من الكتب، مات سنة 405ه-، ينظر: أحمد بن علي الخطيب البغدادي، (تاريخ بغداد)، 12/102-103، والذهبي، (سير أعلام النبلاء)، 18/64-68.
(2) الماوردي، (الحاوي الكبير)،4/3، والحاوي الكبير في فقه الإمام الشافعي، وهو مختصر شرح المزني، صنفه مؤلفه، وأراد المؤلف أن يحوي الفروع الفقيهة بقدر استطاعته وطاقته البشرية، فكان الكتاب من اسمه نصيب،وقد قسمه ورتبه ترتيبا حسنا، فهو بحق موسوعة فقهية، لا يستغني عنها الفقيه، وقد اعتمدنا على طبعة دار الكتب العلمية،وقد طبعته فيما يربو عن 15 جزءا. ينظر: العلامة علي بن محمد بن حبيب الماوردي البصري، (الحاوي الكبير في فقه الإمام الشافعي، وهو شرح مختصر المزني)، وراجع مقدمة المؤلف، فقد تعرض المحققان لمنهج المؤلف، والتعريف بالحاوي ص 139،132.
(3) هكذا سماه المؤلف وصوابه: أبو محمد عبدالله وهو: الشيخ العلامة الأصولي أبو محمد عبد الله بن محمد بن بركة السليمي البهلوي، مسكنه الضرح، بولاية بهلا، وهو من علماء القرن الرابع الهجري، شيوخه : الإمام سعيد بن عبد الله بن محمد بن محبوب، وأبو مروان، وأبو مالك غسان بن الخضر، كان غنيا؛ لذا كانت له مدرسة تضم كثيرا من طلاب العلم من أصحابنا المغاربة، ومن المشارقة، ومن تلامذته المشهورين: أبو الحسن البسيوي، وأبو عبد الله محمد بن زاهر وغيرهم، مؤلفاته: "الجامع"، و" التقييد" و" التعارف" وغيرها من الكتب، توفي سنة 362 ه-، ينظر: الشيخ إبراهيم العبري ( مقدمة الجامع)، 2/أ وما بعدها، والشيخ: سيف بن حمود البطاشي (إتحاف الأعيان في تاريخ بعض علماء عمان)، 1/295-299،
* تنبيه: يذكر الشيخ إسماعيل ~ صاحب الترجمة، ويقول:"أبو عبدالله"، وهذا شائع عند المغاربة ظنا منهم أن اسمه كذلك وقد وقع للمؤلف في قواعد الإسلام ووقع لغيره كصاحب الإيضاح والمحشي عليه، فكنيته أبو محمد، وليس يكنى بأبي عبدالله، واسمه كذلك عبدالله، وليس بمحمد.
صفحه ۱۰
في كتابه(1)، والله أعلم.
وأما الاصطلاحي: فهو قصد معلوم، على وجه معلوم، في وقت معلوم، وموضع معل- وم، والله أعلم.
فأما العمرة(2)، فقد اختلف في معناها أيضا، على قولين:
أحدهما: أنه القصد أيضا، وكل قاصد شيئا فهو معتمر؛ قال الحجاج(3)
__________
(1) جامع ابن بركة، ( الجامع) 2/ 50، وجامع الشيخ ابن بركة: هذا الاسم الذي اشتهر به هذا الكتاب، وهو من الكتب المعتمدة عند الإباضية، وخاصة المغاربة منهم، فتجدهم ينقلون عنه كثيرا، ويتميز الكتاب بعنايته بالفقه الإباضي وإبراز أراه، ويحوي بعض آراء المذاهب الفقهية الأخرى، حاول فيه المؤلف تبسيط المسائل وغربلتها، وذكر ما اتفق عليه الإباضية، وما اختلفوا فيه، وحوى بعض القواعد الفقهية التي كانت على شكل نصوص قصيرة. وطبع في مجلدين. والنسخة التي اعتمدنا عليها هي: التي حققها وعلق عليها: عيسى يحيى الباروني، وزارة التراث القومي والثقافة، ينظر: الشيخ إبراهيم العبري،(مقدمة الجامع)،ص 2/ أ وما بعدها، والشيخ مهني التيواجني، (أشعة من الفقه الإسلامي 3)،ط1، ص ، وزهران المسعودي (ابن بركة)، ص 66 وما بعدها.
(2) للمزيد، ارجع ابن منظور، (لسان العرب)9/393- 394 مادة"عمر".
