أما أنا فحدثتني نفسي أن آخذها معي إلى مصر وأتزوج بها، ولما كلمتها في هذا الشأن لم تظهر معارضة، ولعلها خافت منا، غير أنها كانت تبكي، فقلت لها: «لا بأس عليك»، وصرت أطيب خاطرها، وأنظر إلى عمي لأرى إن كان يبدي لي معارضة فرأيته قد استحسن الفتاة، وكأن لسان حاله يقول: «إنها تصلح لك!» فأغواني الشيطان وأغويت الفتاة، وسرنا بها في ظلام ذلك الليل، ونحن نجد في المسير حتى خرجنا من حدود لبنان، ووصلنا إلى مدينة صيداء، وهناك عقدت عليها، وبمرور الزمن نسيت الفتاة أهلها وتعلقت بي.»
فقاطعه الأمير قائلا: «هل هي الأميرة سلمى؟» قال: «نعم أيها الأمير.» فعلا وجه الأمير الاصفرار رغم إرادته، وقال: «نعم إني أذكر أمر ضياع هذه الفتاة، وكنت قد أبحت دم الجاني عليها، ولكن مضى ما مضى، فأنت الآن من أصهارنا، فعسى أن تكون تلك الأميرة على قيد الحياة.»
فبكى أمين بك، وقال: «لا يعلم ذلك إلا الله، أيها الأمير، إن خداعي لتلك المسكينة لا يزال يتردد في خاطري، وقد وبخني عليه ضميري لأني لم أستطع أن أحتفظ بها؛ وذلك لأنك بعد أن مكثت في صيدا عدة أيام قيل لنا إن الفرنسيين جاءوا بجيوشهم لفتح سوريا ولكنهم لم يتجاوزوا عكا، بل رجعوا عنها بعد أن حاصروها خمسين يوما، فقد امتنعت عليهم بمساعدة الأسطول الإنجليزي الذي كان يساندها من البحر.»
فقال لي عمي: «ها هم الفرنسيون قد عادوا إلى مصر، فلا نظن عودتنا إليها ينفعنا، فالأحسن أن نعود إلى حيث كنا.» فأشرت بأن رجوعنا إلى لبنان لم يعد ممكنا لأننا سنموت هناك شهيدين. فصمت برهة حتى فاتحه أحد رجاله قائلا: «لا أظن إلا أن أهل مصر سيقابلون الغزاة بمثل ما قابلهم به أهل سوريا بعد مذبحة يافا التي ذبح فيها الفرنسيون أربعة آلاف رجل من الأرناءوط والمغاربة، بعد أن سلموا سلاحهم. أتظن أن أهل مصر ينخدعون بقول الفرنسيين أنهم مسلمون مثلهم، إن المسلمين لا يشربون الخمر ولا يكشفون عورات نسائهم، وقد علمت من أهل هذه المدينة اليوم أن جلالة السلطان بعث يحرض المصريين على إخراج الفرنسيين من بلادهم.»
أما أنا يا سيدي الأمير، فكنت ميالا إلى البعد عن لبنان ما استطعت؛ خوفا من الوقوع في شر أعمالي، ولذلك كنت أحرض عمي على العودة إلى مصر، حتى إنني قلت له: «وأيا كانت الحال، فإن سكننا قرب حدود مصر آمن لنا.»
وبعد مناقشة طويلة قر القرار على التوجه إلى حدود مصر ففرحت وفرحت الأميرة سلمى، ولم يكن شغلي الشاغل إلا التفكير فيها، وفيما يريحها؛ ولذلك كنت في قلق دائم خوفا من أن تتوطد قدم الفرنسيين في مصر، ولا نعود إليها نحن، فأكون قد جلبت الشقاء لنفسي ولها. وما زلنا سائرين حتى نزلنا في مكان بالقرب من العريش، فألقينا عصا التسيار وبعثنا جواسيسنا لاستطلاع أخبار الفرنسيين في مصر، فعلمنا منهم أن بونابرت سافر من مصر سرا إلى بلاده في أواخر سنة 1799م فاستبشرت بذلك وأسرعت بتبشير سلمى. ثم أخبرني عمي أن المماليك وأهل مصر جميعا هبوا لمحاربة الفرنسيين، ولكنهم لم يتمكنوا من إخراجهم منها، فبقي الفرنسيون أيها الأمير في مصر إلى سنة 1801م إذ جاءت الحملة العثمانية وأخرجت الفرنسيين من مصر بمساعدة الأساطيل الإنجليزية، كما تعلمون يا سيدي، فابتهجنا وهممنا بالتوجه إلى القاهرة. ثم علمنا أن البقاء في مكاننا أولى بنا؛ لأن الإنجليز قد تعهدوا أن يعيدوا مصر إلى الباب العالي، وقد سلموا ولايتها إلى وال عثماني معه أوامر سرية بقتل جميع المماليك وإبادتهم.
