فلما سمع الأمير أمين ذلك، خفق قلبه ونادى: «أين غريب؟» فقال ذلك الفارس: «هو عندي سليم معافى، فكن مطمئنا.» ثم سار بهم مسافة ميل حتى وصل إلى مبعث ذلك النور فوجد هناك مضرب خيام منصوبا، ثم قال لهم: «لا تدخلوا جميعكم معا.» فقال الأمير أمين: «أنا الذي أدخل لأن الضائع أخي.» فأدخله إلى خيمة فيها مضجع، وبجانبه رجل جالس، فتقدم الأمير أمين سائلا بلهفة: «أين غريب؟» فقال له الفارس: «هذا هو نائم هنا.» فتقدم منه وتأمل وجهه، فإذا هو معصوب الرأس مغمض العينين، فأمسك الفارس بأمين قائلا: «لا توقظه فإنه محتاج إلى الراحة.» فقال: «ما باله معصوب الرأس؟» قال: «إنه مصاب بجرح خفيف، وقد ضمدناه وهو معافى بإذن الله.» فسكن روعه وجلس يستفهم من ذلك الفارس عما حدث.
فقال له: «هلم بنا إلى الخارج لأقص عليك الأمر»، فخرجا.
فقال الفارس: «خرجت في أصيل هذا اليوم للصيد والقنص، وفيما أنا عائد إلى هذا المكان، سمعت مناديا يستجير، فتقدمت جهة الصوت فرأيت هذا الغلام بين يدي أربعة من العربان، وقد ضربه أحدهم بعصا على رأسه، وحاول أن يجهز عليه، فصحت صيحة قوية وضربته بالسيف على عنقه فسقط على الأرض، وفر رفقاؤه، وكان بجانبه جواد فر منه، فتقدمت إلى هذا الغلام وقد أغمي عليه من الألم فحملته على جوادي، وجئت به إلى خيمتي فغسلت جراحه وضمدتها وأعطيته قليلا من اللبن فشرب وهو بين اليقظة والغيبوبة، وفرشت له وسادة لينام. وبعد أن أخذته سنة من النوم تركته، وكان قد مضى هزيع من الليل، ثم تركت الخيمة وأوصيت خادمي أن يعتني به، وخرجت أراقب حركات اللصوص؛ حذرا من أن يأتوا إلينا بعدتهم ورجالهم، ولم يمض قليل حتى أتيتم، ورأيتمونا على هذه الحال.»
وكان الأمير في أثناء تلك القصة يراقب حركات ذلك الرجل، ويحاول أن يعرفه، ولكنه لم يستطع ذلك لأنه كان ملثما، فلم يقدر أن يرى إلا عينيه، وإنما استدل من صوته على أنه ليس بدويا، وأن لسانه قريب من اللسان المصري.
فلما أتم كلامه تقدم إليه الأمير أمين وعانقه، وهتف قائلا: «لقد غمرتنا بلطفك وإحسانك، وأوليتنا جميلا لا ننساه مدى العمر فالله يجازيك عنا خير جزاء، وإني لأتجاسر عليك بسؤالي لعلي أحصل منك على جواب.» قال: «سل ما بدا لك.» فقال الأمير: «هل لك أن تعرفني باسمك، وسبب مجيئك إلى هذا المكان؛ إذ يظهر لي أنك لست من سكان البادية؟»
فتنهد الرجل وقال: «ليس هذا وقت الإجابة على سؤالك، فدعنا الآن، وتعال أنت ورجالك للاستراحة هنيهة؛ إذ يظهر أنكم أجهدتم أنفسكم في التفتيش عن ضالتكم.» قال: «نعم، إننا لم نزل نتجول في الصحراء منذ ظهر اليوم حتى وصلنا إليكم.» فقال الرجل: «هلم إذن إلى الطعام والاستراحة.»
فنهض الأمير، ولكنه لم يستطع المرور بخيمة غريب دون أن يدخل إليها، ويستطلع أحواله فرآه لا يزال راقدا كأنه ملاك، وقد كلل العرق جبينه، وبجانبه الخادم يطرد عنه الذباب، فأراد أن يقبله فمنعه الرجل خوفا من أن يوقظه. ثم نادى الأمير بعضا من رجاله وأمرهم أن يعجلوا بالسير لتبشير والده الأمير بأن غريبا معهم، فبعث معهم ذلك الرجل بعض الخدم ليدلوهم على الطريق، فساروا بعد أن أوصاهم الأمير أمين أن يخبروا أباه أنه وجد غريبا، وأنه سيكون عنده غدا إن شاء الله، فساروا طالبين ساحة الميدان.
ضيافة بدوية
عاد الأمير أمين، فجلس ومن معه من الرجال إلى المائدة، أما صاحب الضيافة فلم يجلس معهم، ولكنه وقف يخدم ضيوفه، مع أن الخدم كانوا عنده كثيرين، وتلك عادة العرب في ولائمهم.
أما المائدة فكانت طبقا كبيرا من النحاس عليه ذبيحة من الضأن وكومة من الأرز فوقها السمن الكثير. وكان الأمير أمين ورجاله يعرفون عادات البدو، فتناول الأمير قطعة من رأس الذبيحة، وأعطاها لصاحب الضيافة فعرف الرجل أن ضيفه ممن خالط البدو وعاشرهم. وكان جلوسهم جثوا على ركبة واحدة، يتناولون الطعام بأصابعهم من الأرز واللحم، ويجعلون اللقمة على شكل الكرة، ثم يدفعونها بالإبهام إلى أفواههم.
صفحه نامشخص