(3) هكذا ورد في المخطوطة ولعله العجاج، لأن البيت للعجاج، وليس للحجاج، فلذا رأينا أن كلمة "أو غيره" زائدة، وأن كلمة "الحجاج" تصحيف " للعجاج"، ونسب البيت إلى العجاج ابن منظور، (لسان (لسان العرب)9/394، وقد فمنا بتصحيح البيت، وللأسف لم يتوفر لدينا ديوان العجاج، مع أنه مطبوع، وورد البيت في المخطوطة هكذا:
وقد سما ابن معمر حين اعتمر مغزى بعيدا من بعيد فضبر.
والعجاج هو:رؤبة بن عبدالله العجاج بن رؤبة التميمي، السعدي، أبو الحجاف،أبو محمد: راجز، من الفصحاء المشهورين، من محضرمي الدولتين الأموية والعباسية، أخذ عن أعيان أهل اللغة، وكان يحتجون بشعره، مات سنة 145ه-. ينظر ياقوت الحموي، (معجم الأدباء)، 11/149-151، وكامل الجبوري، (معجم الشعراء من العصر الجاهلي حتى سنة 2002م)، 2/265.
صفحه ۱۱
أو غيره:
لقد غزا(1) ابن معمر (2) حين اعتمر مغزى بعيدا من بعيد وضبر(3).
اعتمر:أي قصد، وضبر معناه جمع(4).
والقول الثاني: أن العمرة معناها الزيارة؛ قال الشاعر:
يهل (5) بالفرقد(6) ركبانها كما يهل الراكب المعتمر(7).
__________
(1) في المخطوط ورد سما: والسمو: الارتفاع والعلو. ينظر: ابن منظور (لسان العرب)، مادة " سما".
(2) عمر بن عبيدالله بن عثمان التيمي القرشي، سيد بني تيم في عصره، من كبار القادة والشجعان، وكان من رجال مصعب بن الزبير أيام ولايته بالعراق، وولي له بلاد فارس، وحرب الأزارقة، وأرسله عبدالله لقتال أبي فديك، فانتصر عليه.ينظر: الزركلي، (الأعلام)، 5/54.
(3) ضبر: يقال: ضبر الفرس: جمع قوائمه ووثب.(لسان العرب) 8/13.
(4) هكذا ورد في المخطوطة، أما في ابن منظور (المصدر السابق)9/394، مادة"عمر"قال:"المعنى حين قصد مغزى بعيدا، وضبر: جمع قوائمه ليثب.
(5) يهل: وأهل الرجل، واستهل: إذا رفع صوته.(المصدر السابق)، 15/120، مادة "هلل".
(6) الفرقد: قال الأصمعي: إذا انجلى لهم السحاب الفرقد، أهلوا، أي رفعوا أصواتهم بالتكبير، كما يهل الراكب الذي يريد بعمرة الحج، لأنهم كانوا يهتدون بالفرقد، وقال غيره: يريد أنهم في مفازة بعيدة من المياه، فإذا رأوا فرقدا، وهو ولد البقرة الوحشية، أهلوا أي كبروا؛ لأنهم قد علموا أنهم قد قربوا من الماء.
ابن منظور (لسان العرب) 9/ 393 - 394، مادة "عمر".
(7) نسب هذا البيت إلى ابن أحمر، كما في (لسان العرب)، 9/394 مادة"عمر".
صفحه ۱۲
أي الزائر، والله أعلم، وهذان القولان حكاهما الماوردي في كتابه(1) (2)، والله أعلم (3).
القسم الثاني من الفصل الأول: في الأدلة على وجوب الحج والعمرة:
أما الأدلة على وجوب الحج والعمرة، فمن الكتاب، والسنة، وإجماع الأمة.
__________
(1) علي بن محمد الماوردي، (الحاوي)، 4/33.
(2) سبق التعريف بالماوردي وكتابه، ص
(3) لم يأت المؤلف - رحمه الله تعالى - بتعريف العمرة في الاصطلاح، وطلبا للفائدة المختصرة نذكر تعريفها فقط، كما عند بعض الإباضية، لأن المؤلف من أصحاب المذهب الإباضي، فقد عرفها بعضهم بقوله: (زيارة البيت بإحرام، وسعي).ينظر: حارث البطاشي، (عقد الجواهر)، 1/27.
