وفي أواخر سنة 1836م، تم الزفاف باحتفال عظيم دارت فيه ألعاب السيف والعصا وركوب الخيل ولعب الجريد، فقد اجتمع سائر أهل القرى المجاورة بألعابهم وموسيقاهم ومشاهير رجالهم، وفيهم المهرة بلعب السيف الذين يقطعون عصا الحديد الملفوفة باللباد، وفيهم من يقطع الثور الكبير نصفين بضربة، وفيهم من تفنن بالسيف حتى إنه كان يرمي منديلا من الحرير الرفيع في الهواء ثم يضربه بالسيف فيقطعه شطرين، إلى غير ذلك من ألعاب السيوف، وكان في جملة اللاعبين أشهر الخيالة ولاعبي الجريد، وغير ذلك من الألعاب التي برع فيها اللبنانيون. •••
وعلى الجملة، فإن عرس غريب كان باحتفال عظيم جدا، دام عشرة أيام كانت بيت الدين في أثنائها كأنها شعلة نار لكثرة الأنوار، وأما الموائد فلم ترفع لا ليلا ولا نهارا، وكل ذلك على نفقة الأمير بشير لأنه كان يجب أن يجبر قلب ابنة عمه الأميرة سلمى بزوجها وأولادها، فإن فرح هؤلاء لم يكن يقدر بعد ما قاسوه من التعب والمشقة والأخطار.
سعيد
ولكن فرحهم لم يكن تاما، لأن أمين بك وزوجته وغريب، ما انفكوا يفكرون في سعيد خادمهم الأمين، وما كان من أمره، وكيف ذهب ضحية شهامته ومروءته. وكان الفرح الشديد قد أثار ذكرى أيام الشقاء، فانقبضت نفس أمين بك حين تذكر الساعة التي ضرب فيها سعيدا، وشعر بندم شديد لأنه لم يرجع على أثر الضربة كي يبحث عن جثته لعل فيها رمقا، فكان الاحتفال قائما، والناس في هرج ومرج بين ضاربي الآلات، ولاعبي الألعاب الحربية، والمغنين، وأمين بك ساكت لا يكلم أحدا إلا بما يضطر إليه؛ جوابا لمهنئ أو ردا على سؤال.
وفيما هو في ذلك جاءه رئيس الدير المعهود، وعلى وجهه أمارات البشر وسلم عليه، فهم أمين بك بتقبيل يده وتأمله فقال له: «أراك يا سيادة البك في ارتباك وكدر، فما هو سبب ذلك؟ ألا تقول لي؟» قال: «لست في ارتباك ولا في كدر لأني بحمد الله قد ظفرت بما كنت أتمناه من جمع الشمل، ولكن فرحي لم يتم .»
فقال الرئيس: «وماذا ينقصه؟»
قال أمين بك: «ينقصه ما لا سبيل إليه، وأنا الجاني فيه.»
قال الرئيس: «عسى الله أن يفتح باب الفرج فإنه على كل شيء قدير.»
قال أمين بك: «لا شك أنه قادر سبحانه وتعالى، وإلا فمن كان يظن أننا سنلتقي معا، وقد تبعثر شتاتنا في أنحاء الأرض شرقا وغربا وشمالا وجنوبا؟! ولكن ما أرجوه يا جناب الرئيس بعيد المنال لأن الرجل الذي أود اللقاء به أظنه قد مات، وا أسفي عليه! بل يا لشقائي لأني قتلته بيدي!» قال ذلك، وتساقطت عبراته. •••
فتبسم الرئيس وضم أمين بك إلى صدره، وقال: «أظنك تعني سعيدا، إنه لم يمت، بل هو حي يرزق.»
صفحه نامشخص