سيدي وملاذي
أقبل يديك ... وبعد، فلم أتأخر عن المجيء إليك مع من رجعوا إلا لأننا لم نظفر بغريب، وأنا أشعر بأني السبب في مجيئه إلى مصر؛ ولذلك آليت على نفسي ألا أرجع إلا بعد أن أجده، فألتمس منك المعذرة، ولا تظن أني خالفت أوامرك، فإني لا أستطيع العودة إليكم بدون أخي غريب، وقد أبقيت معي عشرين فارسا من رجالنا تطييبا لخاطرك، والسلام.
ولدك المطيع: أمين
فالتفت الأمير إلى حامل الكتاب، وقال له: «أين تركتم أمينا؟» فقال: «يا سيدي إننا بعد أن تركناكم انقسمنا قسمين: قسم سار شمالا وقسم سار جنوبا، واتفقنا على أن نلتقي عند الغروب في مكان متوسط فيه ماء لنعلم نتيجة سعينا، فسرنا نحن نحو الشمال وبحثنا طويلا، فلم نقف لغريب على أثر، فعرجنا نحو الملتقى، فالتقينا بالأمير أمين ورجاله، فسألناهم عما كان من أمرهم فقالوا إنهم لم يروا أحدا، وإنما مرادهم أن يقصدوا قبيلة بني واصل في هذا المساء، وهي بالقرب من مكانهم، إذ ربما كان الجواد قد قصد تلك الجهة لأن هذه عادة خيول العرب. فقال لنا الأمير أمين: «الأصوب أن تسيروا وتخبروا والدي وتطيبوا خاطره.» ودفع إلينا بهذا الكتاب، فأتينا به إلى سيادتكم امتثالا لما أمر.»
اضطرب خاطر الأمير بشير عند سماع ذلك وأطرق هنيهة، ثم قال: «خير لنا أن نتكل على المولى القدير، وهو قادر أن يرد ضائعنا ويحفظنا.» فسأله الكاشف إذا كان يريد العودة إلى البلدة للمبيت تلك الليلة، فقال الأمير: «كيف نبيت نحن في القصور، وأولادي في الصحراء يتعرضون للخطر الشديد، لعلنا نرى في منتصف الليل أن نسير لنجدتهم، فلنبق هنا لنرى ما يكون من الأمر.»
وبعد تناول العشاء، اجتمع الأمير بشير وولده خليل في خيمة، فشعرا بأن الدنيا كلها ظلام لتغيب الأميرين أمين وغريب، وعدم الاطمئنان على سلامتهما، فجلسا يتحدثان في ذلك الشأن.
الأمير «أمين»
أما ما كان من أمر الأمير أمين، فإنه بعد أن استراح هو ورجاله عند ذلك الماء، وكان الليل قد أظلم، تشاور مع رجاله في الأمر فإذا هم متشجعون جميعا إلا الخبير، فإنه تغيرت أحواله ووقع في خوف عظيم، وتقدم إلى الأمير أمين قائلا: «ليعش رأس الأمير، إننا الآن معرضون للخطر، وقلما جاء جماعة إلى هذا المكان ونجوا؛ لأن عرب هذه الجهات فرع من عرب العبابدة المشهورين، وهذه القبيلة التي هي أقرب إلينا تعرف بقبيلة بني واصل، وهي على جانب عظيم من البأس. وسيادتك تعلم أن هؤلاء البدو لا يؤدون عملا، وهم يعيشون بالنهب والسلب، ينامون نهارا، ويسرحون ليلا، وإني أضن بك أن تلقي بنفسك في هذا الخطر العظيم.» فالتفت إليه الأمير أمين قائلا: «إني عالم بكل الأخطار، ولست أجهل شيئا منها، وإن كنت تراني شابا فقد خبرت الناس، واختلطت بأمثال هؤلاء كثيرا في جهات الشام، وإنما أطلب إليك أن تتشجع وتصدقني الخدمة.» ثم التفت إلى رجاله وقال لهم: «وكيف أنتم؟» فقالوا: «نحن عبيدك، وأرواحنا رهن أمرك، ومستعدون جميعا أن نذهب فداء الأمير غريب.» فشكرهم ثم رتب مسيرهم، وأخبرهم بأنه يجب أن يحافظوا على مراكزهم بقرب بعضهم البعض.
ثم ركبوا خيلهم وساروا في ظلام الليل قاصدين قبيلة بني واصل، وقد شهروا سلاحهم للدفاع، وجعلوا في مقدمتهم رجلا يحمل مشعلا متقدا استئناسا بالنور وإيهاما لمن يراهم بأنهم من أهل ذلك البر، فساروا خببا في ذلك الليل، وهم لا يشاهدون حولهم إلا أفقا مظلما، لا يتخلله شيء من العمارة.
وبعد مسير نحو ساعتين، ظهر لهم شبح كأنه فارس سائر على مقربة منهم نحو اليمين، فأمر الأمير أحد رجاله أن يقتفي أثره ويسأله عن أمره، فسار وعاد من فوره يقود جوادا ليس عليه إلا السرج، فلما رآه الخبير صاح بأعلى صوته: «هذا هو جواد الكاشف، فأين الغلام؟» فوقف الجميع وتقدم الأمير أمين إلى الجواد وتأمله فتحقق من قول الخبير، فقال رجل منهم: «الأرجح أن الغلام سقط عن ظهر الجواد.» فقال الأمير أمين: «إن غريبا لا يقع عن ظهر الجواد، فقد عرفته فارسا منذ كان أصغر من ذلك في أرض أكثر وعورة. فما رأيكم؟»
صفحه نامشخص