صفحه ۱۳
أما الكتاب فقوله - تعالى -: { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } (1)، وهذه اللام في لفظة الله، لام الإيجاب، والإلزام، تقدير الآية، والله واجب على المستطيعين من الناس حج البيت، ثم قال - تعالى -: { ومن كفر فإن الله غني عن العالمين } (2) ، فكفره يكون على وجهين: إن ترك الحج إنكارا لفرضه، فكفره كفر شرك، وإن تركه تضييعا لحقه، فكفره كفر نفاق(3)، وروي عن ابن عباس في قوله: { ومن
__________
(1) سورة آل عمران ، الآية 97.
(2) سورة آل عمران ، الآية 97.
(3) الكفر عند الإباضية، ومن وافقهم ينقسم إلى قسمين: كفر شرك، وكفر نعمة، وكفر الشرك معروف، أما كفر النعمة، فهو عدم صرف العبد ما أنعم به من نعمة الله الظاهرة، أو الباطنة إلى ما خلقت من أجله من طاعة الله - سبحانه -، ويكون ذلك بالإعراض عن مفروضاته - تعالى - ، أو ارتكاب محظور، ويسمى كذلك بالفسق، وبالنفاق، ولهم أدلة على ذلك منها: قوله - تعالى -: { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين } (آل عمران: من الآية97)، وقوله - تعالى -: { إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا } (الانسان:3)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ( ليس بين العبد والكفر إلا تركه الصلاة) رواه الربيع في كتاب الصلاة، جامع الصلاة رقم.ح 303.، ووافق الإباضية على ذلك من المذاهب الإسلامية الأخرى كالبيهقي، وابن الأثير، وابن حجر، ومحمد عبده، ومحمد رضا، وابن عاشور وغيرهم. ينظر: للمزيد الإمام السالمي، (مشارق أنوار العقول)، ص ، وسماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي، (شرح منظومة غاية المراد في نظم الاعتقاد)، والشيخ سعيد القنوبي، (الإمام الربيع)، ص 175 وما بعدها، وكتب العقيدة المطولة، ففيها ما يشفي الغليل، ويبرئ العليل.
صفحه ۱۴
كفر } يعني جحد فرض الحج (1)، وحكي عن مجاهد(2)[س/6]: { ومن كفر } ، يعني كفر بالله واليوم الآخر، وروي مثله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (3)، وعن أبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة(4)
__________
(1) - أخرجه الطبري في تفسيره 4/19.
(2) مجاهد بن جبر، ويقال: ابن جبير، المكي، أبو الحجاج القرشي المخزومي، مولى السائب بن أبي السائب المخزومي، وقيل غير ذلك، من شيوخه: جابر بن عبدالله، وسعد بن أبي وقاص، وعبدالله بن عباس وغيرهم، من تلاميذه: سليمان الأعمش، وطاووس، وحبيب بن أبي ثابت وغيرهم، قال ابن القطان: كان فقهيا، عالما، ثقة، كثير الحديث، وقال يحيى بن معين: ثقة، مات سنة 100ه، وقيل:101ه، وقيل غير ذلك. ينظر: المزي،(تهذيب الكمال) 27/228-236، والإمام ا بن حجر العسقلاني،(تهذيب التهذيب)، دار الفكر، ط1، 1404 ه - 1984م، 10/38-40.
(3) رواه الطبري في تفسيره 4/ 20 من طريق ابن عمر، ورواه البيهقي في شعب الإيمان، في (25) باب المناسك، حديث الكعبة والمسجد الحرام، 3/427، رقم.ح 3974 من طريق ابن عمر.
(4) الإمام الكبير، المحدث الحافظ الثقة، أبو عبيدة مسلم بن أبي كريمة التميمي بالولاء، كان مولى لعروة بن أدية التميمي، تولى رئاسة الإباضية بعد الإمام جابر بن زيد ~، فقام بالواجب حق القيام، فعلم طلبته، فكانوا حملة العلم إلى المشرق، وحملة المغرب العلم إلى المغرب، الذين أقاموا العدل في بلادهم بعد ذلك، من شيوخه: الإمام جابر بن زيد ~، والحسن البصري ~، ومجاهد، وضمام بن السائب، وأبو نوح الدهان وغيرهم، ومن تلامذته: الإمام الحجة المحدث الربيع بن حبيب ~، وعبد الرحمن الرستمي، وابن عباد المصري وغيرهم، توفي سنة 150 ه، أو بعدها بقليل.ينظر: الشيخ أحمد بن سعيد الدرجيني، (طبقات المشايخ بالمغرب)، 2/238- 248، والشيخ: أحمد بن سعيد الشماخي، (السير)، 2/78-83، والشيخ سعيد القنوبي، (الإمام الربيع بن حبيب ومكانته ومسنده) ، ص36-26، والدكتور محمد صالح ناصر وآخرون، (معجم أعلام الإباضية)، 4/873-876.
