خرج الأمير بعد وداع العزيز مسرورا، لتمكنه من الظفر بالعفو عن سليمان، فعادوا جميعا إلى المنزل، وبعث الأمير إلى سليمان فحضر فاختلى به وأخبره بأمر العفو، وأنه صرح له بالتفتيش عن بيته برفقة أحد الضباط، فسار سليمان في الحال مع بعض الضباط وبعض رجال الأمير للتفتيش عن زوجته. ثم جاء حنا البحري يطلب الأمير وأولاده للتوجه إلى قصر شبرا حسب أمر العزيز، فأحب غريب الامتناع فألح عليه الأمير فأطاع، وفيما هم في الطريق على خيولهم تذكر غريب أمر تلك المرأة التي وعدوها بالتخلص من زوجها، فذكر والده بها فسأل عنها الأمير حنا البحري لأنه كان قد كلفه بذلك، فقال: «لقد طلقناها من ذلك الحشاش، ورتب لها العزيز راتبا شهريا مرضاة لك.» فسر غريب لذلك سرورا عظيما.
وصلوا جميعا قصر شبرا فوجدوه قصرا بديعا تحيط به حديقة فيها أطيب الثمار والأزهار والرياحين، وهناك استقبلهم العزيز ورحب بهم وأدخلهم غرفة الاستقبال، وهي مشرفة على النيل وأجلسهم بجانبه، وقدم للأمير كرسيا وقربه من مجلسه، وأخذ يسأله عن كل ما يتعلق بولايته في لبنان، فأدرك أولاد الأمير أن وجودهم في تلك القاعة لا داعي له، فخرجوا إلى الحديقة وجعلوا يطوفون فيها، ويتمتعون بمشاهدة أزهارها وثمارها، ويتحادثون مقارنين بين يوم ضياع غريب، وهذا اليوم وما يمكن أن يكون من أمر سليمان والعفو عنه، وفي تلك الليلة تناولوا الطعام في بيت العزيز، وقد أحسن ضيافتهم. ولما خرجوا من عنده ودعهم، والتفت إلى الأمير قائلا: «لا بد من مقابلة أخرى سرية بيني وبينك لا يحضرها أحد.» فقال: «سمعا وطاعة.»
وبعد أيام استدعي الأمير بشير إلى القلعة، فعرف أن تلك هي المقابلة السرية فلم يأخذ معه أحدا من أولاده، بل تركهم في المنزل الذي كانوا قد نزلوا فيه في جزيرة الروضة. فلما جاء إلى محمد علي انفرد به وكلمه مليا عن مقاصده في بلاد الشام، فوعده الأمير بالمساعدة، ثم أخبره أنه عما قليل ستصدر الأوامر الشاهانية بالعفو عن عبد الله باشا حاكم عكا ورجوع الولاية إليه.
ثم قال الأمير: «ومما يزيد ثقتي بنجاح مساعيكم في توسيع دائرة بلادكم اعتناؤكم بتدريب الجند على النظام الحديث المأخوذ عن نظام الجيش الفرنسي، فإن ذلك من أول دواعي فوزكم؛ إذ إن أهالي الشام وغيرهم من أهالي المشرق لا يعرفون هذا النظام، ولذلك لا يتأتى لهم الوقوف أمام جنودكم.»
فتبسم محمد علي، ثم قال: «نعم إن ذلك صحيح، ولكن لا يخفى عليك أني قاسيت في سبيل ذلك مشقات عظيمة، ولا أزال أقاسي أعظم منها لأن عساكر الأرناءوط والأتراك، قد عظم عليهم هذا التغيير، واعتبروه بدعة مخالفة للشرع الشريف فنقموا علي حتى كادوا يشقون عصا الطاعة، فجئتهم من حيث أرادوا ودبرت لهم وسيلة تريحني منهم ولا تخلو من الفائدة لي؛ وذلك أني أرسلتهم تحت قيادة ولدي إسماعيل إلى الأصقاع السودانية ليفتتحوها، فإذا استطاعوا فخيرا، وإن هلكوا أكون قد نجوت من مقاومتهم، وقد عدت بعد ذهابهم إلى إتمام مقاصدي في تدريب الجند، فأخذت من أهالي البلاد من يصلح للجندية، وجعلت لهم قوادا من الإفرنج يدربونهم على الأعمال الحربية، فإن هذا الشعب قريب من الطاعة والتدريب.»
فأعجبت الأمير هذه الحكمة، وقال في نفسه: «لا عجب إذا دانت البلاد المصرية وغيرها لمثل هذا الرجل!» وعاد الأمير من عند العزيز مسرورا. وفيما هو في الطريق تذكر سليمان، وأنه قد مضى عليه ثلاثة أيام ولم يرجع من التفتيش عن زوجته، وكان قد ألح عليه أن يأتي بها إليه ليراها.
فلما وصل إلى «السراي» في المنيل، وجد سليمان قد جاء ولكنه كان متجهم الوجه مضطرب النفس، فسأله عما فعل، فقال: «فتشت عنها يا سيدي في المدينة فلم أقف لها على خبر؛ ولذلك تراني قلقا لا أدري ماذا أفعل، وكأن الدنيا قد أظلمت في عيني.»
وأخذ الأمير يخفف عنه ويعزيه، فقال: «يا سيدي لا عزاء لي سوى معرفة مكان تلك المرأة التي كنت سببا في شقائها، فقد قيل لي إنها لم تظهر من يوم المذبحة لا هي ولا ولدها، فلم أعد أستطيع الإقامة في هذه الديار، بل صرت أفضل الموت على الحياة. إني لم أكن راغبا في العفو إلا طمعا في لقائي بها، وإلا فلا رغبة لي في الحياة وحبذا ذلك النفي، ولا حبذا هذا العفو.»
فقال له الأمير: «لا تستعظم الأمر إلى هذا الحد، وإن كنت لا تستحسن البقاء هنا فمرحبا بك نأخذك معنا إلى بلادنا ونحلك هناك على الرحب والسعة.»
فتنهد ثم قال: «لا، لا يا سيدي، فإني لا أستطيع المسير إلى تلك الأنحاء وحدي، وقد خرجت منها بملك كريم سلبته مني يد القدر، فلا أعلم إلى أين أذهب.»
صفحه نامشخص