فتأمل سوء حالتي، وهذه المسكينة إذ ذاك، لكني لم أكن أذكر لها شيئا من ذلك منعا لاضطرابها.
وليس غرضي الآن أن أشرح لسيدي تاريخ الحوادث المصرية إذ ذاك، وإنما المقصود إظهار ما كنت أحمله من التبعة إذا أغفلت أمر تلك المرأة، فأقول بإيجاز: أنه لما ظهر محمد علي باشا الوالي الحالي من بين الجنود العثمانيين الذين جاءوا مع الحملة التي أخرجت الفرنسيين وظهر منه أنه أهل للولاية، وقع بينه وبين الوالي المشار إليه نفور، فطلب إلى أمرائنا أن يساعدوه على مقاومة ذلك الوالي، وأن يكونوا معه يدا واحدة، فساعدناه جهدنا، حتى إذا صارت الولاية إليه تنحى عنا، ولم يسمح لنا بأن نحصل على حقوقنا فاضطررنا إلى مقاومته. وكان عمي إذ ذاك في جهات الصعيد، وكنت معه، وكذلك كانت عزيزتي سلمى.
والحق أقول إن عمي الأمير الألفي فاوض إذ ذاك خورشيد باشا الذي كان واليا قبل محمد علي ليساعده على خلع محمد علي باشا، فتعهد له أنه إذا فعل ذلك يعيد الأحكام إليه. ثم فاوض في ذلك أيضا قنصل إنجلترا، وتعهد له أن يسلم القطر المصري إلى إنجلترا. وما كدنا نحقق الهدف حتى ذهبت مساعينا عبثا، فجاءت الأوامر بتثبيت محمد علي والعفو عن المماليك، فقلنا إن ما لا يدرك كله لا يترك جله، فنزلنا من الصعيد وسكنا في جهات مختلفة، أما أنا فكانت إقامتي في القاهرة.
وحسبت نفسي سعيدا لأني صرت قادرا على إرضاء سلمى فأخذت لها قصرا كبيرا، وأتيت لها بالخدم والجواري، وظننت أن الدهر قد صفا لنا بعد أن تنازلنا عن كل حقوقنا في الحكم، وما علمنا بما أعده لنا الزمان، فإن محمد علي باشا دعانا يوما دعوة رسمية إلى سرايه في القلعة احتفالا بسفر ابنه طوسون على رأس حملة لمحاربة الوهابيين، كما لا يخفى على سيدي، فحضر الجميع إلا أنا؛ فإني حين أردت الخروج من البيت بعد أن أمرت الخادم أن يهيئ لي الجواد نادتني سلمى وهي حامل، وقالت: «رويدك لا تستعجل فإني أشعر باضطراب في جسمي اليوم لأني حلمت أمس حلما مزعجا.» فقلت لها: «يا عزيزتي، إن الأحلام أوهام لا يعبأ بها.» ولكنني لم أستطع مخالفتها، فجلست بجانبها نتجاذب أطراف الحديث مدة، وأنا أتأمل ملامح وجهها ولطفها فانتبهت وقد كاد يفوتني الوقت، فركبت جوادي وقصدت إلى القلعة ، فلما وصلت إلى باب العزب من أبوابها رأيت الموكب قادما نحو ذلك الباب يريد الخروج منه، فقلت: الأصوب أن أبقى خارجا ريثما يخرج الموكب فأرافقه. فوقفت بجوادي على مدخل أمام الباب المذكور، ثم رأيتهم أغلقوا الباب بغتة وأعقب إغلاقه إطلاق الرصاص داخل القلعة، فعلمت أنها مكيدة لقتلنا، وحملني حب النجاة على الفرار في الصحراء، بدلا من المسير إلى البيت لأنقذ حبيبتي، فوثب جوادي من فوق ذلك التل وخر ميتا، فسرت ماشيا حتى خرجت من ضواحي القاهرة، وانتظرت لأعلم النتيجة، فعلمت أن دم المماليك أصبح مهدرا حيثما كانوا، فأوغلت في هذا البر حتى وصلت إلى هنا حيث التجأت إلى أمير إحدى القبائل، فهو يرسل لي كل ما أحتاج إليه من الطعام واللباس والخدم. وها أنا ذا كما تراني وقد وخطني الشيب في مقتبل العمر.
صفحه نامشخص