صفحه ۱۵
- رضي الله عنه - أنه قال: يعني (ومن كفر)، من اليهود والنصارى، وذلك أنهم لا يرون الحج إلى مكة فرضا واجبا عليهم، وقيل: ومن كفر بالبيت (1)، وقيل: ومن كفر بالآيات البين-ات (2)، وعن السدي(3) قال: أما من كفر، فهو من وجد ما يحج به، ثم لم يحج حتى مات(4)، وقال - عزوجل - لإبراهيم - عليه السلام -: { وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا } (5)، وإن لم يكن فيها دليل قاطع، لكن قد أمرنا بإتباع إبراهيم - عليه السلام - ، وروي عن الحسن البصري(6)
__________
(1) روي هذا عن عطاء.
(2) قال بذلك ابن زيد.
(3) إسماعيل بن عبدالرحمن بن أبي كريمة السدي، الإمام المفسر، أبو محمد الحجازي ثم الكوفي، من شيوخه: أنس بن مالك، وابن عباس، وأبي عبدالرحمن السلمي وعدد كثير، ومن تلاميذه: شعبة، وسفيان الثوري، وأبو بكر بن عياش وغيرهم، قال النسائي: صالح الحديث، وقال القطان: لابأس به، وقال يحيى بن معين: ضعيف، وقال أبو زرعة: لين، مات في سنة 127ه، ينظر: المزي، (تهذيب الكمال)3/132-138، والذهبي، (سير أعلام النبلاء)، 5/264- 265، وابن حجر، (تهذيب التهذيب)1/273-274.
(4) وذكر قولا آخر، وهو أن لا يكون معتقدا في حجه، أن له الأجر عليه، ولا أن عليه بتركه إثما، روي عن ابن عباس، ومجاهد، ينظر: تفسير هذه الآية في: الطبري، (جامع البيان تأويل آي القرآن )، 4/19-21، القرطبي، (الجامع لأحكام القرآن)، 4/135-154، أطفيش، (تيسير التفسير)، 2/130.
(5) سورة الحج، الآية 27.
(6) الحسن بن أبي الحسن يسار، أبو سعيد، مولى زيد بن ثابت، ولد في خلافة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - من شيوخه: جابر، وابن عباس، وأنس وغيرهم، ومن تلاميذه: أيوب السخستياني، وعوف الأعرابي، وجرير بن حازم وغيرهم، قال ابن سعد: كان الحسن ~، جامعا، عالما، ثقة، حجة، مأمونا، عابدا، ناسكا، كثير العلم، فصيحا، توفي - ~ سنة .110ه، ينظر: ابن سعد، (الطبقات الكبرى)، 7/156-78، والمزي (تهذيب الكمال)، 6/95-126، والذهبي، (سير أعلام النبلاء)، 4/563-588.
صفحه ۱۶
في قوله: { وأذن } ، هي خطاب للنبي - عليه السلام - ، فعلى هذا القول يكون الدليل في الآية، والقول الأول أشهر، وأما السنة، فقول الرسول - عليه السلام -: "بني الإسلام على خمس" (1)، فذكر فيهن الحج، وقوله: "حجوا قبل أن لا تحجوا، فإنه قد هدم البيت مرتين، وسيرفع في الثالثة"(2)، وقول النبي - عليه السلام - في حجة الوداع في حديث فيه طول: "حجوا بيت ربكم"(3)، وقال ابن مسعود: حجوا هذا البيت قبل أن تنبت في البادية شجرة، لا تأكل منها دابة إلا نفقت، أي: هلكت(4)، والأوامر تقتضي الوجوب إذا وردت عارية من القرائن والمقدمات عند أكثر الأصوليين(5)
__________
(1) - رواه البخاري، (2) كتاب الإيمان، في (2) دعاؤكم إيمانكم لقوله تعالى " قل ما يعبؤ بكم ربي لولا دعاؤكم"، ح.رقم 8.، ورواه مسلم (1) كتاب الإيمان، في (5) أركان الإسلام ودعائمه العظام، ح.رقم 111، وبرقم 114، ورواه الترمذي في (38) كتاب الإيمان، (5) باب ما جاء في إضافة الفرائض إلى الإيمان، ح.رقم 2609، وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. كلها من طريق ابن عمر.
