ولما انتهى الطعام شرعوا في عمل القهوة المشهورة عند البدو، فعمدوا إلى أجران من الخشب، وجعلوا يدقون البن فيها بمدقات يسمع لها صوت ألذ إلى سمعهم من نغم الموسيقى، فإن لهم دقا في البن المحمص بالأجران المصنوعة من خشب البطم، يؤدونه بأسلوب يطرب الأسماع ويشنف الآذان، وبعد دق كمية منه، غلاها الخدم على النار، ثم جاءوا بها إلى صاحب البيت، فسكب منها في الفنجان الأول لنفسه، ثم سكب لضيوفه مبتدئا بالأمير أمين، حتى انتهى إلى أقل رجاله. وكان الأمير أمين ورجاله قد تعودوا شرب قهوة البدو المتقنة، بما يجعلونه فيها من الأفاويه كالبهار وزهر القرنفل وحب الهان وغيرها، فانشرح صدر الأمير كثيرا، ولا سيما بعد أن سكن روعه بلقاء غريب.
وبعد تناول القهوة، رغبوا في النوم، فساروا إلى أماكن أعدت لهم، فلم يرض الأمير أمين أن ينام إلا في غرفة غريب، وقد تأملها هذه المرة جيدا فإذا هي مصنوعة من الشعر الأسود كسائر خيام البدو، ولكنه لم يرها مقسومة قسمين كما جرت عادتهم بأن يجعلوا الخيمة قسمين: قسما للنساء وقسما للرجال، فظن أن تلك الخيمة جعلت كذلك عمدا، فاضطجع. وفي الضحى استيقظ غريب ففتح عينيه فرأى أخاه أمينا عند رأسه، فكاد يذهل، فقبله أمين وابتدره بالكلام مطيبا خاطره، فقال: «أين أولئك اللصوص أولاد الحرام؟» فقال: «قد ذهبوا وليس منهم أحد هنا، فكن مطمئن البال ولا تجزع، فأنت بين يدي وأنا أخوك أمين.» قال: «أمين، أمين، أين والدي؟ وأين ذلك الجواد؟ أين والدتي؟»
وأخذ أمين يسكن روعه، ويخفف عنه حتى صحا تماما، فقال: «نشكر الله على ما جرى.» فسأله أمين عن حقيقة الأمر، فقال غريب: «بعد أن ركبت ذلك الجواد جمح بي في عرض البيداء، فلم أعد أستطيع كبح جماحه، ولكنه لم يقدر أن يرميني، فظل يعدو بي أكثر من ساعتين، يسير تارة يمينا وطورا شمالا، وبينما أنا في ذلك، إذ رأيت بعض الناس عن بعد، فجعلت أناديهم وأستغيث بهم، فجاءوا إلي وهولوا على الجواد فوقف، فأمسكوه وأنزلوني عنه، ثم تقدم إلي واحد منهم وأخذ يفتشني، ويطلب إلي أن أعطيه ما معي فرفضت، وقاومته لأني لم أرهم أفضل من الخدم، بل هم أقل بكثير من خدم أبي، فلم أشعر إلا وقد أصبت بضربة على رأسي كما ترى فسقطت، ولم أعد أعرف ماذا جرى إلا أني أرى نفسي الآن في هذه الخيمة، وكأني شربت لبنا، وها أنا ذا أراك بجانبي.»
تقدم إليه أمين وقبله وحدثه بقصته من أولها إلى آخرها، وقال في ختام كلامه: «إن الفضل الأكبر في نجاتك، إنما هو لهذا الشهم الغيور (وأشار إلى صاحب الخيمة) فنسأل الله أن يمكننا من مكافأته.» فقال غريب: «كيف؟ لو تعلم والدتي بذلك لكانت تحبه وتكرمه.» وبعد أن أتما حديثهما تقدم ذلك الرجل، وقال للأمير أمين: «هل لسيدي أن يخبرني عن حقيقة أمره، وأمر هذا الفتى!» فقال: «نعم، إننا أولاد الأمير بشير الشهابي حاكم جبل لبنان، وقد جئنا إلى القطر المصري منذ مدة قصيرة، ونزلنا بأمر العزيز في بلدة، يقال لها الفشن وراء بني سويف، ريثما يأتي جنابه من الإسكندرية لمقابلة والدي، وأمس خرجنا إلى البر المقابل للبلدة لركوب الخيل، فجمح جواد أخي هذا وتاه في عرض الصحراء، وجرى له ما سمعت، ولا شك أن والدي عندما يسمع حديثنا يود أن يراك، فهل ترافقنا إليه؟»
فسكت برهة، ثم قال: «ذلك لا يمكنني لأسباب كثيرة، لا يسعني أن أخبركم عنها الآن.» ثم سكت ثانية، وعاد فاستأنف الحديث قائلا: «لعل الأصوب أن تمكثوا عندنا بضعة أيام، ريثما يبرأ جرح الأمير غريب، ثم تسيرون في حراسة الله.»
فقال الأمير أمين: «ذلك لا يمكننا لأن والدنا الآن في انتظارنا.»
قال البدوي: «نرسل إليه من يخبره بذلك، وإذا شاء المجيء بعثنا إليه من يرافقه إلينا.»
فقال الأمير: «لا أظنه يجيء، ولا بد لنا من الذهاب في آخر هذا النهار؛ إذ تكون الشمس قد مالت إلى الغروب، ولم تعد تضر بنا، فإذا شئت أن ترافقنا زدتنا فضلا، وإلا فأخبرنا عن اسمك لنطلع والدي عليه.»
قال البدوي: «حبذا ذلك، ولكن إن جمعني الزمن بوالدكم فربما أخبره عن اسمي، أما المكافأة فأنا لم أنتظرها لأني لم أفعل ما فعلت إلا مندفعا من نفسي، دون أن أعلم إلى أي عائلة ينتمي هذا الغلام.»
ثم خرجا من الخيمة، فتأمل الأمير أمين تلك المحلة فإذا هي مؤلفة من عدة خيام، يحيط بها سهل رملي لا يدرك الطرف آخره، فازداد تعجبا من أمر ذاك الرجل، وما هو عليه من التستر، وأزمع أن يخبر والده عنه.
صفحه نامشخص