(2) رواه الحاكم في كتاب المناسك، 1/441، وقال الحاكم: صحيح على شرطهما، ولم يخرجاه، من طريق ابن عمر.
(3) رواه الطبراني، مسند الشاميين، 2/401، ح .رقم 1581، من طريق أبي أمامة.
(4) قال ابن حجر في (الكاف الشافي في تخريج أحاديث الكشاف): "لم أجده"، وقال سماحة الشيخ أحمد الخليلي - حفظه الله تعالى -:"أن هذا الحديث لم يبلغ مرتبة الصحة عند أهل الحديث، ففي إسناده مقال".
سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي، (الفتاوى)، 1/437.
(5) مسألة الأمر المطلق:
الأمر إذا ورد عاريا من القرائن، اختلف العلماء فيه على مذاهب:
1.هو حقيقة في الوجوب مجاز في البواقي، وهو ما عليه الجمهور، ورجحه الشيخ السالمي ~.
2.أنه حقيقة في الندب، ذهب إليه أبو هاشم، والقاضي عبدالجبار.
3.أنه حقيق في الإباحة، ولم ينسب هذا القول لقائل.
4.مشترك لفظي بين الوجوب والندب، ونسب هذا القول للشيعة،وقيل غير ذلك.
ينظر: الفخر الرازي،(المحصول في علم الأصول)، 2/44-96، ومحمد بن بهادر الزركشي،(البحر المحيط)، 2/364-370، والشيخ السالمي،(طلعة الشمس شرح شمس الأصول)، والدكتور محمد أبو النور،(أصول الفقه)، 1/110-122.
صفحه ۱۷
.
وأما الإجماع، فقد اجتمعت الأمة بأسرها أن الحج واجب على من استطاع إليه سبيلا، وإن اختلفوا في الاستطاعة على ما سيأتي في موضعه - إن شاء الله -.
مسألة
فإذا ثبت وجوبه، فهل يتكرر أم لا ؟؛ لأن الأمر عند بعض أهل الأصول إذا ورد يقتضي التكرار(1)
__________
(1) مسألة تكرار الأمر:
لا خلاف بين الأصوليين إذا قال شخص: أعط زيدا مرة، بأنه مقيد بالمرة، وإذا قال: أعط زيدا مرارا، بأنه يفيد التكرار.
أما صورة التكرار في هذه المسألة، تتصور في حالتين:
الأولى: أن يختلف المأمور به ك-"صل ركعتين، صل أربعا"، فهنا اختلف الأمران، فكلا الأمرين واجبان باتفاق العلماء.
الثانية: أن يتفق المأمور به ك-"صل ركعتين، صل ركعتين"، ففي وجوب الأمرين معا خلافا بين العلماء:
1.إن الأمر المطلق لا يدل على المرة، و لا على التكرار، وإنما يدل على طلب الماهية، والماهية تتحقق في المرة الواحدة، وتتحقق في غيرها، إلا أن الواحدة هي أقل ما تتحقق به الماهية، وهو قول الفخر وتابعه البيضاوي.
2.أن كلا الأمرين واجب، فيجب الامتثال لكل واحد منهما، فالواجب في قولك: "صل ركعتين، صل ركعتين"، وجوب كل ركعتين بالأمر إلا إذا صرفته عن ذلك قرينة، والقرائن تختلف منها عقلية، ومنها شرعية إلى غير ذلك، كما هي مبسوطة في كتب الأصول، وهو ما عليه الشيخ السالمي ~.
3.الوقوف عن حمل الأمر الثاني على التأكيد، وعن حمل الثاني على التأسيس، إذ كلا الأمرين محتمل، ولا مرجح لأحدهما على الآخر، فوجب التوقف، واختاره إمام الحرمين.
4.إذا أعيد الأمر الثاني بالعطف، فالأمر الثاني غير الأول، فيجب امتثال الأمرين معا؛ لأن التعاطف يلزم منه التغاير، أما إذا لم يعد، فوجب حمله على التأسيس.
يظر: الباجي،(إحكام الفصول)، ص94- 96، والعجلي الحنبلي،(الكاشف عن المحصول في علم الأصول)، 3/287-304، والشيخ السالمي، (طلعة الشمس)، 1/60- 62، والدكتور محمد أبو النور،(أصول الفقه)، 1/125-131.
صفحه ۱۸
، فلا خلاف أنه لا يجب في العمر إلا مرة واحدة، والدليل على ذلك حديث الأقرع بن حابس(1)، حين قال: يا رسول الله، الحج واجب[س/7] علينا في كل عام، فغضب - عليه السلام - حتى احمرت وجنتاه (2)، فقال:"والذي نفسي بيده، لو قلت: نعم لوجب"(3)، إلى تمام الحديث، ومن طريق آخر عنه - عليه السلام - "إنما هي حجة وعمرة،فمن قضاهما فقد قضى الفريضة، وما أصاب بعد ذلك فهو تطوع"(4)، وكذلك في قوله - تعالى -:? ولله على الناس حج البيت ?، يفيد أقل ما يتناوله الاسم.
مسألة
__________
(1) الأقرع بن حابس بن عقال التميمي المجاشعي الدارمي، قيل اسمه: فراس، ولقب بالأقرع؛ لقرع في رأسه، أحد المؤلفة قلوبهم، وكان شريفا في الجاهلية والإسلام، شهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتح مكة، وحنينا، والطائف، قيل: قتل باليرموك هو وعشرة من بنيه، وقيل غير ذلك. ينظر: ابن عبد البر،(الاستيعاب)1/103-104، وابن الأثير، ( أسد الغابة )1/164-167، وابن حجر (الإصابة)1/252- 255.
(2) - وجنتاه: الوجنه: ما ارتفع من الخدين للشدق والنحر، وقيل: ما انحدر من المحجر، ونتأ من الوجه، وقيل غير ذلك. (لسان العرب)، 15/ 244، مادة"وجن".
(3) وتمام الحديث: ( ولو وجبت لم تفعلوا، ولو لم تفعلوا لكفرتم، ولكن إذا نهيتكم عن شيء، فانتهوا، وإذا أمرتكم بشيء، فأتوا منه ما استطعتم)، رواه الربيع من طريق أنس ، كتاب الحج، (1) باب في فرض الحج، ح. رقم 394، ومسلم من طريق أبي هريرة في (15) كتاب الحج، (73) باب فرض الحج مرة في العمر، ح. رقم 3257، ورواه أبو داود من طريق ابن عباس ، في (11) كتاب المناسك، (1) باب فرض الحج، ح. رقم 1721، ورواه النسائي من طريق ابن عباس في (24) كتاب مناسك الحج، (1) باب وجوب الحج، ح رقم 2621.
صفحه ۱۹
(4) رواه سعيد بن أبي عروبة في كتاب المناسك، ص 91، ح.رقم 80، مرسلا عن قتادة، اختلف أصحابنا في وجوب الحج، هل هو على التراخي أو على الفور(1)؟
قال بعضهم: هو على الفور، واحتجوا على ذلك بأن كل فرض لم يخصص بوقت معلوم فالواجب على العبد المسارعة إلى فعله؛ لقوله - تعالى -: { سارعوا إلى مغفرة من ربكم } (2)، ولقول النبي- عليه السلام -: "حجوا قبل أن لا تحجوا"(3)، فالأوامر تقتضي الوجوب - كما قدمنا -، فوجب علينا المسارعة إلى الأعمال التي تؤدي إلى الغفران.
__________
(1) المراد بالفور: هو تعجيل إنفاذ الواجب بحيث يلحق من أخره الذم، والمراد بالتراخي ما يقابل ذلك. ينظر: الشيخ السالمي، (طلعة الشمس)، 1/46.
(2) سورة آل عمران، الآية133.
(3) رواه البيهقي، في كتاب الحج، في باب ما يستحب من تعجيل الحج إذا قدر عليه،4/ 341،مطولا، من طريق علي، ومن طريق أبي هريرة، ورواه الدارقطني، في كتاب الحج، باب المواقيت،1/234، ح.رقم 2769من طريق أبي هريرة، مطولا، ورواه الحاكم في كتاب المناسك، 2/632، رقم.ح 1646، قال الذهبي: حصين واه، ويحيى الحماني ليس بعمدة.
صفحه ۲۰